مئوية كيسنجر... أميركا الخيّرة والشريرة

مئوية كيسنجر... أميركا الخيّرة والشريرة

لا تماثل المسيرة العامة المعاصرة للسياسة الخارجية الأميركية سيرة أي شخص، مثلما تطابق السيرة الذاتية والمهنية لمستشار الأمن القومي ووزير الخارجية الأميركي الأسبق هنري كيسنجر، الذي احتفل بذكرى ميلاده المئة أواخر الشهر الماضي.

فخلال هذا القرن "الطويل"، صعدت الولايات المتحدة كقوة سياسية واقتصادية وعسكرية وثقافية عالمية، بشكل استثنائي، مختلف تماماً عن سياقات وسرديات وآليات بروز وانزواء الأمم الأخرى في مسار التاريخ، كذلك كانت حكاية كيسنجر، الشخصية والمهنية والفكرية.

هذا التطابق بين السيرتين، يقدم أداة مناسبة لخلق وعي معرفي وبارد حول "الإمبراطورية الأميركية"، بمختلف أوجهها، المتناقضة غالبا، لكن الممسكة بمختلف الخيوط دوما: الواقعية والخيّرة والمبادرة من طرفٍ، و"الشريرة" والمهيمنة والعنيفة من طرفٍ آخر. فمثل الولايات المتحدة نفسها، تقدم القصة الذاتية والموضوعية التي شغلها كيسنجر مؤشراً واضحاً على تهافت تلك المقولات المقتضبة والأفكار الجاهزة والعناوين المغلقة في فهم وإدراك الولايات المتحدة، بمختلف أوجهها وهوياتها وأدوارها ومساهماتها وحضورها العالمي خلال هذا القرن.

إن الدولة الصاعدة في الربع الثاني من القرن العشرين، استنكفت طويلاً مثلاً في حسم الصراع الأوروبي/ العالمي في مواجهة النازية، وكانت قادرة على الحسم، لكنها فضلت إنهاك القوى العالمية التقليدية بعضها البعض. هي نفسها استقبلت يافعاً مثل كيسنجر وعائلته، مثل ملايين آخرين، من الذين كانوا "ضحايا" النازية والرؤية الاستراتيجية الأميركية المتفرجة وقتئذ. منحتهم رعايتها وخيرها العام، فتحت لهم أبواب مختلف مؤسساتها، المعرفية والسياسية والعسكرية، حتى أكثرها سرية، دون أية التفاتة إلى اختلاف هوياتي، أو حساسية وطنية، أو تباين لغوي، أو تنابذ ثقافي، أو عنصرية عرقية. فكيسنجر الفار من نير النازية الألمانية، عاد إلى بلاده كضابط في الاستخبارات الأميركية بعد سنوات قليلة جداً، مكلفاً بتشكيل المجلس المدني لمدينة كريفيلد الألمانية.

حسب السياق نفسه، فإن الولايات المتحدة التي شيدت انتصاراتها وبزوغها العسكري بناء على إعادة استخدام الخبرات والطاقات المعرفية الفارة إليها من مختلف حواضر العالم القديم، الأوروبية تحديداً، مستغلة مناخات الحربين العالميتين، مقابل ما تملكه من حياد وسلام ونهضة داخلية. كانت أيضاً ذلك العالم الذي تمكن فيه شاب "غريب" مثل كيسنجر أن يغادر صفوف الجيش، ويكمل دراسته الأكاديمية في أعمق العلوم الإنسانية "فلسفة التاريخ"، متناولاً ومشتبكاً مع علماء بحجم إيمانويل كانط وأرنولد توينبي وأوسفالد شبينغلر. فأميركا التي كانت القوة العسكرية العالمية الماحقة، بعد ضربتي القنبلة الذرية، كانت أيضاً "عالم الأحلام"، التي يستطيع اليافعون فيها نيل كل ما يرغبون، في أي قطاع كان، وسيرة كيسنجر أوضح دليل على ذلك.

خلال هذا القرن "الطويل"، صعدت الولايات المتحدة كقوة سياسية واقتصادية وعسكرية وثقافية عالمية، بشكل استثنائي، مختلف تماماً عن سياقات وسرديات وآليات بروز وانزواء الأمم الأخرى في مسار التاريخ، كذلك كانت حكاية كيسنجر، الشخصية والمهنية والفكرية

ومثلما شيّد كيسنجر بنيته الفكرية ورؤيته السياسية الجوهرية على "الواقعية الدائمة"، داخلياً وعلى مستوى العالم، معتبراً التوافق والقبول المتبادل بين الأطراف المتباينة أساساً أولياً وهيكلاً دائماً لأية شرعية، دون أية نزعات أخلاقية أو آيديولوجية مثالية أو ثورية قد تقود السياسة، مثلما كتب تفصيلاً في رسالته لنيل شهادة الدكتوراه. كانت الولايات المتحدة كذلك تماماً، طوال مسيرتها في هذا القرن. كياناً وسياسة خارجية غارقة في الواقعية البحتة، غير مبالية بأية نزعة آيديولوجية. 


لقد قامت الولايات المتحدة بمناهضة النازية الألمانية وحليفتها الفاشية الإيطالية والعرقية اليابانية، لكنها أيضاً تعايشت مع شمولية ستالين السوفياتية وخلقت توافقات مع الصين الماوية، كانت هذه الأخيرة، ولغير صدفة، واحدة من مبادرات كيسنجر نفسه، الكثيرة. وفي المكان الذي دعمت فيه الولايات المتحدة دولة مثل إسرائيل بشكل مطلق، عادت وقبلت بتوازن ما بعد حرب العام 1973، وخضعت لشروط الملك فيصل واستراتيجية الرئيس السادات، وأجبرت إسرائيل على إعادة سيناء إلى مصر، التي كانت تشكل ثلثي مساحتها وقتئذ، وأيضاً لغير صدفة بهندسة من كيسنجر. ثمة أمثلة لا تُعد، كانت الواقعية تقود الاستراتيجية الأميركية، كقوة واعية ومعترفة بتوازنات العالم من حولها وحول حلفائها العالميين. تلك الواقعية التي أوقعتها أكثر من مرة في براثن القوة والقسر، لكنها أيضاً الواقعية التي دفعت الولايات لأن لا تكون قطعية و"انتحارية" في فهمها ووعيها للعالم، مثلما كانت دول وكيانات عالمية أخرى.
 

ناهضت الولايات المتحدة النازية الألمانية وحليفتها الفاشية الإيطالية والعرقية اليابانية، لكنها أيضاً تعايشت مع شمولية ستالين السوفياتية وخلقت توافقات مع الصين الماوية

على المنوال نفسه، وكما قاد كيسنجر مبادرات عالمية لإحلال السلام، ولو بعد مراحل وأنهارٍ من الدماء، مثل دوره في إنهاء حرب فيتنام ومبادرة الانفتاح على الاتحاد السوفياتي وتبريد الصراع العربي الإسرائيلي، فإنه كان الشخصية السياسية المتهمة عالمياً بالمسؤولية عن كثير من الفظائع الإنسانية على مستوى العالم، من دعم الجيش الباكستاني في حربه ضد المدنيين في بنغلاديش عام 1971، مروراً بالتخلي عن الحركة القومية الكردية في العراق عام 1975، بعد تنظيم صفقة الشاه مع صدام حسين، وليس انتهاءً بالانقلابين الدمويين في دولتي تشيلي والأرجنتين. 


كذلك كانت الولايات المتحدة خلال هذا القرن، قوة تحررية وداعمة لكثير من الأمم والشعوب المضطهدة، وأكبر مدافعة عن قيم الحرية، ومشيدة لأمتن المؤسسات العالمية المراقِبة لمنظومات الحريات الدينية وحقوق الإنسان؛ لكنها أيضاً الكيان الذي ارتكب أكبر الفظائع في بقاع لا تُعد. 


يمثل كيسنجر الولايات المتحدة أكثر من أي شيء آخر، بكل أوجهها. أوليس كيسنجر الذي أسس مجلة معرفية/فلسفية في أوائل الخمسينات، وضم إليها النخبة الثقافية على مستوى العالم، مثل: حنة أرندت، وليليان سميث، وريمون آرون؛ لكنه، وفي ذلك الوقت نفسه، وبينما كان يدير ندوة هارفارد الثقافية والمعرفية العالمية، فإنه كان يتجسس على كل الحاضرين والضيوف من زملائه، لصالح مكتب التحقيقات الفيدرالية ووكالة الاستخبارات الأميركية!


إنه كيسنجر، إنها أميركا، كل شيء في الوقت عينه.
 

font change