الحيوان في الرواية المغربيّة

استعارة تنهل من التراث لترسم الحاضر

Brett Ryder
Brett Ryder

الحيوان في الرواية المغربيّة

لافتٌ هو الحضورُ المُطّردُ للحيوانِ في الرّواية المغربية، إذ تستأثرُ غوايتهُ بالعناوين أوّلا، وبالموضوعات ثانيا، وكذا الشّخصيّات الروائيّة ثالثا، كأنّما الروائيّون المغاربة الذين فَتَنَهُم ارتيادُ هذه المنطقة المريبة والسّحريّة في آن، ورثوا هذا التمثل عن صاحب "الحمار الذّهبيّ" الكاتب والمفكّر المغاربي "لوكيوس أبوليوس"

مُختصرُ الحكايةِ أنّ "لوكيوس" لمّا سمع بأعمال السّاحرة "بانفيلا" أثناء سفره إلى مدينة "هيباثا"، أغواه الأمر بالاكتشاف، فقرّر النزول في بيت زوجها البخيل "ميلون" بدعوى أنه يحمل له رسالة كي يقيم عنده مؤقتا، وَلَمْ يتردّدْ في أن تودّدَ إلى الخادمة "فوتيس" التي أمست معشوقته، كي تكون دليله إلى مختبر "بامفيلا" السّحري ، وهو ما تأتّى له حين أطلعته على عملية تحوّل لـ "بامفيلا" من امرأة إلى بومة بعد أن دهنت جسدها بمرهم. طالب "لوكيوس" الخادمة بعلبة المُرهم كي يتحوّل بدوره إلى طائر/ نسر، فأخطأت "فوتيس" التقدير، وجاءته بعلبة ثانية، فلما دهن جسده تفاجأ بتحوّله الصّاعق إلى حمار بدل طائر، ومن هذا المنعطف السوداويّ تبدأ مأساته، حيث سيتكبّد في رحلته الماراثونية أبشع الويلات من أجل أن يسترجع شكله الإنساني.

جمع نصُّ "الحمار الذّهبي" بين ثلاثة خصّصيات قلّما اجتمعت في كتاب، إذ صاغ عنوانه باسم حيوان يسترعي الانتباه، وجاء موضوعه مُفْردا عن الحمار ذاته الذي تحوّل إليه خطأ "لوكيوس"، فبالقدر الذي تعدّدت فيه تيماتُ الكتاب وتشعّبت أساليبه وفنونه (الترحال، الشعر، الفلسفة، المعمار، الأساطير، الجنس و...إلخ) لم ينسلخ علنا وإضمارا عن ترجمة شقاء الحيوان في المجمل، وما يعانيه مقابل سطوة الإنسان العاقل، وبذا فتخييلُه السّردي تمحور حول الحمار أيضا كحيوان وليس "لوكيوس" المتحوّل وحده.

وأمّا ثالث الكانون، فالحيوان/ الحمار ذاته ما اضطلع بمركزية في السّرد كشخصيّة روائيّة ولو على نحو مزدوج، إذ هو جسم حمار مسكون بإنسانٍ.

 كأنّما الروائيّون المغاربة الذين فَتَنَهُم ارتيادُ هذه المنطقة المريبة والسّحريّة في آن، ورثوا هذا التمثل عن صاحب "الحمار الذّهبيّ" الكاتب والمفكّر المغاربي "لوكيوس أبوليوس"

زفزاف والثعلب

لعلّ أَلمع رواية مغربيّة حديثة تخطر بصدد هذا المنحى من التوظيف الجماليّ، السّاخر والمثير للحيوان، هي "الثّعلب الذي يظهر ويختفي" (1989) للروائي محمد زفزاف، رواية حول شخصية الأستاذ "علي" الذي يزور مدينة الصّويرة، عاصمة الهيبيّين، وخلال مقامه متسكّعا في المدينة، يجدُ نفسه مُقْحَما بالصّدفة في عوالم هؤلاء، تتأرجح لحظاته المخدّرة ما بين هذيان الحشيش والجنس والموسيقى، راصدا العالم بعبث، ومُختِبرا تجربة وجودية لا تخلو من مخاطرة، تنتهي به هاربا على متنِ شاحنة، عائدا إلى الدّار البيضاء من حيث أتى، بعد أن عاش ليلة فادحة في منطقة "الذيابات" مع شرذمة من الهيبيّين العراة ومعظمهم أجانب، حين أعدّ لهم نباتا مهلوسا اسمه "الغيطة" في إبريق،مدّعيا معرفة الوصفة، فما إن تذوقوا ورشفوا حتّى خدّرهم النوم، وبعدئذ هبّوا وانتفضوا وقد زَوْبَعَهُم الجنونُ المُحقّقُ... ولاحقا ذاعَ خبرُ العثورِ على جثث ثلاث أجنبيّات في الغابة ذاتها.

روايةُ "الثّعلب الذي يظهر ويختفي" للروائي محمد زفزاف استأثرت هي الأخرى بالحيوان المسترعي للانتباه في مُعلنها البِكر، وهو الثّعلبُ الذي يتصدّر عنوانها المثير، لا مجازا كما سنكتشف في تضاعيف الحكاية وحسب، بل على نحو غرائبيّ أو عجائبيّ أيضا، فإن كان الثعلب رمزيّا هو شخصية "علي" الماكر نفسه، الذي يبدو غريب الأطوار لمن حوله، بالنظر إلى خطابه العبثيّ، متفلسفا بسخرية على نحو دائم، متعاملا بمكر مع الآخرين، ولا يكاد يتورّط حتّى يُحسِن التخلّصَ بألمعيّة حالة مزمنة تلو أخرى في مجرى تشابك الوقائع المريبة، وبذا هو خبيرُ فنِّ حياة وصعلكة، ميزتُه الفارقة معرفة متى يظهر ومعرفة متى يختفي. هذا شيءٌ له منحاه الواقعيّ والمجازيّ كما هو ملمعٌ إليه آنفا، والشيء الآخر الذي يتوتّرُ ويتحوّل إلى اشتباهٍ فانتازيّ، هو الذّيل الذي ينبت لـ "علي" بين الفينة والأخرى، وهو ذيل ثعلب، فيتأرجحُ تأويل الحادثة المدهشة ما بين الإستعاريّ والعجائبيّ في آن. أن ينبت لـ "علي" ذيلُ ثعلب قد تكون قصديّته التأكيدُ استعاريّا وسخريّة على اللحظة الطّارئة التي يتحوّل فيها إلى ثعلب، إمّا إثرَ إغواء جارف يسيلُ له لعابهُ، أو إِثر وضع اشتباه خطيرٍ آن عليه الانفلات من فخّه، وبالمقابل لا يعدم التأويل الأوّلُ العجيبَ الثّاني، وهو أنّ ذيل الثّعلب نابت فعلا إمّا على سبيل التّخييل الذي يراه "علي" وحده لا غيره (بتأثير من تدخين الحشيش أو عدمه الأمر سواء)، أو ذيل الثّعلب نَابتٌ فعلا على سبيل الجدّية آنا كما يشعر به حقيقة أو يراه "علي" دائما، وليس عبثا كما يبدو آنا.

كلاهما يتبادلان الأدوار، عليّ والثعلب، إنّهما محض شخصية مزدوجة، تارة يغدوان قرينا، فيتناغمان في صداقة ويتحاوران، وتارة يتطابقان حدَّ التوحّد، ولا ينفصلان إلا عندما يخذلُ الثعلب عليّا في مواقف حرجة.

هكذا يحضرُ الثّعلبُ في الرّواية على نحو مزدوجٍ، عنوانا وشخصيّة روائيّة.

Brett Ryder

بلاغة الوحيش

ومن الروائيّين المغاربة الذين باتت عنونة نصوصهم السردية ملازمة لبلاغة الوحيش، الكاتبُ محمد الهرّادي، بدءا برواية "أحلام بقرة" 1988، "ديك الشمال" 2001، "معزوفة الأرنب" 2022، بل إنّ مجموعة قصصيّة يتيمة له، مَهَرَ عنوانها أيضا بمخلبِ قطّ: "ذيل القطّ" قصص 1990.

إن كان البطل قد تحوّل رمزيّا إلى بقرة في رواية "أحلام بقرة" متأرجحا بين الطريقة الأبولوسيّة والكافكاوية، ففي رواية "معزوفة الأرنب"، لا يحضر الأرنب كشخصيّة فاعلة، ولا يكادُ وجودهُ الفعليُّ ينقشعُ كحيوان إلا مرّات معدودة في تضاعيف متن السّرد، وأكثر عندما يلمحه السّارد يتقافز منفلتا من فتاتين على العشب إلى أن يختفي في مختتم الرواية التي يذيّلها السّارد بالسؤال الماكر: أين الأرنب الأبيض؟ وهو السؤال ذاته الذي سيتساءله القارئ المفتون بالعنوان، وقد تعقّب أثر الأرنب في حشائش النّصّ دون أن يعثر له على حقيقة دامغة. لذا  فإيهاميّته تعادلُ بلاغة الانفلات في الرواية ذاتها، حيث تدبيرُ زمنها موسيقيٌّ كمعزوفة منسوبٌ إيقاعهُا للأرنب، وتدبير وقائعها موارب، متقافز، وثّاب مثل الأرنب نفسه، وأمّا أن يكون الأرنب أبيض بالضّرورة في تماه مع "المناشفة البيض" الذين يتقصّى "إدريس" أطيافهم ومشاربهم في الرباط، بعد أن لاذوا إليها هربا من مضاعفات الثورة البلشفيّة.

 وبالنّظر إلى أنّ البطل هنا قابعٌ في سرداب الأرشيف بحكم المهنة، فيمكن أن ينسحب على (أرنبيّته) معنى "المسرب" الذي أسبغهُ جيل دولوز على حيوان كافكا.

أن ينبت لـ "علي" ذيلُ ثعلب قد تكون قصديّته التأكيدُ استعاريّا وسخريّة على اللحظة الطّارئة التي يتحوّل فيها إلى ثعلب، إمّا إثرَ إغواء جارف يسيلُ له لعابهُ، أو إِثر وضع اشتباه خطير

معجم الحيوان

كذلك دشّن الروائيّ "يوسف فاضل" أفقه الروائيّ بأوّل نصّ تحت عنوان "الخنازير" 1983، وآلت مجمَل  عناوين رواياته اللّاحقة في مجرى الألفيّة الثالثة، ملازمة لمعجمِ الحيوان، العنوان تلو الآخر، "قصة حديقة الحيوان" 2008، "قطّ أبيض جميل يسير معي" 2011، "طائر أزرق نادر يحلّق معي" 2013، و"حياة الفراشات" 2020، وجديرٌ بالذكر أنه صدر له نصّ مسرحيّ بعنوان "جرّب حظك مع سمك القرش" 1987.

إن كانت رواية "قطّ أبيض جميل يمشي معي" قد رسمت أفق إواليةِ القطِّ عبر مُعلَنِ بدايتها وهو مقتطفٌ قرآنيٌّ من سورة "ص"، الآية(16): "وقالوا ربّنا عجّل لنا قطّنا قبل يوم الحساب" والمقصود بالقطّ هنا الكتاب، وبذات المنحى جعلتْ روايةُ "طائر أزرق نادر يحلّق معي"، من الطّائر - الذي زار زنزانة الطيّار "عزيز" وآنسه في وحشةِ مكابدات الاعتقال المزمنة-المصدرَ الاستعاريَّ لعنوانها ومُجمل تجربة الطيّار قبل وعند الاعتقال، فبالمقابل أفردت هذه الرّوايةُ الأيقونةُ للكلبة "هندة" مساحة الحكي عن نفسها والآخرين، كشخصيّة روائيّة فاعلة، شاهدة هي الأخرى على تاريخ القصبة ومصائر معتقليها بين من دُفِن حيّا وبين من قضى نحبه من فرط التعذيب.. إلخ

حَيْونَةُ العناوينِ عند "يوسف فاضل" إيهاميّةٌ إذا ما قوبلتْ بموضوعات رواياته، أشبه ما تكون بلعبة يستدرجكَ إلى متاهتها بغوايةِ الوحيشِ، وعندما تتعقّبُ أثرَ القطِّ أو الطّائر سيّان، لا تجد سوى ظلّه المنفلت، أو سرابه الآفل، ومع ذلك لا تخيب في أن يكون ذَانِكَ هما دليلكَ نحو ما يفاجئك به السّرد من التيه في الأزمنة الحارقة للتجارب الإنسانية التي اصطدمتْ بالسلطة، أو تماسّتْ مع بروقها اللاسعة، فكانت المضاعفات السوداوية لمصائرها فادحة.

 

ممرّ الصفصاف

ومن الرّوايات التي تفرّدتْ بموضوع الحيوان وتخييله، "ممرّ الصفصاف" 2014 لأحمد المديني، حتّى إنّ شرارة كتابتها بدأت بنظرة من كلب، وبهذا يحنثُ الكاتبُ قسَمهُ المرفوعُ آنفا بأنّ رواية "رجال ظهر المهراز" 2007 السّابقة، ستكون الأخيرة، معتزلا بذلك الكتابة إلى لا رجعة، وأمّا أن يعود إلى الكتابة الروائية بعد القطع معها، وبسبب كلب، ويا للطرافة والغرابة في آن، فاستثناءٌ بمثابة كفّارة.

تنصفُ الروايةُ "الكلب" جاعلة منه بطلا محوريّا شاهدا على تضاعيف مأساةٍ أحدُ فصولها المتعدّدة، انتزاعُ أرضٍ من مالكيها لصالحِ مشاريع عقارية لقيطة، فيرويها "الكلب" بطريقته أمينا بلباقة ومُفصِّلا ببراعة، أبلغ بكثير من شهادات الشخصيات الآدمية التي تشاركه الحكي بتعدّدٍ متوازن، وبذا زاوجت "ممر الصفصاف" في استراتيجيات سردها بين منظورٍ إنسانيّ، ومنظورٍ حيوانيّ، لا غنى عن كليهما لكي تستقيم الرّؤية، والمعادلة.

حَيْونَةُ "ممرّ الصفصاف" كقيمةٍ ومعنى، لا تقتصر على الشخصيّة الروائية التي يضطلع بها الكلب كفاعلٍ خلّاقٍ في مجرى الوقائع وتشابكها، إنّها تتخطّى ذلك إلى قَلْبِ المعادلة برمّتها التي يصير فيها عالم (بني كلبون)، أصدق وأوفى من عالم (بني البشر).

Brett Ryder

سيرة حمار

وأمّا رواية "سيرة حمار" 2014، لحسن أوريد فقد تناصّتْ حدّ التطابق مع "الحمار الذّهبي" للوكيوس أبوليوس المُلمع إليه سالفا، وواءمت بين مكابدات شخصية "لوكيوس" في زمن سحيق، وبين مكابدات شخصيّة "أزربال ابن بوكود يوليوس" في زمن لاحق ينسحب على الرّاهن، مستعيرة بسخرية كرنفاليّة قناع الحمار، لتشخيص الاختلال الحضاري، صارخة في الإفصاح عن ألعبان السلطة، ورسم خرائط المعضلة من منظورات يتعالقُ  فيها السياسيّ بالفلسفيّ، والفنّي بالعلميّ، والعرقيّ بالتاريخيّ...

ثمّ تضاعفُ رواية "هوت ماروك" 2016 لياسين عدنان من صيرورة الحيوان تخييلا، أشبه ما تكون بمزرعة حيوان مغربيّة، مُعَادِلة بدعابة سوداءَ المحفل السياسي الكاريكاتوري، ومشرّحة مناطق التّلفيق المزمن في جسم الرّاهن المتداعي، بمباضعِ السّخريّة اللاذعة، وهي محض كوميديا حيوانيّة، جعل لكلّ  شخصيّة من شخوصها الرئيسة قرينٌ حيوانيٌّ يطابقهُ أخلاقيّا ووجوديّا، فرحّال العوينة يماثلهُ الجرذُ المتخفّي في ذيل سنجاب، وحسنيّة زوجته قنفذة، وحليمة أمّه بجعة، وعبد السّلام سرعوف، والطالبة عتيقة بقرة، والطالب أحمد ضبع، والطالب عزيز سلوقي، والصحافي نعيم مرزوق حرباء، وأنور ميمي رئيس التحرير نمس.. وقِسْ  على ذلك من القرد والفيل.. إلخ. حتى أنّ الأحزاب الرّديئةُ تدمغها الرواية بوصماتِ الحيوانيّة التي تُحيل على وجوهِ وطبائعِ انتهازيّتها، مثل حزب (الأخطبوط)، و(الناقة)، و(البلشون).. إلخ.

إذ تُشرّح "هوت ماروك" الفساد المستفحل في الزّمن السياسي والإعلامي، متقصية التحولات الاجتماعية الفصاميّة بين حقبة سنوات الرّصاص والآني، وذلك توسُّلا بمسوخِ الحيوان، فهي بالتّوازي، ترسمُ خرائط مدينة مراكش المتشابكة، متأرجحة بين الكرنفاليّ والأبيسوديّ.

 

الغيلم

رواية متفرّدة أخرى استأثرت بتوظيف الحيوان على نحو لاذع ومثير، هي "ثورة الأيّام الأربعة" 2021 لعبد الكريم جويطي، من خلال الغيلم "سرمد"، الذي يضطلع بقيمة شخصية محوريّة في مجرى الوقائع اللّاهبة، وهو الآخر لا يقفُ مَسْرَدُ الرواية الملحميّة عند حدود المُتحدّث عنه كحيوانٍ من لدن السّارد ومنظوره الإنسانيّ، بالأحرى من صديقه الذي عثر عليه مصادفة وتلقّفه معه ليرافقه في رحلة ثورة الانقلاب على المخزن، بجبال الأطلس المتوسط، ولكن أيضا ينتزعُ مساحتهُ المركزيّة كشاهد فعلي على ما يحدث من جهة، ومن جهة ثانية يؤشّرُ حضورهُ اللااعتباطي على وظيفة رمزيّة بليغة يتحوّل إثرها إلى شخصيّة مفهوميّة بالمعنى الدّولوزيّ، إذ الغيلم سرمد يمثّلُ استعاريا منظومةإنسانيّة نَعَتَهَا المؤلّفُ بـ: (السّرمدويّون)، فالمُصلِح وفق فلسفة الرواية محضُ سلحفاةٍ، وأمّا الثوريُّ  فأرنبٌ يريدُ قطعَ مسافة كبيرة بقفزة واحدة، تلك هي حكمة البطء المثمر بحسب توقيتِ الزّمن الإصلاحيّ، مقابلَ  هلامية أو طيش  السرعة القصوى الثورية غير محمودة العواقب.

وكأنّ المعادلة الساخرة باتت في الرواية: ثورة بلا "سرمد" لا يعوّل عليها، إذا ما استعرنا لازمة رسالة ابن عربي الشهيرة.

ولأنّ الرواية رباعيّة الأجزاء كما هو معلنٌ، على مقاس الأيام الأربعة الثورية، فالغيلم "سرمد"يوازي في ثقله الوازن في كفّة، معظم الشخصيات الإنسانية الأخرى في كفّة أخرى، ولعلّه وفق استراتيجيات الحكي والتّخييل من ستكون لهُ ريادةُ رسم مساراتها النّهرية ومآلات مصائرها المتشعبة، إذ القارئ -ولا بدّ أن يكون عدّاء يحترفُ سباق المسافات الطويلة، ممسوسُ  الترقّب، متوقّدُ الشّغفِ  بتعقّبِ حكايته الأثيرةِ ضمن غابة الحكايات الأخرى، الموازية أو المتقاطعة في آن.

يتخطّى الحيوانُ نسقه كما ألفناه في عجائبيّات المتون التراثية، ليضطلع بقيم ومعاني جديدة في الرواية المغربيّة، ذات إبدالات أساسية لمفهومه واستراتيجيات توظيفه المغايرة

قنفذ الأشعري

وتُمَاثِل هذا المنحى روايةُ "من خشب وطين" 2022 لمحمد الأشعري التي يحضر فيها القنفذ كشخصيّة روائيّة أيضا، ولا يقصر وجوده الفاعل من منظور السّارد (ابراهيم)، بل يستوفي حقّه في الحديث عن نفسه، من منظور ذاته أيضا.

وفضلا عن كونه موضوعا للتّخييل، يجاورهُ في ذلكَ، الحضور الفاتن للنّحل وعوالمه المدهشة. هكذا يفتلُ السّردُ شبكتهُ من خيطي سيرورتين: سيرورة الصداقة مع القنفذ الذي يُحدث تحوّلا جذريا في مصائر حياة البنكيّ (ابراهيم)، وبالقدر نفسه سيرورة الصداقة مع النّحل الذي يتشكّل درسا إيكولوجيّا مذهلا، يرتهنُ إلى ضرورةِ وجودهِ وعمله توازنُ الكوكب برمّته، وكلا السّيرورتين تُفضِيان إلى الأكثر تشعّبا وتداغلا: الغابة، وهي الملاذ الذي اختاره ابراهيم المتخلّي عن وظيفته في البنك، وعن إقامته في المدينة المتغوّلة، وعن زوجته على سبيل الطّلاق.

مَسْرَدُ الحيوانِ لا يقتصرُ على هذه المنتخباتِ الرّوائيّة على سبيل المثال لا الحصر، بل ثمّة أعمالٌ روائيّة أخرى آهلةٌ به، إنْ مشحوذا كعلامةٍ مسنونة كما في رواية"عين الفرس" 1988 للميلودي شغموم و"حصان نيتشه" 2003 لعبد الفتاح كيليطو... أو توظيفا ساخرا من منظور اجتماعيّ تشريحيّ كما في رواية "شارع الرباط" 2002 وبالذّات "كلب القايد"لنور الدين وحيد، وتوظيفا ساخرا من منظور فلسفيّ، دستوبيّ كما في رواية "مقبرة الفيلة" 2013 لمصطفى الحسناوي... أو استعمالا خارقا فانتازيّا كما في رواية "العشاء السّفلي" 1987 لمحمد الشركي و"المرأة ذات الحصانين" 1991 لعبد الله زريقة... إلخ.

وفي تحصيل الملاحظات يتخطّى الحيوانُ نسقه كما ألفناه في عجائبيّات المتون التراثية، ليضطلع بإواليات وقيم ومعاني جديدة في الرواية المغربيّة، ذات إبدالات أساسية لمفهومه واستراتيجيات توظيفه المغايرة: عنوانا وتخييلا وشخصيّة روائيّة.

font change

مقالات ذات صلة