شباب عرب يروون سيرتهم مع الأمل

في انتظار ديلفيري لا يصل

شباب عرب يروون سيرتهم مع الأمل

غزة: يبدو الأمل في الحياة الإنسانية طريقا يعكس رغبات الذين يأملون في تحسين واقعهم، وملجأ يعطي الشعور بالأمان لمن أحاطتهم المخاوف والأحداث المؤلمة.

يرى الفيلسوف أفلاطون في محاورة "طيماوس" بأن "الأمل ساذج" بما يحمله من تغييب للسلّم العقلي في تحليل الأمور، كما وتظهر في نفس الحوارية، فكرة الملذات الكاذبة، التي تنبني بفعل وجود الأمل، رغم انحدار الواقع حول الإنسان.

أما أرسطو فيرى الأمل "ضرورة من أجل أي ممارسة للشخصية الفاضلة، ويعد ذا قيمة في ارتباطه بالشباب وسمو الأخلاق".

ويحاول "محترف أوكسجين" الذي أطلقه الشاعر والروائي السوري زياد عبدالله، من خلال نشره كتاب "أحوال الأمل" 2023، من تحرير وتقديم خالد بن صالح، أن يُجمل رؤية موسّعة لأحوال الأمل ومفهومه تبعا للتجارب، من خلال تدوينات لثمانية كتّاب وكاتبات شباب من بلدان عربية مختلفة، جاءت في 124 صفحة.

ذلك السياق السردي، يرسم الحياة العربية المعاصرة، ويوصّف الحال السيئة التي تحيط بالإنسان العربي، لكنه يمرّر خلال هذه المحاولة، صورة الأمل، نقطة بيضاء مضيئة، في طريق مظلم طويل وممتد. إنها محاولة جادة، من أجل البحث عن الأمل المفقود، وسط كومة من اليأس والخراب، التي تسيطر على الحالة العامة في العديد من الدول العربية.

في الكتاب صوت عريض للحزن والخسارات المتكررة، وصرخات إنسانية، توغل في الهامشي والمهمل والمخفي، وأحزان تنبع من تجارب الكتّاب، يضعونها بطريقة خارجة عن المتداول والمألوف، وبين كل ذلك البؤس، يضع كل كاتب اختبارا ذاتيا للأمل.

ذلك السياق السردي، يرسم الحياة العربية المعاصرة، ويوصّف الحال السيئة التي تحيط بالإنسان العربي، لكنه يمرّر خلال هذه المحاولة، صورة الأمل، نقطة بيضاء مضيئة، في طريق مظلم طويل وممتد

غيبوبة

يوصّف الكاتب الجزائري العربي رمضاني، في مدونته "دون كيشوت في شوارع الجزائر" ذكرياته في بوفاريك، في ولاية البليدة، عاكسا التحول الذي طاول الإنسان الجزائري، خلال العقود الماضية، وتحوله نحو الراديكالية الدينية، من خلال تبدّل أشكال الجمال في بلدته، إلى نظرات مخيفة من أشخاص متشدّدين، يحملون التعاليم الدينية -أيا كان فهمها- لترهيب الناس وقمعهم.

وخلال سرده يضع رمضاني ملامح الحياة الجزائرية، من خلال حديثه عن العادات والتقاليد، وأثرها في ترسيخ السجون داخل الإنسان، ويتحدّث عن الحياة الرتيبة، وانعدام الأفق، والمحاولات المشبعة بالخسارات لدى أجيال متلاحقة من الشباب، وانسداد الطريق، الذي يدفعهم إلى العمل في مجالات لا تمُتّ بِصلة للشهادات العلمية، التي يحملونها.

وينقل رمضاني، صوت الناس والكادحين، الأشخاص الذين حملتهم الحياة وألقتهم في غيبوبة مع الزمن، فصاروا في منطقة ما بين الموت والحياة، مهمّشين على جانب الطريق السريع.

ينقل الكاتب صرخة أحد الأشخاص خلال حواره معه، إذ يقول:

 "كما ترى أنا خمسينيٌّ، بلا منزل أو زوجة أو راتب، أكدحُ كالبغل في ورشاتِ البناء، وأحيانا أعملُ حارسا ليليَّا في الحقول وأنام في الحمَّامات الشعبيَّة، وأتحمَّلُ الرطوبةَ والبرد وسخافةَ وإزعاجَ بقيَّة النزلاء. منذ سنوات وأنا على هذه الحال".

 كما يظهر رمضاني الإحباط الذي يحمله الجزائريون من التغيير، مبينا تفاصيل محاولات التغيير السياسي، الذي همّ المواطنون إليه في الميادين، بعد عام 2011، لكنه فشل بسبب الهيمنة السلطوية، والتآمر ضد المواطنين.

وتظهر نبرة الأمل في سردية رمضاني، على استحياء، من خلال حواراته مع أصدقائه، ومن خلال تعامله مع الأشخاص المنهكين في الشوارع، الذين يصرّون على حمل الابتسامة، بالرغم من ضنك العمر.

يخرج رمضاني بهذه الخلاصة:

"نحتاجُ ثورة فكرية شاملة تزيحُ الوهمَ والتوحُّشَ وتنظّفُ العقول قبل التفكير في الإطاحة بالنظام الذي يبقى انعكاسا للمجتمع. لم تقفزْ علينا هذه الوجوهُ الكريهة من السقف أو خرجتْ من أعماق الأرض".

خدمة إلزامية

أما الكاتب أحمد م. أحمد من سوريا، ففي مدونته "عائد إلى طرطوس"، يصف الحياة في بلاده بأنها "خدمة إلزامية"، ويتساءل عن موعد انتهائها!

ويجسّد أحمد العائد من أميركا، عبثية الحياة السورية، وانحراف المقاييس اللذين جعلا الإنسان يدور حول نفسه، يحاكيها، باحثا عن ثغرة تخرجه من عتمة لا تتوقف، لكنه لا يجد مخرجا.

يكتب أحمد:

"في سوريا احترقتْ دارةُ التغذية واللوحةُ الأمُّ ومفاتيحُ التشغيل… والروحُ، وغابتِ الدفاعاتُ الحيوية، فباتتِ البلادُ مزرعة لـ اللا أمل، والموتِ البطيء اللَّذيذ".

فيما يتحدث أحمد عن زهد المواطن السوري، في الحياة، في الأكل -إن توفّر _ وعن الزهد في الحب والأخلاق، يحث تحولت الحياة إلى عيش على الكفاف.

ويسخر الكاتب من الأمل، ويسأل عنه بالنسبة إلى طالب يذهب لتقديم امتحانه، في أبرد الشتاءات، وعليه أن يدرس في العتمة، والبرد القارس، بينما يضيء، ويتدفأ بِظل شمعة، قد تحترق به وببيته، في أية لحظة.

ويستمر في السخرية من الواقع عبر حواره مع رجل يكتفي بأكل البطاطس، هو وزوجته، ليتمكنا من تعليم ابنيهما، وتوفير الأكل الجيد لهما للاستمرار. يدوخ الرجل في مكان عام، من الزهد في الأكل، ولكنه ما زال يتمسك بالأمل!

يتحدث أحمد عن الحرب وصناعتها، وتجّارها، والمتنفعين من حلبة الموت التي يزج بالسوريين فيها، ويوصف حال الناس خلال حرب استمرت لسنوات، متداخلا في سرده مع التفاصيل الصغيرة، تعكس بؤس الناس في وطنه.

يكتب:

"عن الحيادِ تجاه خَشَبةِ مسرح العبثِ أو اللامعقول السوريَّة: قراراتِ المساخرِ الحكوميَّة، تقنينِ الوقود والكهرباء والزيت والأرزِّ والخبز لدرجة أن الحشرةَ لا يمكنها الاعتياشَ على ما يرميه لنا لصوصُ الحرب!".

ويعبّر أحمد عن خيبة ظنه في العودة إلى سوريا، تلك البلاد التي يصفها بالمكان الذي لا يصلح للعيش، ويحتقر حياة الناس، ويجعل منها ظلا أسودا في العالم.

يكتب:

صورتي وأنا أبتسمُ في مدينة أميركيّة على "فيسبوك" صورةٌ كاذبة. الصورةُ الحقيقيَّة هي صورةٌ ظلّيّة -رمز صورة، شبحٌ، صورةُ رجل يرتعد في داخله".

 

ديليفري

لكن الكاتبة سماح البوسيفي من تونس، وعبر مدونتها "ديليفري الأمل" تنقل الطرح لمنطقة مخصصة بالمرأة في معظم الأوقات، فتقول بداية: "النساء هنا بألف رجل، يحرثن اليأس بحثا عن لقمة العيش".

وتلمح الكاتبة إلى الحالة الاقتصادية الصعبة التي يعيشها المرء التونسي، وصعوبة الواقع الذي يعايشه المجتمع التونسي، فتكتب: "(هوني حد) ما يحلم أكثر من تحصيل قوته اليومي".

فيما تكشف الكاتبة عن زيف الأمل، وعدم قدرته على مجاراة الواقع، وتروسه المسننة، متناولة اليوم الذي أشعل فيه محمد البوعزيزي النار في البلاد وفي حياته، في عام 2011، وكان بؤرة لانطلاق الثورات في الوطن العربي.

وتصف الكاتبة السلطة البوليسية وسطوتها على الشباب التونسي وقت الثورة، والاعتداءات التي تعرض لها الطلاب الثائرون، وتبيّن كيف أنها هربت من فك الحوت السلطوي، الذي لاحقها خلال أحداث الثورة. وتوضح كيف خضع شعبها لأقسى الظروف في ظل نظام بن علي، فتكتب: "الشعب التونُسي تعرَّض للتهميش والتفقير والإقصاء على امتداد 23 سنة، ووحدُه الأمل الذي كان يربِّيه كلُّ فردٍ في صدره هو الذي جعل أحلام التغيير شرعية "، لكنها تعود للتساؤل: هل بعد رحيل بن علي، أصبحت تونس حرّة؟

ترى بوسيفي أن الأمل في الحياة التونسية يتجسّد في المرأة، التي تعمل في محطّة وقود، في حين يلاحقها الاستهجان والامتعاض، في مجتمع محافظ.

وتراه في خروج المرأة من عتبة البيت، وتخطيها الأسوار، أو تقويضها، عبر المحاولات المستمرة من أجل تغيير صورتها الاجتماعية، إنه الأمل "ديليفري"، مستمر في توصيل الناس.

وتكمل: "الأمل أن تعمل وتربّي طفليها، ولا تأبه لهراء الملتصقات بكراسيهن، العاجزات عن الحركة، ليغيرن واقعهن".

يسخر الكاتب من الأمل، ويسأل عنه بالنسبة إلى طالب يذهب لتقديم امتحانه، في أبرد الشتاءات، وعليه أن يدرس في العتمة، والبرد القارس، بينما يضيء، ويتدفأ بِظل شمعة، قد تحترق به وببيته، في أية لحظة

أمل أعرج

وفي السياق نفسه، فإن الكاتبة الجزائرية سلمى قويدر في مدونتها "متلازمة الأمل والموسيقى" تضع الأمل في تجربة المرأة من أجل التخلص من عباءة المجتمع الضيقة، التي تجعلها مختنقة، بلا رؤية واضحة، محصورة في زيف مستمر للحرية، التي تتباهى بها المجتمعات.

تكتب قويدر :  "كوني امرأة، في الجزائر، وفي قسنطينة تحديدا، يجعل منِّي مخلوقا أعرَجَ الآمال!".

وتوضح الكاتبة أن المواطن في الجزائر يعيش على تكرار التجارب، دون النظر إلى الجدوى، أو اكتشاف أي طريقة أخرى، تخرجه من النفق المظلم الذي يحياه، تكتب قويدر : "لدينا متلازِمةُ الأمل، فعلى الرَّغم من كلِّ تلك الصفعاتِ التي نتلقَّاها يوميا من البشر والأقدار ننهضُ، نعرجُ، ننفضُ عنَّا غبار السقطة، نمسح دمَ الكدَمة، نبتسم ونعيدُ الكرَّة".

وترى قويدر أن الإنسان الجزائري يميل لإيجاد مساحته الخاصة التي تبتعد به عن كل الظروف المأساوية من الخذلان والتكرار الممل للأشياء، حتى أصحبت وتيرة الحياة فردانية، متفككة، منزاحة عن الترابط الاجتماعي، والصوت الذي يوصل إلى رؤية تغير الواقع، إذ تكتب: "إنَّ العديد منها يخلقُ عالما ينأى به عن عوالم الآخرين، أظنُّ أنها طريقة كلِّ شخصٍ منَّا في الاحتجاج على موت آماله في بلد يخنق فينا كلَّ نفَسٍ يصبو إلى الحرِّية".

حفر قبر بملعقة شاي

ينقل الكاتب الليبي أنيس البرعصي عبر مدونته "حفر قبر مصارع سومو بملعقة شاي" تيه الحياة في ليبيا، وعدم وجود قبطان لقيادة السفينة الليبية المُبحرة في الدم.

يتحدث البرعصي عن قوارب الهجرة والهرب من الموت إلى الموت، ويركّز على فقدان الأمل في مجريات الواقع، الذي ينصب الأفخاخ للبشر هنالك، في حين يقف الناس متفرجين على حفلة موت بطيئة.

Shutterstock

يكتب البرعصي:

"لا شكَّ  أنك ستشعرُ بشيء من العَبث، حين تتحدَّث عن وجودِ بصيصِ  أملٍ  متبقٍّ  من حيث أتوا، من ليبيا التي يقفُ مواطنوها -منذ عقد- كشواهد قبور. فيما تعبُر من حولهم السنواتُ الحالكة كجنائزَ لم يتعرَّف أحدٌ على جثثِ أصحابها".

إنها الحاجة إلى تجسيد الرعب عبر الكتابة، لمحاورة الحياة المتلفة حول أعناق الليبيين كحبل عريض، خشن الملمس.

هنالك من لم يغادروا ليبيا، يعرفون بأن لا أحد يكترث لأمرهم، وأن المشاكل لن تنتهي، وكذلك الحروب، حسب ما يرى الكاتب.

أما الذين يحاولون المغادرة، فإنهم يخوضون تجربة المتاجرة والموت والإذلال، خلال طريق عبورهم الحدود الليبية، حتى صار الأمل عند المرء الليبي، معجزة لا تتحقق.

يكتب البرعصي: "إن البحثَ عن أملٍ أو الحديثَ عن أحوالِه، أشبهُ بحفر قبرِ مصارعِ سومو بملعقةِ شاي!".

يتحدث البرعصي عن قوارب الهجرة والهرب من الموت إلى الموت، ويركّز على فقدان الأمل في مجريات الواقع، الذي ينصب الأفخاخ للبشر هنالك، في حين يقف الناس متفرجين على حفلة موت بطيئة

سوء أمل

أما في فلسطين فتبدو الأمور أعقد، فالمجتمع يتعرض لويلات الاحتلال بشكل مستمر، بالإضافة التي الترسّبات التي تلقي بظلالها على السلوك الاجتماعي جراء وجوده.

فتكتب رلى جريس في مدونتها "سوء أمل" عن انحراف السلوك الاجتماعي عن أصوله، لمجتمع يعيش من سبعة عقود ونصف العقد تحت وطأة الاحتلال، فتبرز استخدام المرأة للأمل بشكل سيء، عبر دخولها في قالب الزواج بحيث لا يتبقى بديل عنه، وتضع نفسها كأنها حبة كرز، بين الشوك، تتحمل الآلام فقط لكيلا تخرج عن نسق العادات والتقاليد، وتجسد الكاتبة خلال سردها، تلف الذات وتحطمها من الداخل للمجتمع الفلسطيني الذي يعاني احتلالين.

تكتب رلى:

"هل يأتي اليومُ الذي ينتبهُ فيه الإنسان إلى استثماره الخاطئ، في أملٍ يسيءُ إليه أكثر ممّا يدفع بالحياة إلى روحه؟ وما الذي يجعل الإنسان يمضي عمرا في تجاهل روحه المتأذيَة؟ وما الذي يجعل الفرد يتمسَّك بأملٍ يجرُّه إلى أماكنَ ليس".

Shutterstock

رجل رملي

أما محسن البلاسي وغادة كمال من مصر، فيلاحقان الرجل الرملي، في مدونة تحمل العنوان نفسه، وهدفهما البحث عن الأمل لسنوات طويلة، امتدت لعقود ربما، عبر مقارنات تاريخية، متعلقة بميدان التحرير، والزحف الشعبي المكرّر لذلك الميدان، قد يتحقق زوال حاكم، أو أكثر، من خلال الصرخات والهتافات، لكن الحال لا يتغير، فينتظران الرجلي الرملي "الأمل"، لكنه لا يصل، لا يتحقق: "حيوانُ الأمل الذي ينمو جسدُه بالنزيف الدائم، هو الرجل الرملي".

في المدونة تغلب نبرة الحزن واليأس، من واقع بليد لا يتجدد، بل يجدد في طريقته من أجل صناعة الآلام وتمريرها للناس، حتى بعد حدوث الثورة في 2011.

يرد في المدونة:

"قد تصلُ  الفكاهةُ السوداءُ إلى حدِّها الأقصى لو سألتَ اثنيْن  كانا في مركزِ ثورةٍ منهوبة مرَّ على تحلّلها أحد عشر عاما".

font change

مقالات ذات صلة