طرابلس اللبنانية والتيه الكبير

جمر الهوية والإرث التاريخي تحت رماد الجمهورية

Miriam Martincic
Miriam Martincic

طرابلس اللبنانية والتيه الكبير

طرابلس: تحتفي هذه المدينة في شهر رمضان المبارك من كل عام بزيارة "الأثر الشريف"، وهو طقس رمضاني قديم. و"الأثر الشريف" هو شعرة من لحية النبي محمد (صلعم) أهداها السلطان العثماني عبد الحميد الثاني الى طرابلس عام 1890، بمناسبة إعادة تجديد أحد مساجدها الذي يُعرف اليوم بـ"الجامع الحميدي"، وذلك تقديرا منه لولاء أهل المدينة لـ "الدولة العلية"، حسبما يذكر "مؤرخ طرابلس". د. عمر تدمري.

وقد وضعت الشعرة في علبة من الذهب الخالص وأرسلت الى طرابلس مع فرقاطة عسكرية عثمانية واستُقبلت بمراسم احتفالية عظيمة. وارتأى علماء المدينة حينذاك أن يُحفظ "الأثر الشريف" في المسجد المنصوري الكبير، الذي بني عام 1293 وأطلق عليه اسم المنصوري تيمنا بفاتح طرابلس ومنقذها من الصليبيين السلطان المملوكي سيف الدين منصور قلاوون، نظرا لكونه أكبر مساجد طرابلس، ولمكانته الدينية والعلمية والاجتماعية والسياسية.

ومذاك أضحت زيارة الأثر الشريف تقليدا سنويا ما يزال متبعا حتى اليوم، حيث يٌخرج من الغرفة التي يُحفظ فيها، ليعرض على الملأ عقب صلاتي الفجر والعصر من آخر يوم جمعة في شهر رمضان المبارك، تحت إشراف مفتي طرابلس وعدد من علمائها. وفي كل عام تغص باحات المسجد، رمضان الماضي، بعشرات الزائرين من رجال ونساء، شيبا وشبابا، وحتى أطفال. والحال أن هذا التقليد وفي حين أنه مصدر فخر لطرابلس وأبنائها، يحمل في الوقت عينه الكثير من الدلالات والرمزيات الدينية والتاريخية والسياسية والاجتماعية.

يتجلى حجم الموروث الديني في الثقافة العامة والمجتمعية، والعادات والتقاليد، والتي تبطن موقفا سياسيا عاما يقطع مع الحاضر ويحاول الربط مع الماضي في "نوستالجيا" تاريخية

المدينة المحافظة

فعدا عن الهدية الثمينة وقيمتها الدينية والمعنوية العظيمة، تنفرد طرابلس عن سائر المدن اللبنانية بطابعها المحافظ الذي لا يزال طاغيا، وكذلك بكثرة العلماء ورجال الدين من أبنائها. فالمدينة ذات التاريخ العريق، والتي كانت قاعدة بحرية ودارا لصناعة السفن في عصر بني أمية، اشُتهرت بـ"مدينة العلم والعلماء". وهو صيت بدأ إبان حكم بني عمّار ذوي المذهب الإسماعيلي، الذين شكلوا الدعامة الأساسية للدولة الفاطمية في بداياتها. ثم استقلوا بحكم المدينة، وعكفوا على تحويلها الى "دار العلم"، لكنّ حكمهم لم يعمر سوى نحو 40 سنة (1070 – 1109). إذ انتهى على يد الصليبيين الذين أقاموا إمارة تحت مسمى "كونتيّة طرابلس" (1109 - 1289).

استردها السلطان المنصور سيف الدين قلاوون، لتعود مسيرة "العلم والعلماء" في العصر المملوكي، حيث بلغت طرابلس أوج ازدهارها العمراني والاقتصادي غداة بناء مدينة جديدة أكثر عمقا من تلك القديمة المشرفة على البحر، والتي تُعرف اليوم بـ"الميناء". فكانت طرابلس عاصمة الشام ووصيفة القاهرة، وما تزال كذلك لغاية اليوم، إنما في حجم وعدد الآثار المملوكية التي تختزنها. استمرت مكانة المدينة بالنمو عقب انتقالها من حكم الأتراك المماليك الى الأتراك من آل عثمان عام 1516، الى أن وضع التاريخ أوزاره وأحماله على أعتاب القرن العشرين حينما بدأت بيروت تنافس طرابلس وتتحول بفضل تلاقي وتلاقح تيارات الاستشراق والتغريب الى مركز حضري حداثي كان له بصمة بارزة في النهضة العربية في ذلك الحين.

لتدخل طرابلس بعدئذ حقبة "التيه الكبير" مع تأسيس دولة لبنان الكبير عام 1920 إبان الانتداب الفرنسي، والذي لم تبارحه بعد. وبذلك تكون الهدية السلطانية القيمة بمثابة البصمة التاريخية الأخيرة لمدينة طرابلس، إذ تورات بعدها خلف ظلال مدينة بيروت المتألقة والمتوهجة، والتي اعتمدها الآباء المؤسسون للبنان عاصمة الدولة وبنوا فيها نظاما مركزيا حصر كل النشاط السياسي والاقتصادي والتجاري والاجتماعي والثقافي والإعلامي والرياضي فيها وحدها، وأخرجوا طرابلس من التاريخ الرسمي للدولة ومحوا دورها وتاريخها وعراقتها لتغدو نسيا منسيا. مع ذلك، احتفظت طرابلس بهوية خاصة كانت ميزتها ونكبتها في آن معا. هذه الهوية تشكلت بفعل تراثها التاريخي، والذي لا يزال المحرك الأساس في يوميّاتها، وفي كل الظواهر، سلبية أم إيجابية، التي ينتجها واقعها.

Miriam Martincic

الدين والزعامة والسياسة

تميز طرابلس بكونها "مدينة العلم والعلماء" انعكس على وجاهتها وزعمائها الذين كانوا رجال دين ينتمون الى عائلات عُرفت بتخريج المشايخ والعلماء، وهو تقليد كان ساريا أيام العصر المملوكي وكذلك العثماني ويعرف بالطوائف الحرفية والمهنية، حيث كان لكل عائلة تخصص معين. حينما دخلت طرابلس عصر الانتداب الفرنسي والكيانات الوطنية الآخذة في التشكل كان زعيمها ومفتيها الرسمي في الوقت عينه عبد الحميد كرامي الذي ورث الزعامة والإفتاء معا عن والده وجده، ينافسه عليهما رجل دين آخر هو محمد الجسر.

الإثنان كانا على طرفي نقيض في الموقف من الكيان الجديد. فكرامي كان يقود المعارضة الطرابلسية ضد الانتداب الفرنسي، ويمثل المدينة في المؤتمرات التي انعقدت لإعادة المدن التي جرى سلخها عن سوريا. وهو ما أدى الى اتخاذ سلطات الانتداب قرارا بعزله من إفتاء طرابلس وتولية الشيخ رشيد ميقاتي مكانه. في حين تميّز محمد الجسر بالواقعية السياسية، وبإدراكه أن ما كتب قد كتب، لذلك وجب على الطرابلسيين الاندماج بالكيان الجديد ليمارسوا دورهم الريادي قبل أن يفوت الأوان ويصبحوا على الهامش. من هذا المنطلق سارع الفرنسيون الى إتاحة الفرصة أمام الجسر، السياسي العثماني السابق، لتولي عدة وزارات، ومن بعدها لم يقفوا عقبة أمام انتخابه رئيسا لمجلس النواب عام 1927 وبقائه في المنصب حتى عام 1932. ليكون أول وزير سني من طرابلس، والسني الوحيد الذي ترأس السلطة التشريعية. لكنه عندما قرّر الترشح لرئاسة الجمهورية بدعم من بعض زعماء الموارنة في مناورة سياسية ماكرة لتعطيل الانتخابات، سارع المفوض السامي الى تعليق الدستور بالكامل.

وفي دلالة تعكس حجم التدين الطرابلسي، فإن كرامي والجسر كان يمارسان عملهما السياسي بالزي الديني الكامل، أي الجبّة والعمامة. تخلّى الأول عن زيه الديني عقب استقلال لبنان، في حين أن الثاني لم يخلعه مطلقا حتى وفاته. وخلفه من بعده في العمل السياسي شقيقه رجل الدين أيضا نديم الجسر الذي انتخب نائبا عن مدينة طرابلس ودخل المجلس بزيه الديني، ثم تولى بعدها منصب الإفتاء فيها مطلع الستينيات. والعمل السياسي بالزي الديني الإسلامي يعد ظاهرة انفردت بها مدينة طرابلس، وإن كان الثلاثة لم يجمعوا بين العمل الديني والسياسي. مقابل راهب مسيحي واحد دخل الندوة البرلمانية بزيه الكنسي هو النائب عن زغرتا (شمال لبنان) سمعان الدويهي.

استمر آل كرامي والجسر في توارث العمل السياسي من دون الديني، مع تحول كل عائلة الى بيت من البيوتات السياسية التقليدية، وإن كانت عائلة كرامي هي الأكثر شهرة لكونها خرجت رؤساء حكومات، ولأنها لا تزال عائلة زعاماتية تحرص على استمرار قاعدتها الشعبية التي نمت كثيرا على يد رشيد نجل عبد الحميد، مع تحوله الى قطب سياسي لامع وأحد أبرز أركان حكم الرئيس فؤاد شهاب الذي يعد عهده (1958-1964) من الحقب السياسية القليلة المضيئة في تاريخ الجمهورية. لكن هذه القاعدة أخذت بالتراجع مطلع تسعينات القرن الماضي تحت وهج زعامة رفيق الحريري الذي حطم القواعد والتقاليد، في حين أن آل الجسر أكثر ميلا الى التكنوقراط والعمل ضمن الأطر النخبوية غير الشعبية.

ولغاية اليوم، فإن الإرث الديني والعلمائي لا يزال حاضرا في عدد من السلالات العائلية مثل ميقاتي التي خرج منها رئيس الحكومة اللبنانية الحالي نجيب ميقاتي، والذي انتخب نائبا لثلاث دورات انتخابية، وشغل منصب رئاسة الحكومة مرتين سابقا. إذ لا يزال رجال الدين من آل ميقاتي هم من يخطون مواقيت الصلاة في مدينة طرابلس استمرارا للتقليد المتبع منذ أيام المماليك. بالإضافة الى عائلات البارودي وكبارة والإمام وعويضة والرافعي والزعبي والصالح وغيرها. وقد انتخب أخيرا الشيخ محمد الإمام مفتيا لطرابلس، في حين أن منافسه كان الشيخ بلال بارودي.

تحول "جيش القبضايات" الصغير الى ميليشيا من قطاع الطرق والبلطجية وعتاة الإجرام، الذين أقاموا مربعا أمنيا خاصا بهم في المدينة الداخلية ذات الأزقة الضيقة والملتوية والمليئة بالأنفاق والسراديب عرف وقتها بـ"دولة المطلوبين"

التمايز الهوياتي

وبصفة عامة فإن رجال الدين في طرابلس، حتى من هم خارج المواقع والمناصب، يتمتعون بمكانة معنوية واجتماعية كبيرة. ويتجلى حجم الموروث الديني في الثقافة العامة والمجتمعية، والعادات والتقاليد، والتي تبطن موقفا سياسيا عاما يقطع مع الحاضر ويحاول الربط مع الماضي في "نوستالجيا" تاريخية، فتبدو المدينة في حالة انفصال بين روحها الهائمة في التاريخ، وجسدها التائه في واقع مرير لا تعرف إلى الخروج منه سبيلا.

الشاهد الأكبر على ذلك هو شهر رمضان المبارك. فالمدينة تبدو في حالة سبات عميق طوال السنة، لا تستيقظ منه إلا في شهر رمضان الذي يضخ في شرايينها أكسير حياة متجددة، مفعمة بالنشاط الحافل بالعادات والطقوس الدينية. بما يعكس مدى حرصها على هويتها الدينية وتمايزها عن باقي المدن اللبنانية في الشهر الكريم الذي يعيد اليها بعض المجد التليد.

وخلال الشهر الكريم يستطيع أي زائر أوعابر سبيل أن يلحظ مدى طغيان طابع التدين على الثقافة العامة. فترى المساجد تزدحم بالمصلين، ورجال ونساء يتلون القرآن في الدكاكين والمحال التجارية، وبعضهم حتى أثناء المشي. وتعود العباءة بما هي رمز إسلامي الى الظهور بكثرة. فضلا عن ذلك، فإن الكثير ممن يؤدون زكاة أموالهم يحرصون على إخراجها في شهر رمضان للحصول على أجر أكبر، بما يؤدي في الوقت عينه الى إنعاش الحركة التجارية في المدينة لتتصدر المدن اللبنانية قاطبة في هذا الشهر فقط.

ويظهر الإصرار على التمايز الهوياتي في اتخاذ بلدية طرابلس مطلع الألفية الثانية قرارا باعتماد ذكرى تحرير المدينة من الصليبيين على يد المماليك في 26 أبريل/ نيسان 1291 عيدا خاصا تحت مسمى يوم طرابلس، وذلك بمشورة من مؤرخ المدينة عمر تدمري، وتحت ضغط النخب الطرابلسية. وللمصادفة البحتة فإنه في مثل هذا اليوم من العام 2005 خرج الجيش السوري وأجهزة استخباراته من لبنان، ليكون عيد طرابلس عيدين، ولا سيما بعد ما قاسته من أهوال على يد هذا الجيش حينما حاصرها في منتصف الثمانينات ودك أحياءها بالقذائف والصواريخ، وترك ميليشياته ترتكب المجازر وتروع الآمنين.

ومع أن مساهمة طرابلس في استقلال لبنان عن فرنسا كانت عميقة الأثر ومخضبة بدماء 14 شابا سحلتهم مجنزرات قوات الانتداب، حينما شاركوا في مظاهرة شعبية حاشدة تطالب بإخراج رئيس الجمهورية والحكومة وبعض الوزراء من محبسهم في قلعة راشيا، إلا أن الرواية الرسمية أسقطت هذه الحادثة بشكل متعمد في استمرار للعلاقة الملتبسة بين المركز والمدينة الطرفية في الشمال. وأتى قرار تعيين يوم خاص بالمدينة والمظاهر الاحتفالية الشعبية والنخبوية به ليزيد من الالتباس، ويعمق هوة الاختلاف الثقافي بين الأقوام اللبنانية، وليمنح طرابلس طابعا ثقافويا انفصاليا شبيها بكتالونيا أو بلباو في إسبانيا.

ولطالما كانت وطنية أهل طرابلس مثار شكوك لا تنتهي من قبل نخب المركز وأهل السلطة بسبب طغيان الهوى العروبي والإسلامي عليها. وحتى في المظاهرة المذكورة آنفا كان الدافع العروبي ضد قوى الاستعمار هو المحرك الأبرز لها أكثر من قضية لبنان واستقلاله. هذا الهوى العروبي دفعها الى أن تكون في طليعة مناصري القضية الفلسطينية عقب النكبة عام 1948، وأن تصبح ناصرية تسير الوفود الشعبية الى سوريا لرؤية جمال عبد الناصر بعد إعلانه الوحدة السورية المصرية عام 1958. لتحتضن بعدها الزعيم الفلسطيني ياسر عرفات عام 1983 بعد أن اجتاحت إسرائيل العاصمة بيروت قبل عام لإخراجه ومنظمة التحرير، وصولا الى نصرة الثورة السورية. ولغاية اليوم فإن طرابلس تعد المدينة اللبنانية الوحيدة التي لا تزال بمنأى عن الموجة العنصرية ضد اللاجئين السوريين والتي بلغت مدى غير مسبوق في الآونة الأخيرة. بل على العكس فإنها المدينة اللبنانية الوحيدة التي حصلت فيها مظاهرات داعمة للاجئين السوريين ومنددة بالسلوكيات العنصرية القبيحة ضدهم.

أما الهوى الإسلامي فهو الأصل. فطرابلس هي مدينة المساجد والتكايا والزوايا والمدارس الدينية. كما أن الجماعة الإسلامية، وهي الفرع اللبناني لتنظيم الإخوان المسلمين تأسست في طرابلس. كذلك التيار السلفي، وحزب التحرير، وهيئة علماء المسلمين في تقليد للنسخة العراقية، وغيرها من التنظيمات والجماعات الإسلامية. لكن العروبة كعقيدة سياسية ناصرية ظلت طاغية ومتوهجة أكثر الى حين نجاح الثورة الإسلامية في إيران بقيادة الخميني عام 1978، والتي تأثرت بها الدول العربية والإسلامية، حيث كانت طرابلس الأسرع تأثرا بها مع قيام حركة التوحيد الإسلامي عام 1982 نتيجة ائتلاف مجموعات إسلامية وأخرى ماركسية وزمر من فتوات الشوارع.

واستطاعت هذه الحركة أن تبسط حكمها على مدينة طرابلس بالكامل بشكل أكثر شبها بـ"المحاكم الإسلامية" في الصومال و"حركة طالبان" في أفغانستان، وذلك بدعم إيراني وبتسهيل من الاستخبارات السورية التي استخدمت الحركة للتخلص من خصومها قبل القضاء عليها. لم تستطع هذه الحركة التي لم يكن يجمع بين قياداتها أي رابط فكري أو عقائدي أن تحكم سوى لسنتين فقط، لكنها غيرت فيهما وجه طرابلس بشكل شبه كامل، مع طردها للمسيحيين والعلمانيين من شيوعيين وبعثيين عراقيين وغيرهم. إذ نحت المدينة بعدها نحو التشدد والتعصب على وقع موجة التشجيع العالمي للجهاد ضد الشيوعيين في أفغانستان. وهذا المناخ أرخى بثقله على المجتمع، وساعد التيارات السلفية والجماعات المتشددة في السيطرة على الحيز العام الذي انسحب منه المشايخ التقليديين وخاصة الطرق الصوفية التي تعرض شيوخها وأتباعها للملاحقة والتضييق والتكفير.

 

من القبضايات الى قطاع الطرق

بيد أن كل ذلك ليس سوى رأس جبل الجليد، فمظاهر التدين الاجتماعي والثقافي تخفي تسطيحا وجمودا هائلين وتفسخا اجتماعيا يحاول أغلب أهل المدينة التستر عنه. لكن، في زمن الإعلام الرقمي وشبكات التواصل الاجتماعي ما عاد إخفاء أي شيء بالأمر اليسير.

فمدينة طرابلس التي تتشابه من الناحية الديموغرافية والتركيبة السكانية مع سوريا وتركيا، إذ أن أكثرية سكانها من المسلمين السنة، مع أقلية علوية، وأخرى أقل منها مسيحية، ترتبط بهما أيضا من خلال الكثير من العادات والخصائص الاجتماعية، وصلات القربى والجذور العائلية (كثير من عائلات طرابلس جذورها تركية أو سورية). ومنها نظام القبضايات الذي كان ساريا في العصور السابقة، والذي جسدته الدراما التلفزيونية السورية والتركية.

هذا النظام القائم على وجود أشخاص في الأحياء الشعبية يقفون الى جانب الضعفاء، ويجسدون قيما اجتماعية اندثرت مع تعاقب الأزمنة، كان ساريا أيضا في كل المدن اللبنانية. ويحكي المؤرخ البريطاني باتريك سيل في كتابه "رياض الصلح والنضال من أجل الاستقلال العربي" أن الأخير كان يعتبر قبضايات بيروت حزبه ومفاتيحه الانتخابية التي لا تعرف الصدأ، وأنه كان يسيطر على أكثر من ثلثي قبضايات العاصمة اللبنانية، في حين أن منافسيه مجتمعين كانوا يتقاسمون الباقين. بيد أن هذه الظاهرة اندثرت تماما لحساب النخب المتعلمة التي توسّع حضورها ما خلا طرابلس.

في عهد رئيس الجمهورية الجنرال فؤاد شهاب (1958-1964) تشكل أول جهاز استخبارات فعلي. وكما هي العادة في أغلب البلدان العريية فقد دخل سريعا الى العمل السياسي، وأخذ نفوذه بالتنامي عقب الانقلاب الفاشل الذي قام به الحزب السوري القومي الاجتماعي عام 1961، ولا سيما في أوساط القبضايات حيث عمل على شراء ولاءاتهم من خلال الخدمات ورخص السلاح والحماية من العقاب عند حصول المشاكل أو ارتكاب الجرائم. وقد وجد جهاز الاستخبارات في طرابلس الساحة الأمثل لتدخلاته مستثمرا حالة التيه الكبير الذي تعاني منه وتشتت نخبها وشعبية هؤلاء الكبيرة المستمدة من الإرث التاريخي، فعمل على تكوين جيش منهم ووضعهم في خدمة الزعيم الطرابلسي رشيد كرامي الذين كان رئيسا للحكومة وقطبا شهابيا وذلك لتعزيز مكانته الشعبية والنيابية في وجه خصمه الأبرز الزعيم البيروتي صائب سلام.

استمر هذا الجيش بالنمو فيكنف الدولة الى حين انتخاب سليمان فرنجية رئيسا للجمهورية عام 1970، واختياره صائب سلام رئيسا لحكومة كان على رأس أجندتها الانتقام من رجال العهد الشهابي واستخباراته. فتحول جيش القبضايات الصغير الى ميليشيا من قطاع الطرق والبلطجية وعتاة الإجرام، الذين أقاموا مربعا أمنيا خاصا بهم في المدينة الداخلية ذات الأزقة الضيقة والملتوية والمليئة بالأنفاق والسراديب عرف وقتها بـ"دولة المطلوبين". أسقطت السلطة الجديدة هذا المربع الأمني بعد ملاحقة استمرت حتى مطلع العام 1975، لكنها أعجبت بالنموذج وقررت الإبقاء عليه مع تغيير اللاعبين لكونه يسهل السيطرة على قرار المدينة العاصية بعيدا عن الصداع الذي تثيره النخب ورجال الدين. ويعد هذا النظام أي فتوات الأحياء هو الأكثر رسوخا في المجتمع الطرابلسي والأمضى تأثيرا حتى اليوم.

مع ذلك فإن الدراسات حوله محدودة جدا نظرا لضعف تأثير طرابلس في العملية السياسية. أواخر السبعينات ومطلع الثمانينات وتحت تأثير الثورة الإسلامية في إيران نشأ في الأحياء الشعبية ما عرف بـ"لجان الأحياء" و"مشيخات الشباب". إحدى هذه المشيخات في منطقة التبانة شمال طرابلس والتي تحولت مع مرور الزمن الى مجموعة عشوائيات وموئلا للنزوح الريفي، أفرد لها الباحث الفرنسي ميشال سورا فصلا كاملا في كتابه "سورية الدولة المتوحشة"، بعد أن عاش معهم عدة أسابيع للإطلاع على تفاصيل حياتهم وحروبهم، وأطلق على تلك المنطقة مصطلحا لا يزال ساريا حتى اليوم هو "الحارة - الأمة". وحسب سورا فإن الحارة في نظر هؤلاء القبضايات تختزل الأمة العربية والإسلامية بأسرها. وكانت هذه الجماعات جزءا من حركة التوحيد التي حكمت مدينة طرابلس لسنتين، بل أن الحركة كلها قامت على بضع مشايخ ومجموعات كبيرة من الفتوات الذين "تمشيخوا".

وعاد الروائي محمد أبي سمرا وتناول هذه الظاهرة بشكل أوسع وأعمق في كتابه "طرابلس - ساحة الله وميناء الحداثة"، حيث بين مدى تأثيرها في المجتمع، وكيف أن ظهور حركة التوحيد كان بمثابة نقطة تحول كبيرة. فمع أنها استخدمت الإرث التاريخي والإسلامي للمدينة الا أنها نحت به صوب التطرف الشديد، الأمر الذي أدى الى تغيير وجه المجتمع المديني. وفي أواخر التسعينات استغلت أجهزة الاستخبارات السورية واللبنانية هذا التحول الاجتماعي واستثمرته في خلق بعبع إرهابي سني، استخدمته ورقة مقايضة مع المجتمع الدولي الذي كان قد بدأ الحرب العالمية على الإرهاب الإسلامي، وذلك مقابل الحصول على دعم دول القرار وخاصة أميركا للنظام في سوريا، وتابعه في لبنان. وشكلت أحداث 11 سبتمبر/ أيلول فرصة ذهبية لم تفوتها أجهزة الاستخبارات السورية واللبنانية التي سوقت أن طرابلس هي "قندهار" أو "تورا بورا"، وأنشأت فتوات جدد استخدمتهم كشبكات مرتبطة بها يمدونها بالشاردة والواردة، وكذلك قرابين على مذبح الإرهاب لحماية النظامين، ومن يُضحّى به تعوضه الأجهزة بسرعة، المهم أن تبقى اللعبة قائمة.

تبقى الحقبة الزمنية بين 1992 و2005 التي تعرف على الصعيد اللبناني بـ"الحريرية" نسبة الى رفيق الحريري، وخاصة السنوات الخمس الأخيرة منها، هي نقطة مضيئة في هذا "التيه الكبير"

حلبة أجهزة الاستخبارات

بعد خروج الجيش السوري من لبنان عام 2005 على وقع المفاعيل السياسية لاغتيال رفيق الحريري، تحولت طرابلس الى ساحة حرب بين الأجهزة الاستخبارية المتصارعة، ولا سيما أن الصراع السياسي ذا الصبغة الطائفية، جعل لكل طائفة كبرى جهازا استخباراتيا خاصا بها.

استمر هذا الصراع لسنوات، وكانت الحرب الطائفية بين حي جبل محسن العلوي – وحي التبانة السني إحدى ساحات هذه الحرب، حيث كثرت صناعة الفتوات والبلطجية، والجرائم مجهولة الفاعل، وتوسعت الأتاوات كضريبة حربية ملزمة. وبدأت ظاهرة القضاء العشائري بالظهور، أي أن يقوم أحد الفتوات الكبار أو شيخ شباب بحل النزاع الدموي الناشب بين اثنين من البلطجية، أو فريقين من قطاع الطرق من أجل أتاوة وما شابه بعيدا عن اللجوء الى القضاء المترهل، لأن "الضعيف هو من يذهب الى القضاء" على حد قول رئيس البرلمان اللبناني نبيه بري في أحد تصريحاته الشهيرة. وكل ذلك كان يتم برعاية أجهزة الأستخبارات المتنافسة إنما تحت غطاء ديني شكلي.

خلال هذه العشرية (2010-2020) نمت هذه الظاهرة وتوسعت بشكل قياسي. وعوض أن تقوم النخب السياسية بمحاربتها، عمدت الى خطب ودها وضمها لاستخدامها في التسويق السياسي والانتخابي، الأمر الذي حولهم الى لاعبين شعبيين مؤثرين. حتى انتفاضة 17 أكتوبر/ تشرين الأول 2019 التي لمع نجم طرابلس فيها كـ"عروس للثورة"، تمكنت أجهزة الاستخبارات من ترويضها وإنهاء هذه الساحة عن طريق اختراع ثوار من هؤلاء الفتوات ينفذون أعمال بلطجة وابتزاز تنفر الناس من الانتفاضة.

كانت نقطة التحول الثانية مطلع عام 2021 مع انتشار عصابات في شوارع طرابلس قامت بإحراق رموز الشرعية فيها مثل القصر البلدي التاريخي والمحكمة الشرعية وحاولت اغتيال ضباط من فرع المعلومات وهو جهاز استخبارات الأمن الداخلي، بإلقاء قنبلة عليهم وهم على مدخل مركزهم الرسمي، بالإضافة الى أعمال تخريب اخرى. ولغاية اليوم لم يٌكشف عن الفاعلين على الرغم من وضوح أشكالهم في أشرطة تسجيل كاميرات المراقبة. وحسب تصاريح رئيس الحكومة المكلف حينذاك سعد الحريري، ورئيس الحكومة الحالي نجيب ميقاتي، ورئيس بلدية طرابلس في ذلك الوقت، فإن أصابع الاتهام توجهت الى استخبارات الجيش فيما يبدو أنه استعراض للقوة على المسرح المفضّل بهدف القول للجميع الأمر لي. ومذاك ارتفعت حدة أعمال العنف والإجرام بشكل مضطرد ولم يعد هناك من وجود لأي حيز عام أو متنفس للعامة في المدينة مع انتشار أعمال السرقة والأتاوة والاعتداء على الأملاك العامة. والغريب أن كل الذين لمع نجمهم في هذه الأعمال يحظون بحماية من جهاز استخبارات الجيش لأسباب غير مفهومة. بالإضافة الى توسع نفوذ "سرايا المقاومة"، وهي شبكة واسعة من قطاع الطرق تتبع لحزب الله وتشتهر بتجارة الأسلحة والحبوب المهلوسة (الكبتاغون).

تبقى الحقبة الزمنية بين 1992 و2005 التي تعرف على الصعيد اللبناني بـ"الحريرية" نسبة الى رفيق الحريري، وخاصة السنوات الخمس الأخيرة منها، هي نقطة مضيئة في هذا "التيه الكبير". فقد قاد الحريري نهضة عمرانية واقتصادية وثقافية واجتماعية وتعليمية ورياضية أفادت منها طرابلس ولا سيما على الصعيد التعليمي مع بناء المدارس والمعاهد والجامعات. بيد أن إحدى أبرز نجاحات الحريري هي قيامه بما يمكن تسميته مصالحة معنوية بين سنة طرابلس ومدن الأطراف والمركز، وذلك من خلال تطوير التعليم وتيسيره لأبناء الطبقتين الوسطى والعامة، وفتح أبواب الدولة أمامهم، ودعمهم وتشجعيهم على تولي مناصب إدارية فيها.

هذا التحول التاريخي في العلاقة الارتيابية كان الشاهد الأبرز عليه هو شعار "لبنان أولا" الذي رُفع في المدينة عقب اغتيال الحريري، وذلك للمرة الأولى منذ تأسيس الدولة عام 1920. لكن الأحداث السياسية الساخنة التي أعقبت اغتياله عجلت في انهيار العلاقة وعودتها الى سابق عهدها بعد سنوات قليلة. تكفي الإشارة الى أنه منذ اغتياله عام 2005 حتى اليوم، لم تبن سوى ثانوية واحدة في طرابلس، وبتمويل خارجي، بالإضافة الى بناء بضع مدارس ابتدائية من قبل نجله سعد الحريري بدعم مباشر من المملكة العربية السعودية، التي لها بصمة راسخة في مختلف الأعمال الاجتماعية والخيرية والتربوية والثقافية والإغاثية في طرابلس ولبنان منذ انتهاء الحرب الأهلية عام 1990 وإلى يومنا هذا.

إن تطور ظاهرة القبضايات وتحولاتها التاريخية ورسوخها في المجتمع الطرابلسي هي في جوهرها تعبر عن مشكلة اندماج عصية على الحل. وهذه المشكلة تظهر في الشخصية المتمردة على الإطار العام داخل كل شاب طرابلسي، وذلك عائد الى طبيعة التربية والتنشئة الطرابلسية التي تعتبر الملك العام وكل شيء يقترن اسمه بالدولة خصما معنويا افتراضيا انطلاقا من الإرث التاريخي والعلاقة الملتبسة.

آخر الدلالات الحسية على هذه العلاقة كانت في الانتخابات النيابية الأخيرة في مايو/ أيار 2022، حيث سجلت طرابلس أدنى نسبة اقتراع على صعيد لبنان بأكمله، وبتراجع عن الانتخابات السابقة عام 2018 مع أنها كانت الأدنى بالعموم أيضا. وقد بلغت النسبة نحو 22 % في الساعة الأخيرة من العملية الانتخابية، ثم ارتفعت لتصل الى نحو 29 % فقط بفضل الأشخاص الذين يؤخرون اقتراعهم للحصول على أعلى نسب من المال الانتخابي. وبالتالي فإن تصويتهم لا يعبر عن اتجاهات رأي، لتبقى النسبة الحقيقة للاقتراع في طرابلس قريبة من عتبة الـ20 % فقط وهي نسبة هزيلة جدا تعبر عن عدم القناعة الشعبية وكذلك النخبوية بجدوى الانتخابات كلها كآداة ديموقراطية يمكنها تغيير واقع المدينة في ظل الإفراط في التهميش الذي تتعرض له من المركز.

وبعد قرن ونيف على إرسال الأثر الشريف الى مدينة طرابلس، تبدو المدينة في الشكل كأنها لا تزال أسيرة هذا التاريخ وهذه الهدية الثمينة، أما في المضمون فإن التحولات التي حصلت منذ تلك اللحظة جعلت طرابلس مدينة الجمر تحت الرماد الذي يمكن أن يلتهب في أي لحظة، جمر العجز عن الاندماج مع وطن يرفضها وترفضه، لكنها محكومة به بقدر ما أنه محكوم بها. جمر التهميش وعدم المساواة، جمر الهوية المتمايزة وثقلها وأوزارها، جمر صراع التيارات الدينية والفتوات على الحيز الثقافي العام، جمر صراع الأجهزة ورغبتها في لعب أدوار سياسية، جمر سرايا المقاومة التي ما دخلت مدينة إلا وأفسدتها. وبكل الأحوال ومهما كان نوع الجمر فإن القاعدة الأساسية تقول إن الجمر لا يحرق إلا مكانه.

font change

مقالات ذات صلة