هل غادر كتّاب الدراما العربية من متردّم؟

أزمة تكرار النصوص

مسلسل ستيلتو

هل غادر كتّاب الدراما العربية من متردّم؟

يشكو معظم نقاد الدراما من تكرار وتشابه المواضيع والقضايا التي تعالجها المسلسلات العربية، فبات من النادر أن تعثر في منصات العرض المتعددة على عمل فني يطرح أفكارا مبتكرة ورؤى جديدة.

هذه الشكوى، تضمر بالطبع، حقيقة أزمة النص أو السيناريو، وهذا ما يعيد إلى الأذهان تساؤلا كان قد طرحه عنترة بن شداد، قبل قرون، في مطلع معلقته: هَلْ غَادَرَ الشّعَرَاءُ مِنْ مُتَرَدَّمِ؟ هو بذلك يستفسر عما إذا كان شعراء حقبته، التي تعود الى ما قبل الإسلام، قد أغفلوا أي موضوع دون أن يتناولوه في قصائدهم.

ويبدو أن هذا التساؤل هو لسان حال معظم كتاب سيناريو الدراما العربية، الذين باتوا يكررون أنفسهم، وكأن المخيلة قد نضبت، مع ضرورة الاشارة الى استثناءات هنا وهناك، تؤكد القاعدة.

وكي لا نغرق في النفاصيل، يمكن أن نورد هنا بعض الظواهر الدرامية التي تثبت أن الساحة الفنية باتت تفتقر الى نصوص وسيناريوهات ذات جاذبية، وتتمتع بالقدرة على معالجة القضايا الجادة.

الدراما التي تتوالد أجزاؤها حاليا، تأتي على شكل ولادة قيصرية إجبارية، إذا صح التعبير، فالهدف الأساسي لشركات الإنتاج هو الربح، وهذا حق مشروع لها، لكن الإمعان في تحقيق هذا الهدف، قد يقود إلى نتائج كارثية

دراما الأجزاء

قد تكون دراما الأجزاء مقبولة في بعض الأعمال، ولعل أسامة أنور عكاشة في سلسلته الشهيرة "ليالي الحلمية"، مثل موفق هنا، فهو قدم معالجة لمرحلة، ورصد تفاصيل تعاقب الأجيال في هذا العمل "الملحمي"، وكيف تتغير القيم والمبادئ، وأهواء القلوب بمرور السنوات.

لكن الدراما التي تتوالد أجزاؤها حاليا، تأتي على شكل ولادة قيصرية إجبارية، إذا صح التعبير، فالهدف الأساسي لشركات الإنتاج هو الربح، وهذا حق مشروع لها، لكن الإمعان في تحقيق هذا الهدف، قد يقود إلى نتائج كارثية، فهذه الشركات عندما تكتشف أن عملا معينا قد نال نجاحا واسعا، تسعى إلى الانفاق بسخاء كي تنجز أجزاء جديدة من العمل الناجح أملا في مزيد من الأرباح، بمعنى أن دراما الأجزاء لا تأتي لضرورات فنية، بقدر ما تكون بدوافع ربحية.

أثبت الكثير من التجارب أن التعسف في توليد أجزاء جديدة من مسلسل ناجح، سيفضي في النهاية إلى عمل ساذج وسطحي، خصوصا عندما تستعين شركات الانتاج بكتاب آخرين، وبممثلين آخرين، وبخطوط درامية جديدة تتوه تماما عن مسار النجاح الذي حققه العمل في بداياته. ثمة أمثلة كثيرة عن هذا النهج الدرامي، لكن المثل الأكثر تعبيرا عنه هو مسلسل "باب الحارة" السوري، الذي كاد يقترب من الجزء العشرين.

مسلسل ع الحلوة والمرة

الاقتباس الخفي  

ثمة تقنية فنية تسمى "الاقتباس"، وهي مقبولة وشائعة في فنون الشعوب، وهذا الاقتباس يتطلب تطويع العمل الفني (رواية أو مسلسلا أو فيلما أو مسرحية...) بما يتناسب، شكلا ومضمونا، مع بيئة العمل الجديدة، ضمن شروط فنية وإنتاجية قد تكون نتيجتها صائبة أو خائبة، لكن في الحالتين ثمة اجتهاد فني يستحق التقدير.

لكن الاقتباس في حالة الدراما العرب يأتي غالبا خفيا، دون أن يعترف صناع العمل بأن ما يقدمونه مقتبس من هذه الرواية أو ذاك الفيلم.

يحفل الكثير من المواقع الإخبارية وحسابات التواصل الاجتماعي بتقارير عن أعمال "ملطوشة" من الأصل الأجنبي أو حتى من منتج عربي قديم من دون إشارة صريحة لذلك، على الرغم من أن هذه الإشارة لن تفقد العمل قيمته، وجل ما تفعله هو تعزيز صدقية الشركة المنتجة.

ولئن اعترف البعض بأن عملهم مقتبس، فإن العيوب قد تظهر في أماكن أخرى، ذلك أن الاقتباس يتطلب تطويع العمل الفني بما يتلاءم مع بيئته الجديدة، من مناخات وحوارات وديكورات، لكن في حالة الدراما العربية يكاد يكون الاقتباس حرفيا ودون تعديلات تتطلبها الشروط الإنتاجية الجديدة، فلا يعقل أن تقتبس عملا فرنسيا أو أميركيا، دون إجراء تغييرات تلائم الذائقة والواقع العربيين.

عروس إسطنبول

الاستنساخ التركي

على الرغم من أن تعبير "الاستنساخ الدرامي" دخل، أخيرا، قواميس النقد الدرامي العربي، بيد أنه لا ينطوي على أية مبالغة، فقد ظهر في الآونة الأخيرة عدد من المسلسلات العربية المنسوخة، قلبا وقالبا، عن الدراما التركية، في مؤشر لا يقبل الجدال، بأن ثمة أزمة نصوص وسيناريوهات.

وعلى عكس ما كان يقوله الجاحظ من "أن المعاني مرمية على قارعة الطريق"، فإن بعض صناع الدراما العربية هجروا بيئتهم المحلية، وعثروا في مكاتب شركات الإنتاج التركية في إسطنبول وأنقرة على مسلسلات راحوا يستنسخونها، بالمسطرة والقلم، ويصدّرونها إلى المشاهد العربي بلغة الضاد.

هذا الإجراء الغريب، والفريد من نوعه، هو اعتراف صريح بأن ثمة ندرة في السيناريوهات العربية، فهذه الندرة هي المبرر الوحيد للجوء إلى دراما الغير لنشاهد بالتالي عناوين من قبيل "ستيلتو"، و"الثمن" و"عروس إسطنبول" و"ع الحلوة والمرة"... وغيرها من المسلسلات والمشاريع التي تنتظر الإنجاز، والتي تتكئ بصورة مطلقة على الدراما التركية.

ويرى بعض النقاد أن الدراما التركية في حد ذاتها تعاني من العيوب، في غالبية أعمالها، فهي ليست المثل الأفضل كي يندفع صناع الدراما إلى استنساخها، بل هي دراما مرحة، مسلية وخفيفة تعتمد في الدرجة الأولى على الإبهار البصري، وجماليات الصورة، وهي تأخذ في الغالب طابعا سياحيا دعائيا، إذ تركز على المواقع الأثرية والشواطئ الجميلة والبيوت الفخمة والسيارات الفارهة، مع ممثلين وممثلات بكامل الأناقة. من هنا، تأتي نتائخ الاستساخ الدرامي، عربيا، مخيّبة، كما الحال في مسلسل "ستيلتو" الذي يفترض أن أحداثه تجري في لبنان، لكن مهما بحثت في حلقات العمل التسعين لن تجد شيئا يربطه بهذا البلد.

من الآن فصاعدا، يحق لصناع الدراما العربية المطالبة بتسجيل "براءة اختراع" لمصطلح "الاستنساخ الدرامي"، بوصفه تركيبا لغويا هجينا يكرس الابتذال والافلاس، فيما القصص المؤلمة والحكايا المؤثرة مرمية على قارعة الطرق في المدن والأرياف العربية دون أن يلتفت إليها أحد. 

ثمة سؤال يطرح هنا، وهو ما قيمة العمل الفني المستنسخ؟ وهل يمكن لأحد مثلا أن يتباهى بلوحة فنية زائفة لفان غوغ او مونيه أو بيكاسو؟

 يتطلب الاقتباس تطويع العمل الفني بما يتلاءم مع بيئته الجديدة، من مناخات وحوارات وديكورات، لكن في حالة الدراما العربية يكاد يكون الاقتباس حرفيا ودون تعديلات تتطلبها الشروط الإنتاجية الجديدة


إهمال السيناريست

ابتداء من الشهر الماضي نفذ كتاب السيناريو في الولايات المتحدة إضرابا، بعد فشل المفاوضات مع الاستوديوهات والمنصات الرئيسية في شأن مطالب تتعلق خصوصا بزيادة أجورهم.

واذا كان الامر كذلك في الولايات المتحدة، فإن معاناة كتاب السيناريو في البلاد العربية تكاد تكون مضاعفة، ذلك أن الاهتمام الأكبر والأجور الأعلى تذهب إلى نجوم الصف الأول وللمخرج، أما الكاتب فيعاني التهميش، غالبا، ولا يحصل على ما يعادل الجهد الذي يبذله، وفق ما يفيد به عدد من كتاب السيناريو.

المسلسل التركي حريم السلطان

إلى جانب عدم الاهتمام بكتاب السيناريو، فإن شركات الإنتاج تتقاعس كذلك عن بديل قد يبدو مجديا، وهو التنقيب في الأرشيف القصصي والروائي العربي، بقديمه وجديده، والزاخر بنصوص تصلح للتحويل إلى مسلسلات وأفلام، ولعل مسلسل "الزير سالم"، على سبيل المثل، الذي كتبه دراميا الاديب السوري الراحل ممدوح عدوان، معتمدا على الحكاية الشعبية التراثية، لا يزال يحظى بالمشاهدة والاهتمام، وهناك العشرات من الأمثلة عن مسلسلات استلهمت أحداثها من التراث الحكائي العربي، وحققت نجاحا.

أخيرا، من المعروف أن الذهنية العربية تميل إلى رواية القصص والإصغاء إليها، ولا تأبه كثيرا لجماليات الصورة والخدع البصرية، وزوايا الكاميرا... وفي تأكيد رمزي لذلك، فإن شهرزاد حمت نفسها من الموت، وأطفأت شهوة القتل  لدى شهريار عبر رواية القصص له، حسب ما ورد في العمل السردي الفذ" ألف ليلة وليلة". الأمر إذاً يتطلب جهدا للتنقيب في هذا التراث السردي الحافل واستخراج الدرر القصصية الثمينة الكامنة فيه، وإيلاء الاهتمام بكتاب السيناريو، وتخصيص جوائز ومكافآت مالية مجزية في حقل السيناريو، وغير ذلك من إجراءات قد تنتشل الدراما العربية من معضلة التكرار. 

font change

مقالات ذات صلة