أي مستقبل ينتظر قوات سوريا الديمقراطية؟

دخلت العلاقة بين قوات سوريا الديمقراطية والنظام السوري عدة أطوار

AFP
AFP

أي مستقبل ينتظر قوات سوريا الديمقراطية؟

فيما تتسارع التوجهات الإقليمية والإجراءات العربية في سياق إعادة إدماج النظام السوري والتطبيع معه، فإن قوات سوريا الديمقراطية (قسد/SDF)، المسيطرة على مناطق واسعة من شمال شرقي سوريا، الخارجة عن سيطرة النظام، والمُقدرة بأكثر من 100 ألف مقاتل، تعتريها هواجس وأسئلة حول مستقبلها الاستراتيجي، سواء عاد النظام وسيطر على كامل الجغرافيا السورية، مثلما كان قبل عام 2011، أو كانت هناك ترتيبات سياسية وأمنية واقتصادية، عربية وإقليمية، لإنهاء الصراع داخل سوريا، أو حتى لو أجبرت القوى الدولية الرئيسة النظام الدولي على التطبيق النسبي للقرار الأممي 2254.

"المجلة" سألت عدداً من قادة الرأي وصناع القرار المقربين من قوات سوريا الديمقراطية، بما في ذلك شخصيات ذات اطلاع وإشراف على شبكة علاقات هذه القوات والإدارة الذاتية الخاضعة لها مع قوى المجتمع الدولي والدول الإقليمية، حول الرؤية والاستراتيجية التي تستند إليها هذه القوات في تعاملها مع التحول الاستراتيجي المتوقع أن يطرأ على "المعادلة السورية"، أياً كانت التفاصيل الجزئية التي قد تؤثر على السياق العام لهذا التحول، في ما يتعلق بالرؤية التي تحملها هذه القوات تجاه ذلك، والاستعدادات السياسية والميدانية التي تجريها تحسباً لمختلف التحولات.

يشار إلى أن "قوات سوريا الديمقراطية" هي تحالف من "الميليشيات" المحلية، تكونت أواخر عام 2015، بعدما كانت وحدات حماية الشعب (YPG) الكردية النواة الأساسية لها من قبل، خلال الأعوام 2012-2015، حين خاضت معارك ضد التنظيمات المتطرفة، وسيطرت على مساحة واسعة من شمال وشرق سوريا، فانضمت إليها تشكيلات عسكرية عربية وسريانية، بعد حصولها على الدعم العسكري والمادي والسياسي الأميركي منذ أواخر عام 2014.

وتُصنف قوات سوريا الديمقراطية من قِبل تركيا كذراع عسكرية "سورية" لحزب العمال الكردستاني (PKK)، وتعتبرها تهديداً لأمنها القومي، ولأجل ذلك خاضت عدة حروب ضدها، عفرين 2018، ورأس العين 2019، بالشراكة مع عدة فصائل سورية وإسلامية موالية لتركيا. وعلى الطرف النقيض، تتهم قوات سوريا الديمقراطية تركيا بالانخراط وإدارة حرب عرقية ضد الأكراد، وتنفيذ عمليات تهجير قسري وإبادة جماعية ضد المناطق الكردية ودعم المتطرفين الإسلاميين المناهضين لهم.

منذ أواخر عام 2019، بقيت الجغرافيا التي تسيطر عليها قوات سوريا الديمقراطية شمال شرقي سوريا شبه ثابتة، مقدرة بنحو 45 ألف كيلومتر مربع، ويقطنها قرابة 5 ملايين نسمة، تُنتج يومياً نحو 35 ألف برميل من النفط

ودخلت العلاقة بين قوات سوريا الديمقراطية والنظام السوري عدة أطوار. بدأت بنوع من التوافق في البدايات التأسيسية، فقد كانت مُصنفة من قِبل النظام السوري كمعارضة "غير جذرية"، وتلقت دعماً عسكرياً من قوات النظام أكثر من مرة، حينما كانت تخوض معارك ضد التنظيمات الجهادية خلال الأعوام 2013-2014.

وقد تبدلت العلاقة تماماً منذ أوائل العام 2015، عقِب انتهاء وفشل الهجوم البري الذي خاضه تنظيم "داعش" ضد مدينة كوباني، وبدء الانخراط العسكري الأميركي في سوريا، عبر دعم تلك القوات، ومنحها كميات ضخمة من الأسلحة والتغطية الجوية والدعم السياسي. فصارت تُتهم من قِبل النظام السوري بالارتباط والولاء للولايات المتحدة، وغدا الإعلام الرسمي للنظام ينعتها بـ"القوات الانفصالية"، و"المستولية على خيرات سوريا".

AFP
عناصر من العمليات الخاصة لقوات سوريا الديمقراطية والتحالف الدولي المناهض لتنظيم "داعش"، يشاركون في مناورات عسكرية بالأسلحة الثقيلة في ريف دير الزور شمال شرقي سوريا، في 25 آذار 2022

وفي الأثناء، فشلت عشرات جولات التفاوض الأمني والسياسي التي خاضتها قيادة تلك القوات، أو جناحها السياسي "مجلس سوريا الديمقراطية" مع النظام السوري، ولم تنجح جميع "الضغوط" الروسية من إيجاد مساحة توافقية بين الطرفين.

ومنذ أواخر عام 2019، بقيت الجغرافيا التي تسيطر عليها قوات سوريا الديمقراطية شمال شرقي سوريا شبه ثابتة، مقدرة بنحو 45 ألف كيلومتر مربع، ويقطنها قرابة 5 ملايين نسمة، تُنتج يومياً نحو 35 ألف برميل من النفط، وأغلب الإنتاج الزراعي من المحاصيل الزراعية الاستراتيجية في سوريا، مثل القمح والقطن والبقوليات. لكنها خاضعة لحصار اقتصادي ثنائي، من قِبل تركيا والنظام السوري، وتتعرض لحملات قصف دورية من قِبل تركيا، تستهدف بالتحديد القيادات العسكرية والأمنية لتلك القوات.

صناع القرار المقربون يستبعدون إمكان عودة النظام إلى الهيمنة الكاملة على سوريا دون حلٍ سياسي

ثوابت عسكرية استراتيجية

في إجاباتهم على سؤال حول رؤية قوات سوريا الديمقراطية للتحولات الاستراتيجية الراهنة، أجمعت القراءات على تأكيد أربعة ثوابت عسكرية/سياسية استراتيجية تعتقد قيادة هذه القوات أنها صارت ثابتة وجوهرية في رؤيتها للمسار المستقبلي؛ فإمكانية شن تركيا لحرب برية ضد قوات سوريا الديمقراطية تقلصت تماما، وتالياً لن تواجه قوات سوريا الديمقراطية مصير "المحق" العسكري والجغرافي، كما كانت تخطط تركيا طوال السنوات الماضية؛ حيث إن إعادة ترتيب وإدماج النظام السوري عربياً وإقليمياً، تفرض على تركيا التخلي عن استراتيجية الحروب ضد أية منطقة سورية أخرى، بل أن تتفاوض على الانسحاب من المناطق التي تحتلها راهناً، بما في ذلك عفرين ورأس العين. وهو جهد وعامل يضاف إلى الاعتراض الدولي/ الأميركي الدائم في ذلك السياق، والذي تأكد من خلال الحزم الأميركي المناهض للتوجه التركي أواخر العام الماضي.

الثابت الثاني كامن في عدم التوجس من عودة قوات النظام السوري وسيطرته العسكرية على تلك المنطقة رغماً عن قوات سوريا الديمقراطية. فقوات النظام السوري، حسب هؤلاء، لا تملك القدرة العسكرية الكافية لإنجاز انتصار عسكري سريع ضد قوات سوريا الديمقراطية، خصوصاً إذا لم يسمح له باستخدام سلاح الطيران والصواريخ الاستراتيجية، وهو أمر لن يحدث غالباً. كذلك لأن قوات النظام لا تستطيع أن تدخل في حرب طويلة ومدمرة في مواجهة قوات سوريا الديمقراطية والمناطق الخاضعة لها، لأسباب كثيرة، على رأسها رفض قوى رئيسة من المجتمع الدولي لذلك، لاعتقادها بأن ذلك الأمر سيكون بمثابة إعادة إحياء للتنظيمات المتطرفة، وعلى رأسها "داعش".

ومع الثابتين السابقين، فإن صناع القرار المقربين يستبعدون إمكان عودة النظام إلى الهيمنة الكاملة على سوريا دون حلٍ سياسي ما، أياً كان. والمناطق الخارجة عن سيطرته شمال شرقي سوريا هي واحدة من أربعة ملفات شديدة التركيب. وإلى جانب قضية شمال غربي سوريا واللاجئين والعقوبات الدولية، يعرف النظام أن إعادة القبول بها من قِبل الدول الإقليمية لن تؤدي مباشرة وميكانيكياً إلى حل هذه القضايا، التي تتطلب دون شك تنازلات من النظام.

وأخيراً، يرى المطلعون أن قوات سوريا الديمقراطية لن تمانع في الاندماج في المنظومة العسكرية والأمنية السورية المستقبلية، حتى لو بقيت تحت إشراف النظام السوري الحالي، لكنها تملك كثيرا من الشروط والمحددات للقبول بذلك السياق: حل المسألة الكردية في سوريا، وإيجاد ترتيبات بشأن توزيع الثروة على مختلف مناطق البلاد، وخلق آليات ارتباط خاصة لنوعية علاقة هذه القوات مع المنظومة العسكرية والأمنية العامة في البلاد، وتحديد شكل العلاقة بينها وبين القرار السياسي المركزي.

يرى المطلعون أن قوات سوريا الديمقراطية لن تمانع في الاندماج في المنظومة العسكرية والأمنية السورية المستقبلية، حتى لو بقيت تحت إشراف النظام السوري الحالي

الأسس المطمئنة

تعود "المجلة" لسؤال المختصين والمقربين من قوات سوريا الديمقراطية عن الأسس التي تستند قوات سوريا الديمقراطية إليها، في خلق رؤيتها وثقتها بتلك الثوابت، بشأن مستقبلها في مسار التطورات السياسية، وكانت الإجابات المُجمع عليها مبوبة في خمسة عوامل؛ فهذه القوات والمنطقة الخاضعة لها، تحظى برعاية وحماية من قِبل طرف رئيس في المجتمع الدولي، الولايات المتحدة الأميركية ومعها الدول الرئيسة في المنظومة الأوروبية. لكنها، وبالإضافة لهذا، ذات حضور وتقدير من قِبل أغلب القوى السياسية والثقافية والفنية وحتى الشعبية الغربية، التي بادرت في مرات عدة للضغط على حكوماتها في سبيل حماية قوات سوريا الديمقراطية، التي تعتبرها شريكاً موضوعياً في مواجهة الإرهاب، وتحمل امتناناً لها، وتالياً سيكون صوتها عالياً، لو تعرضت لحرب طويلة الأمد، مثلما تعامل النظام السوري مع مناطق أخرى.

وعلى مستوى آخر، فإن قوات سوريا الديمقراطية تدير سجونا تحتوي على أكثر من 60 ألف إرهابي، يشكلون خطراً جسيماً على الأمن القومي لعدد من الدول الإقليمية والعالمية، وهي مجتمعة لن تسمح بأن يخرج هؤلاء عن السيطرة بأية طريقة غير مسؤولة. لا يعني الأمر أن قوات سوريا الديمقراطية تبتز القوى الدولية والإقليمية بهؤلاء المتعقلين، بل يدل على مدى أهميتها ودورها في المشهد الأمني الاستراتيجي للمنطقة والعالم. وتالياً التعامل معها بحسابات خاصة في التوازنات والترتيبات الأمنية، إقليميا ودوليا.

AFP
مقاتلو قوات سوريا الديمقراطية يشاركون في جنازة في مدينة الحسكة شمال شرق سوريا في 4 فبراير 2022، لعناصر من القوات قُتلوا في اشتباكات مع تنظيم "داعش"

المصدر الثالث للطمأنينة صادر عن الدور الذي تلعبه قوات سوريا الديمقراطية راهناً في ملف محاربة الإرهاب، بفاعلية مبنية على إرث طويل من التدريب والتمكين ورفع القدرات، بذلته قوى عديدة من التحالف الدولي لمحاربة الإرهاب، لتصبح قوات سوريا الديمقراطية اليد الميدانية لها في محاربة الإرهاب، وبذلت لأجل ذلك مبالغ ضخمة، وهي لن تتخلى عن ذلك بسهولة. 

الأساس الرابع، حسب رأيهم، كامنٌ في دور قوات سوريا الديمقراطية في خلق توازن ما داخل المشهد السوري، بين روسيا وإيران من طرف، والدول الغربية من طرف آخر. وهو دورٌ وفاعلية لم تنتهِ حتى الآن، وليس من محدد زمني واضح لإمكانية انتفائه. فالقوى الغربية/المحاربة للإرهاب، ما تزال تعتقد أن كثيرا من الجهات الفاعلة، داخل سوريا وفي محيطها، تملك مصلحة في إعادة تأجج التنظيمات الإرهابية.

أما آخر منابت الطمأنينة، فكامن في القاعدة الشعبية النسبية المؤيدة لتلك القوات في مناطق سيطرتها. فأغلبية واضحة من القواعد الشعبية الكردية موالية لهذه القوات، مصنفة إياها كـ"قوات كردية"، ومستعدة لأن تتجاوز كل الخلافات السياسية والآيديولوجية التي بينها وبين تلك القوات، في حال كان الخيار بينها وبين قوات النظام السوري.

الأمر نفسه ينطبق على طيف واسع من القواعد الشعبية العربية في مناطق شمال شرقي سوريا، وقد ظهر ذلك جلياً أثناء مراحل الضغوط العسكرية التركية على قوات سوريا الديمقراطية، حينما كان الوسطاء الروس يعرضون عودة النظام السوري إلى بعض المناطق، كحل وسط، فكان مقترحهم يواجه برفض شديد من قِبل القواعد الشعبية في المناطق ذات الأغلبية العربية تماماً.

صحيح، ما تزال شخصيات اجتماعية كثيرة توالي النظام السوري، وجزء واسع من القواعد الاجتماعية في تلك المنطقة به تناقضات سياسية وآيديولوجية ورمزية مع قوات سوريا الديمقراطية، من السكان العرب تحديداً. لكنها حينما تقارن أوضاعها الأمنية وظرفها الاقتصادي ومستوى الحريات العامة والسياسية النسبي الذي تتمتع به، بما هو حاضر ومفروض في مناطق النظام السوري، تشعر بتفضيل نسبي لقوات سوريا الديمقراطية على غيرها، خصوصاً وأن الكثير من أبناء هذه المناطق مطلوبون للخدمة الإلزامية، وقرابة 250 ألفاً منهم موظفون عموميون في مؤسسات الإدارة الذاتية في تلك المناطق، ومعها عشرات الآلاف من المطلوبين الأمنيين والأعضاء الفاعلين في الأجهزة الأمنية والعسكرية لتلك القوات، وهم جميعاً في ناحية الرافضين لعودة النظام السوري بأي شكل.    

font change

مقالات ذات صلة