روسيا "تختبر" أميركا في سوريا... وعينها على أوكرانيا

موسكو زادت تحركاتها العسكرية شرق الفرات

ادواردو رامون
ادواردو رامون

روسيا "تختبر" أميركا في سوريا... وعينها على أوكرانيا

اسطنبول- في بداية شهر فبراير/شباط من العام الماضي- قبل أسبوع من بدء غزو أوكرانيا- امتلأت وسائل التواصل الاجتماعي بصور المركبات المدرعة الروسية محفور عليها حرف "Z" ورموز أخرى. ورغم أن اللافتات كان لها غرض وظيفي بحت (علامات لتجنب "النيران الصديقة")، فقد أصبح يُنظر إليها على أنها رموز رسمية للغزو، حتى إنها حُظِرت في بعض البلدان. ومن المفارقات الآن أن نرى الجيش الأوكراني، في لقطات من شبكات التواصل الاجتماعي، يضع علامات مماثلة على مركباته المدرعة بينما يواصل هجومه المضاد الذي طال انتظاره.

وفي ظل هذه الظروف، سيتعين على الكرملين أن يولي اهتماما تاما بالجبهة الأوكرانية، خاصة إذا أعلنت كييف ليس فقط عن عزمها إخراج القوات الروسية من مناطق دونباس، بل والسعي أيضا لاستعادة شبه جزيرة القرم.

وبالإضافة إلى ذلك، احتدم النزاع بين يفغيني بريغوجين، مالك شركة فاغنر العسكرية الخاصة، والمؤسسة العسكرية الروسية الرسمية، مجددا على نحو عنيف. فقد أهان بريغوجين شخصيا كلا من وزير الدفاع سيرجي شويغو، ورئيس هيئة الأركان العامة فاليري غيراسيموف على اختلاقهما "مجاعة القذائف" كما زعم. وتباهى أيضا أنه بفضل مرتزقته فقط تأخر بدء الهجوم الأوكراني المضاد والواسع النطاق، حيث احتجزت القوات الأوكرانية في أرتيميفسك (باخموت) لأشهر وهي تقاتل قوات فاغنر العسكرية الخاصة.

ومع ذلك، تظل أوكرانيا مجرد واحد من الموضوعات التي تحتل وسائل الإعلام الروسية إلى جانب الوضع في سوريا.

تحول في التركيز

منذ بداية مارس/آذار، وطوال أبريل/نيسان، ومايو/أيار، أبدى الطيران الروسي نشاطا متزايدا في سوريا، كما ذكر مسؤولون أميركيون مرارا. فقد بدأت الطائرات والطائرات دون طيار الروسية في التحليق فوق أهداف عسكرية أميركية بكثافة، خلافا لاتفاقيات فض الاشتباك. وقد لا تكون هذه هي المرة الأولى، فربما جرت حوادث مماثلة من قبل، ولكن على نحو أقل. وحسب وثائق البنتاغون المسربة، في نوفمبر/تشرين الثاني 2022، فإن قوات الدفاع الجوي الروسية في القامشلي كادت أن تُسقط طائرة "MQ-9 Reaper UAV"، وهي من نوع الطائرات دون طيار نفسه التي اعترضتها مقاتلة روسية وأصابتها فوق المياه المحايدة للبحر الأسود في مارس/آذار 2023.

ووجهت موسكو اتهاماتها لواشنطن بأنها تحاول تصعيد التوتر ليس في منطقة البحر الأسود فحسب، بل في منطقة البحر الأبيض المتوسط أيضا، وادعت أن التحالف بقيادة الولايات المتحدة انتهك بروتوكولات فض الاشتباك وبنود المذكرة الأميركية الروسية بشأن السلامة الجوية فوق سوريا 213 مرة في أبريل/نيسان وحده.

ومع ذلك، أظهرت وثائق البنتاغون المسربة نفسها أن المخابرات العسكرية الأوكرانية كانت تخطط لمهاجمة القوات الروسية في سوريا، وهو ما كان سيجبر موسكو على نقل بعض القوات العسكرية من أوكرانيا. وحسب المصدر نفسه، تخلت أوكرانيا في النهاية عن الفكرة لعدد من الأسباب الفنية والسياسية.

غير أن هناك شكوكا موضوعية في أن موسكو تبنت موقفا تفاعليا بحتا في سوريا، وثمة مبررات للاعتقاد بأنها قد تبادر إلى ممارسة الضغط على المنشآت الأميركية في المنطقة.

أولا، في وقت مبكر من عام 2021، حاول الكرملين إجبار الناتو على التفاوض على هيكل أمني أوروبي جديد، ليس فقط من خلال التهديد بعمل عسكري ضد أوكرانيا، وإنما أيضا بالعمل النشط في سوريا، مثل إجراء تدريبات واسعة النطاق أو نشر قاذفات استراتيجية ذات قدرة نووية لفترة قصيرة في قاعدة حميميم الجوية. ومن المؤكد أن روسيا نشرت مجددا قاذفات "TU-22M3" في قاعدتها السورية نهاية مارس/آذار 2023.

ثانيا، ليس من قبيل الصدفة أن تصاعد النشاط الروسي في سوريا قد تزامن مجددا مع زيادة الحوادث التي تشتبك فيها القوات التي تعمل بالوكالة عن إيران والقوات الأميركية. وبينما أحجمت روسيا سابقا عن ربط نفسها بالهجمات الإيرانية وجمدت أنشطتها في شرق سوريا إلى حد كبير، فإنها مع بداية الحرب في أوكرانيا تعمّدت إظهار التنسيق مع إيران أو حتى الصين، غالبا دون موافقتهما، لإثبات صلابة وضع الكرملين وتوافر الموارد لخوض الحرب. غير أن الكرملين يعي أن التضامن مع إيران لا بد أن تكون له حدود واضحة، نظرا لمعارضة إسرائيل نشر طهران رادارات ومنصات للدفاع الجوي في سوريا.

ولهذه الأسباب مجتمعة، قد تنطوي تصرفات روسيا على تكتيك يهدف لتقليل الضغط عليها في أوكرانيا بالضغط على منافسيها في مناطق خارج أوكرانيا. والمخطط الذي كان من الممكن لكييف أن تجده مفيدا قد يكون أيضا جذابا لموسكو، التي لا تمتلك الكثير من الموارد لإنشاء أي خطوط حمراء في الظروف الحالية. مع ذلك، يحاول الكرملين جاهدا رسم خطوط حمراء تظهر لواشنطن أن عليها تقديم تنازلات في أوكرانيا وفي الأسلحة الاستراتيجية أيضا. على سبيل المثال، لم تخفِ موسكو رغبتها في إبرام معاهدة جديدة لمنع الحوادث في أعالي البحار وفي الجو شبيهة بالمعاهدة السوفياتية الأميركية لعام 1972، التي حدّدت، في حقبة الحرب الباردة من بين أمور أخرى، المسافة التي يسمح فيها للسفن والطائرات الحربية بأن تقترب من بعضها بعضا أثناء المناورات.

قد تنطوي تصرفات روسيا على تكتيك يهدف لتقليل الضغط عليها في أوكرانيا بالضغط على منافسيها في مناطق خارج أوكرانيا. والمخطط الذي كان من الممكن لكييف أن تجده مفيدا قد يكون أيضا جذابا لموسكو

ولكن أن تربط موسكو بعناية مناطق البحر الأسود والبحر الأبيض المتوسط في "حزمة" واحدة، فهو في الواقع أمر طبيعي تماما وليس خطة تكتيكية لمواجهة الأزمة. والحقيقة أن الكرملين لا يسترشد في هذا الأمر بالمنطق الدبلوماسي أو حتى السياسي، بل بالتفكير العسكري الخالص. وإذا أخذنا منطق التخطيط العسكري هذا في الاعتبار، يمكننا أن نقدم تفسيرا منطقيا لكثير من خطوات موسكو التي تبدو غير متوقعة.

مسرحا الحرب مسرح واحد


عندما باتت موسكو رسميا طرفا في الحرب الأهلية السورية عام 2015، بدا الكثير من حججها غير منطقي. وحتى أن كثيرا من المستشرقين الروس والباحثين في الشأن القوقازي، مثلا، شككوا دائما في الخط الرسمي القائل بأن الحملة في سوريا يفترض بها أن تساعد السلطات الروسية على "محاربة الإرهاب بمقاربات بعيدة". ويدرك الخبراء أن السلطات الروسية نفسها شجعت أشخاصا غير مرغوب فيهم على مغادرة شمال القوقاز إلى الشرق الأوسط، وذلك قبل دورة الألعاب الأولمبية الشتوية عام 2014 في سوتشي، ومن دون أن تولي هذه السلطات اهتماما كبيرا بالقضاء على الأسباب المؤدية إلى انتشار الأفكار المتطرفة بين المسلمين. ومع ذلك وقعت هجمات إرهابية في روسيا، وقد ربطها مرتكبوها ربطا مباشرا بالثأر من التدخل في سوريا.
وقد كان هناك أيضا كثير من الدبلوماسيين الروس ممن فهموا أن فرضية "محاربة التطرف" كانت مجرد دعاية، وأن العملية العسكرية كان لها أهداف وغايات مغايرة تماما، سياسية في المقام الأول.


ومع ذلك، فمن وجهة نظر الجيش الروسي تعتمد أفعال الكرملين على منطق قويم. والجيش هو من نسج سردية التدخل الروسي في الاتجاه الذي يحلو له.
وحسب التخطيط العسكري الروسي، فإن الجهة الاستراتيجية الجنوبية التي تتوافق مع المنطقة العسكرية الجنوبية، لا تشمل آسيا الوسطى ومنطقة البحر الأسود والحدود الروسية الأوكرانية فحسب، بل تشمل أيضا شمال القوقاز وجنوبه، وهي رأس جسر لنشر القوات في البحر الأبيض المتوسط. وفي الواقع، منذ الحرب مع جورجيا عام 2008، تلقت قوات المنطقة العسكرية الجنوبية معدات أكثر تطورا دون غيرها من المناطق الأخرى، وتلقت تدريبا أفضل على نحو بيّن.

رويترز
دندي اوكراني امام آلية مدرعة فرنسية الصنع في منطقة دونيتسك


وقد أدرجت شبه الجزيرة القرم وسيفاستوبول، بعد ضمهما، في المنطقة العسكرية الجنوبية عام 2014، ثم تلتهما أراضي دونباس عام 2023. وبسبب قرب شبه الجزيرة من سوريا، زود الجيش الروسي المتمركز في هذه المنطقة بسفن إنزال كبيرة من سيفاستوبول. كما نفذت سفن أسطول البحر الأسود وأسطول بحر قزوين، وهما جزء من المنطقة العسكرية الجنوبية، ضربات ضد أهداف للمعارضة وأهداف للإرهابيين في سوريا. كما أُعيد انتشار الطيران القتالي في الغالب من مطارات القرم لصالح العملية في سوريا، بينما شكلت وحدات المنطقة العسكرية الجنوبية العمود الفقري للشرطة العسكرية الروسية شرقي حلب.
 

يدرك الخبراء أن السلطات الروسية نفسها شجعت أشخاصا غير مرغوب فيهم على مغادرة شمال القوقاز إلى الشرق الأوسط، وذلك قبل دورة الألعاب الأولمبية الشتوية عام 2014 في سوتشي، ومن دون أن تولي هذه السلطات اهتماما كبيرا بالقضاء على الأسباب المؤدية إلى انتشار الأفكار المتطرفة بين المسلمين

ولكن حتى مع التغييرات الأخيرة، تظل المنطقة العسكرية الجنوبية أصغر منطقة عسكرية في روسيا، بينما تشمل مساحة مسؤوليتها المناطق الأكثر إشكالية والمعرضة أكثر للصراع. أما في التخطيط العسكري لحلف الناتو، فإن أهم رأس جسر لهجوم محتمل على شبه جزيرة القرم هو البحر الأبيض المتوسط. وقد رأت الولايات المتحدة منذ الحرب الباردة، الجزء الشرقي من هذا الحوض البحري الشاسع كمنصة ملائمة لـهجوم افتراضي على جنوب وسط روسيا من حاملات الطائرات وصواريخ توماهوك كروز.

روتيرز
طائراتا "اس يو - 25" روسيتان في سوريا


بعد بدء الحرب في أوكرانيا وبعد تدمير طراد الصواريخ الموجهة موسكفا والغرق القسري لسفينة الهبوط الكبيرة ساراتوف في بيرديانسك، حامت شكوك حول القدرة الحقيقية لأسطول البحر الأسود على القيام بعمليات قتالية على نحو فعال. وهذا ما يجعل روسيا تستعد الآن لنقل الأساطيل الروسية الأربعة وأسطول بحر قزوين من مناطقها العسكرية وإعادتها تحت إمرة القيادة الرئيسة للبحرية، كما كان في السابق، ليتمكن البحارة من المشاركة مباشرة في التدريب القتالي، متجاوزين الإجراءات البيروقراطية.
ولكن حتى في حال النقل المفترض للعمليات القتالية إلى شبه جزيرة القرم، فإن إمدادات المجموعة الروسية في سوريا ستظل دونما تغيير. وبعد قرار تركيا في عام 2022 بتقييد الرحلات الجوية العسكرية الروسية إلى سوريا وإغلاق المضائق التركية أمام السفن الحربية، أمست سيفاستوبول معزولة عما يسمى Syria" 
"Express، وبات عبء إمداد القوات الروسية وقوات نظام الأسد بالسلاح والمساعدات الإنسانية ينقل بكامله عن طريق سفن الشحن الجافة على امتداد مسار نوفوروسيسك- طرطوس- نوفوروسيسك. وكيما يصل الإمداد على نحو أسرع، تستخدم غالبا طائرات النقل التي تحلق عبر إيران والأردن منذ أكثر من عام، باستثناء الرحلات الجوية الفورية التي تحمل شحنات إنسانية، التي تسمح لها تركيا بعبور مجالها الجوي إلى حميميم.

عامل التعب


منذ نهاية أبريل/نيسان 2023، نشأ وضع غير مسبوق أمام القوات المسلحة الروسية قبالة السواحل السورية؛ حيث تم تقليص قدرات قوة المهام الروسية على نحو جذري، حيث غادرت البحر الأبيض المتوسط ثلاث سفن في وقت واحد- فرقاطة البحر الأسود الأدميرال غريغوروفيتش واثنان من طرادات البلطيق سوبرازيتلني، وستويكي. 
وقد أمضت طواقم الطرادين سوبرازيتلني وستويكي قرابة نصف عام (منذ أكتوبر/تشرين الأول 2022) في شرق البحر الأبيض المتوسط، بينما سجل طاقم الأدميرال غريغوروفيتش رقما قياسيا لم يسجَّل من قبل أيام الاتحاد السوفياتي ولا في أيام روسيا الحديثة. فقد غادرت السفينة سيفاستوبول متوجهة إلى سوريا في أكتوبر/تشرين الأول 2021 وبقيت في الخدمة القتالية طوال هذا الوقت دون أي رسو أو أي إصلاحات أخرى.
ولم يبقَ من السفن السطحية القتالية الكبيرة في المنطقة سوى فرقاطة الأدميرال غورشكوف، إضافة لغواصة حربية واحدة تعمل بالديزل والكهرباء من طراز "B-265" كراسنودار، وهي لا تكفي لخلق دفاع فعال على مقربة من الساحل السوري ضد تشكيل من السفن الكبيرة. ومن المستحيل استبدالها بسفن من سيفاستوبول بسبب الحظر التركي، والطريقة الوحيدة لتقوية المجموعة هي إرسال السفينة الكبيرة المضادة للغواصات الأدميرال ليفتشينكو من الأسطول الشمالي إلى الساحل السوري.
الشيء الوحيد الذي أسعف موقف روسيا، أن الولايات المتحدة قد سحبت الآن مجموعة من حاملات الطائرات بقيادة الحاملة "يو إس إس جورج إتش دبليو بوش" من البحر الأبيض المتوسط.
وهكذا، يواجه الجيش الروسي مهمة الحفاظ على نشاط دائم في البحر الأسود ومناطق البحر الأبيض المتوسط، وذلك لإبراز صورة القوة والاستجابة لمختلف تدريبات الناتو مثل مناورات نبتون سترايك 2022 للأسطول الأميركي السادس وممارسة الضغط السياسي على خصومه الجيوسياسيين.
لكن بسبب نقص السفن السطحية الكبيرة في الأسطول واستمرار الحظر التركي على مرور السفن الحربية الروسية عبر مضيق البوسفور والدردنيل، وهو ما يؤثر في قدرتها على إصلاح وتحديث سفن أسطول البحر الأبيض المتوسط، فإن القدرة الروسية على إبراز القوة في مسارح العمليات تلك- البحر الأسود والبحر الأبيض المتوسط- غير متكافئة. من الواضح أن من مصلحة الكرملين سد هذه الفجوة بالموارد المتاحة مثل نشاط الطيران.
 

font change

مقالات ذات صلة