بريغوجين في موسكو... حاجة لبقاء النظام

رويترز
رويترز

بريغوجين في موسكو... حاجة لبقاء النظام

لم يجد الكرملين مبررا لتوضيح خلفيات اجتماع الرئيس فلاديمير بوتين بممول شركة "فاغنر" للمرتزقة يفغيني بريغوجين. المتحدث باسم الرئاسة الروسية ديميتري بيسكوف قال أن بريغوجين و35 من قادة "فاغنر" لبوا دعوة بوتين إلى "لقاء حول مائدة" مستديرة في موسكو، وأعلن بريغوجين ولاءه الكامل ومرتزقته للرئيس الروسي.

الإعلان عن اللقاء يزيد الغموض حول ما جرى يوم الرابع والعشرين من يونيو/حزيران الماضي عندما وصلت طلائع عناصر "فاغنر" إلى نحو 200 كيلومتر من العاصمة الروسية، حيث كان من المتوقع أن يصفي بريغوجين حساباته مع وزارة الدفاع الروسية التي اتهمها قبل يوم واحد بقصف معسكرات عناصره في أوكرانيا بعدما منعت عنهم الذخائر على الرغم من إحراز المرتزقة مكاسب ميدانية عجز عنها الجيش الروسي تمثلت خصوصا في انتزاع مدينة باخموت من القوات الأوكرانية بعد ثمانية أشهر من المعارك الضارية.

وفي كلمة بثها التلفزيون الروسي في ذلك اليوم الدراماتيكي، اتهم بوتين زعيم "فاغنر" بالخيانة وبتوجيه طعنة إلى ظهر الجيش الروسي. وبعد ساعات قليلة، أعلن بريغوجين من روستوف التي تتخذها القوات المسلحة الروسية مقرا لإدارة عملياتها في أوكرانيا، انتهاء الزحف إلى موسكو مقابل إسقاط الملاحقات القضائية ضده.

عناصر "فاغنر" أسقطوا مروحيتين وطائرة تحكم وقيادة من طراز "إيل-22" في طريقهم إلى موسكو، ويقدر عدد العسكريين الروس الذين لقوا حتفهم في هذه الصدامات باثني عشر جنديا وضابطا

والحال أن الغموض ليس أمرا جديدا على كل ما يتعلق بـ"فاغنر" منذ نشأتها والبلدان التي تنتشر فيها والأدوار التي تؤديها هناك، ولا بشخصية ممولها وخلفيته وتاريخه الشخصي، وصولا إلى طبيعة خلافه مع المؤسسة العسكرية الروسية وأسبابه. لكن إذا وضعنا حجم التمرد الذي قاده بريغوجين واتساع رقعته من أوكرانيا إلى العمق الروسي وما انطوى عليه من خطر اندلاع حرب أهلية وإلحاق الدمار بالعاصمة وإهانة لا يمكن إنكارها لمكانة الدولة الروسية ومؤسساتها العسكرية والأمنية، ناهيك عن إضعاف موقع الرئيس بوتين، بدا أن دعوة بريغوجين وقيادات شركته إلى اجتماع "مائدة مستديرة" يثير العجب. 


فعناصر "فاغنر" أسقطوا مروحيتين وطائرة تحكم وقيادة من طراز "إيل-22" في طريقهم إلى موسكو، ويقدر عدد العسكريين الروس الذين لقوا حتفهم في هذه الصدامات باثني عشر جنديا وضابطا. وقد غادر بريغوجين في اليوم ذاته إلى بيلاروسيا لكن مواقع رصد حركة الطائرات أعلنت عودة طائرته الخاصة إلى العاصمة الروسية بعد ساعات. وليس مفهوما كيف تقبل أية دولة أن تتعرض قواتها المسلحة لإطلاق نار وخسائر من الصنف المذكور من دون أن تسعى إلى الاقتصاص من الفاعلين لما في ذلك من تجاوز فاضح للقوانين وللنظام العام وامتهان لكرامة الجيش. ثم تأتي الدعوة إلى الحوار مع قادة المجموعة التي تسببت في مقتل الطيارين من دون أي احتساب للمسائل القانونية. 
أما الرئيس البيلاروسي ألكسندر لوكاشينكو الذي يقال إنه تولى الوساطة بين بوتين وبريغوجين وأثنى الأول عن عزمه "سحق بريغوجين كالحشرة"، وتكفل بالتوصل إلى مخرج سلمي للموقف، فنفى وجود ممول "فاغنر" في بلاده، لكنه لم يكشف مصيره ولا إلى أين توجه بعد خروجه من روستوف مساء 24 يونيو/حزيران. 
 

يشير اللقاء في العاصمة الروسية إلى أن "فاغنر" لم تنته بعد، وأن منظومة السلطة الروسية، بمراكز القوى المختلة التي تسيّرها، لا تزال في حاجة إلى مرتزقة بريغوجين وإلى شبكاتهم في الداخل الروسي وفي الخارج

إضفاء بعض المنطق على سلسلة الأحداث التي تفتقر إلى الترابط والدوافع والمبررات المفهومة يستدعي التذكير بالبنية التي يتألف منها الحكم في روسيا والذي يغيب عن البال عند تناول الوضع الروسي عموما. ذاك أن السلطة الحالية تتكون من مجموعة من مراكز القوى والهيئات التي تدير كل منها جانبا من السلطة وتعمل على التعايش مع بعضها أو خوض صراعات مع من يحاول مصادرة بعض أوجه نفوذها. 

رويترز
لوكاشينكو اثناء مؤتمر صحافي في مينسك في 6 يوليو


وعليه، يشير اللقاء في العاصمة الروسية إلى أن "فاغنر" لم تنته بعد وأن منظومة السلطة الروسية، بمراكز القوى المختلة التي تسيّرها، لا تزال في حاجة إلى مرتزقة بريغوجين وإلى شبكاتهم في الداخل الروسي وفي الخارج، حيث أدت الشركة خدمات لا تنكر كثر الحديث عنها في تمدد النفوذ الروسي في أفريقيا والشرق الأوسط. يضاف إلى ذلك، أن تضاؤل دور "فاغنر" في الحرب الأوكرانية، قد تعوض عنه زيادة مهماتها في بيلاروسيا التي يبدو أن دورها يزداد أهمية في المواجهة بين روسيا وحلف شمال الأطلسي حيث تتشارك بيلاروسيا حدودا طويلة مع بولندا التي تعتبر من أشرس خصوم موسكو في "الناتو" والشريان الحيوي لمرور الإمدادات العسكرية الغربية إلى أوكرانيا. 
يعزز من هذا الاعتقاد دفع موسكو عددا من الصواريخ النووية التكتيكية إلى أراضي بيلاروسيا، في خطوة قيل إنها لحمل الغرب على التخفيف من اندفاعه في تقديم أسلحة نوعية وطويلة المدى إلى كييف. 
من جهة ثانية، يشير اجتماع بوتين– بريغوجين إلى طبيعة العلاقات في الدوائر الأعلى من السلطة الروسية. فمقابل عدم مبالاة الكرملين الكبيرة بمحاسبة من خرج عليه متمردا وأسقط طائراته وقتل ضباطه، وعدم تفسير كيف يمكن دعوة "خائن" وشركائه إلى اجتماع في العاصمة، تبدو الحاجة إلى توظيف كافة العناصر المتاحة في المجهود الحربي غاية في الأهمية، سواء مباشرة أو من خلال استغلال خبرات بريغوجين في تلبية مصالح التحالف الحاكم في روسيا. 


ولم يخف أي من المسؤولين الروس الطابع المصيري للحرب في أوكرانيا. وربما يكون بعضهم قد بالغ في ربط مستقبل روسيا وشعوبها بما ستسفر عنه تلك الحرب. لكن الواضح أن النظام– وبوتين على رأسه- سيعاني معاناة قاسية في حال لم يجر تثبيت الإنجازات الروسية في أوكرانيا ومنع وقوع هزيمة واضحة ستنتقل آثارها حكما إلى الداخل الروسي. 
 

font change

مقالات ذات صلة