حرب أوكرانيا تطيح التوازنات الروسية

حقيقة وزن "فاغنر" وصاحبها يفغيني بريغوجين في السلطة الروسية

AFP
AFP
مقاتلون من مجموعة "فاغنر" يعتلون إحدى الشرفات في مبنى رئيسي بوسط مدينة روستوف، جنوب روسيا، 24 يونيو 2024

حرب أوكرانيا تطيح التوازنات الروسية

رصدت تطبيقات تتبع حركة الطائرات مغادرة العديد من الطائرات الخاصة، بعض مسجل باسم مسؤولين حكوميين، مطارات موسكو في اتجاه العاصمة الثانية سانت بيترسبورغ ومدن في الاورال.

حركة الطائرات قد لا تشير إلى انهيار بنى السلطة في روسيا على ما ذهب البعض، بل ربما تشير إلى إبعاد كبار أركان السلطة عائلاتهم عن موقع الاضطرابات المقبلة. بيد أن ذلك يكفي للدلالة على حجم المشكلة التي يواجهها الحكم في موسكو منذ أعلن ممول شركة المرتزقة "فاغنر" تمرده على وزارة الدفاع التي اتهمها بقصف مواقع عناصره في أوكرانيا.

لكن ما حقيقة وزن "فاغنر" وصاحبها يفغيني بريغوجين في السلطة الروسية. قصة صعود الرجل من بائع مأكولات متوجل بعد خروجه من السجن أوائل التسعينات وتحوله إلى أحد رموز كرملين فلاديمير بوتين وأحد مراكز القوى في موسكو، باتت معروفة وتنطوي على ملخص غير منظور عن تركيبة السلطة الحالية المؤلفة من تحالف شكله بوتين في أولى سنوات رئاسته ليحل مكان ذاك الذي أمسك الحكم بالبلاد في عهد بوريس يلتسين بين انهيار الاتحاد السوفياتي واندلاع الحرب الشيشانية الثانية في 1999.

التقارير الأخيرة تتحدث عن وصول قوات "فاغنر" الى مدينة فورونيج في طريقها من روستوف إلى موسكو التي تعهد بريغوجين بالقضاء على كل من يقف عائقا أمام وصوله إليها وحيث سيطيح بوزير الدفاع سيرغي شويغو خصمه اللدود وبرئيس الأركان فيتالي غيراسيموف اللذين اتهمها بقطع الإمدادات عن قواته أثناء معركة باخموت الضارية قبل أن يأمر شويغو- بحسب زعيم "فاغنر"- بقصف معسكرات عناصره قرب خطوط القتال.

اقرأ أيضا: باخموت سقطت لكن "مفرمة اللحم" لم تتوقف

لكن فورونيج تبعد حوالى 550 كيلومترا جنوب موسكو. والمعلومات المتوافرة لا تتحدث عن وقوع صدامات تذكر بين المرتزقة وقوات الأمن والجيش النظامي لا في روستوف ولا على الطريق إلى فورونيج في حين أن التحركات العسكرية داخل العاصمة موسكو لا تشي بأن حدثا جللا سيقع لاقتصارها على نشر بعض المدرعات من دون أن تتأثر الحياة العادية في المدينة.

Reuters
رجل يحمل لافتة لدعم الرئيس الروسي فلاديمير بوتين بينما يظهر الكرملين في الخلفية، 24 يونيو 2023

يعطي ذلك انطباعا غذته مواقع "البلوغر الحربيين" الروس أن ثمة تنسيقا غير مرئي بين "فاغنر" وبين أجنحة في الدولة الروسية لفرض تغيير كبير داخل السلطة التي أساءت إدارة الحرب في أوكرانيا على نحو هدد مراكز القوى وقدم بعضها على البعض الآخر في انتهاك للتوازن الذي أرساه بوتين في أعوام حكمه الأولى كما سلفت الإشارة بين الجيش وأجهزة المخابرات وكبار المتمولين الذين راكموا ثرواتهم "بوسائل مثيرة للجدل" (وهو التعبير الملطف للنهب والفساد الذي فاق التصور في التسعينات) وبين أرباب صناعة النفط والغاز وبين قادة المناطق الذين حصلوا على جوائز ترضية بتوسيع مكاسبهم خشية تكرار ظاهرة الانفصاليين الشيشان.

ثمة تنسيق غير مرئي بين "فاغنر" وبين أجنحة في الدولة الروسية لفرض تغيير كبير داخل السلطة التي أساءت إدارة الحرب في أوكرانيا على نحو هدد مراكز القوى وقدم بعضها على البعض الآخر في انتهاك للتوازن الذي أرساه بوتين في أعوام حكمه الأولى 

إعادة صياغة التوازنات الداخلية

وإذا كانت أسباب الحروب ضد الخارج داخلية في العمق، على ما يُفهم من حديث بريغوجين الأخير عن "الأكاذيب" التي أغرقت السلطات الروسية مواطنيها بها عن الأسباب الحقيقية التي حملتها على إطلاق "العملية العسكرية الخاصة" ضد أوكرانيا، أي عن تراجع أهمية الخطر الذي يشكله انضمام كييف إلى حلف النيتو على الأمن القومي الروسي، مقابل بروز الدوافع الداخلية كإعادة صياغة التوازنات بين أجهزة الأمن والجيش اللذين تضخم دروهما في ظل عملية إعادة بناء الجيش الروسي التي بدأت في منتصف العقد الاول من الألفية، والخضوع الكلي للاوليغارشيين الذين وافقوا على استمرارهم بأعمالهم شرط عدم التدخل في الشأن السياسي (القلة التي رفضت هذا الشرط أُلقيت في السجون أو ذهبت إلى المنافي)، والاعتماد المفرط على صادرات النفط والغاز كأدوات لتحقيق السياسات الخارجية خصوصا حيال أوروبا.

مقاتلون من مجموعة "فاغنر" على متن دبابة بوسط مدينة روستوف في جنوب روسيا، 24 يونيو 2024

بديهي أن القراءة هذه تتعارض مع دعاة المدرسة "الواقعية" الغربية الذين يجعلون من إصرار حلف النيتو على ضم أوكرانيا إلى صفوفه وتزويدها بالسلاح، السبب الرئيس للحرب، من دون أن تأخذ في الاعتبار المعطى الداخلي الروسي.

هذا النوع من التفسير الجيوسياسي الذي يثبت مرة تلو الأخرى عجزه عن الإحاطة بالصورة الكاملة للعلاقات الدولية وللصراعات ولدوافعها الداخلية العميقة بتصويره الحروب على أنها مشكلات بين كيانات متجانسة في داخلها ولا تناقضات فيها سوى مع الخارج، التفسير هذا لم يأخذ في الاعتبار حقيقة أن الفشل في المرحلة الأولى من الحرب الأوكرانية ستكون له عواقب وخيمة على توازنات مراكز القوى في موسكو.

الفشل في المرحلة الأولى من الحرب الأوكرانية ستكون له عواقب وخيمة على توازنات مراكز القوى في موسكو

فلو نجحت "العملية الخاصة" في السيطرة على كييف في ثلاثة أيام في فبراير/ شباط  2022 ولو حقق الإنزال الروسي في مطار هوستوميل في ضواحي العاصمة الأوكرانية هدفه بفتح الطريق أمام القوات الروسية الخاصة إلى قلب كييف، لكانت الصورة مختلفة تمام الاختلاف الآن ولما ظهر بريغوجين ولما برزت الحاجة- في المقام الاول- إلى الاستعانة به لسد الثغرات في خطوط الجبهات الروسية في باخموت وغيرها.

واليوم نرى بالعين المجردة كيف انجدل المعطى الروسي الداخلي على الإخفاق العسكري في ميدان القتال وبات من الصعب على الجهات التي تؤلف التحالف الحاكم في موسكو القبول بدور محوري للجيش وأجهزة الامن (التي فشلت فشلا ذريعا هي الأخرى في تقييم مخاطر الحرب وردود فعل الغرب وقدرات الجيش الأوكراني عشية اندلاع القتال) في الإمساك بقرار الحرب والسلم من دون أي أفق سياسي سوى استمرار التشبث بالقتال كطريق وحيد للخروج من المأزق الحالي.

والتاريخ الروسي، القديم والحديث، حافل بالمفاجآت والتحولات العاصفة والسريعة. عليه ستكون مقامرة غير مجدية وضع سيناريوهات للأحداث المقبلة في ظل تعقيد التوازنات الداخلية والخطر الحقيقي الذي يشكله نجاح الجيش الأوكراني في تحقيق اختراق يفصل منطقة شبه جزيرة القرم عن الدونباس ما يجعل القرم في حالة حرجة وبالتالي يضع نظام بوتين بأسره في مهب الريح.

ملاحظة أخيرة قد تكون من باب الطرفة، لكنها عميقة الدلالة على وضع الداخل الروسي وهي تطوع زعيم الشيشان الموالي لموسكو للدفاع عنها في وجه مرتزقة بريغوجين. الأمر يحتاج إلى تأمل طويل للخروج بحكمة من تحول روسيا الى أرض لاقتتال الميليشيات والجيوش شبه المهزومة.

font change

مقالات ذات صلة