بين فتوحات أبي بكر الصديق والإسكندر

بين فتوحات أبي بكر الصديق والإسكندر

كان لحركة الفتوح الإسلامية التي حدثت في القرن الأول الهجري أثر هائل في تشكيل التاريخ، وتغيير خريطة العالم، وطي صفحة من الحقب البشرية تدعى "العصور القديمة"، والبدء بصفحة أخرى أطلق عليها "العصور الوسطى".

الحدث الكبير الذي فاجأ سكان الأرض هو كيف لأمة لم يكن لها حضور في المشهد العالمي، وكانت تعاني لقرون من التفكك والحروب الأهلية، والهجرات الجماعية، أن تثب هكذا فجأة، ثم في سنوات قصيرة تقوّض الأمبراطورية الفارسية التي يعود عمرها الى مئات السنين، فتصبح أثرا بعد عين، ثم تحاصر الأمبراطورية البيزنطية فتسلبها أهم مدنها وممالكها، الواحدة تلو الأخرى، فتضيق عليها الخناق في عاصمتها القسطنطينية؛ ذلك كله في زمن قصير جداً، بحيث لم يستوعب العالم بعد هول المفاجأة، ولم يتعرف بشكل جيد على هؤلاء العرب، الذين كشفوا عن لثامهم، وأعلنوا أنفسهم قادة جددا للعالم، فسيطروا على عواصم الحضارات القديمة، وأصبح البحر الأبيض المتوسط بحيرة إسلامية خالصة.

كانت تلك اللحظة مثيرة للدهشة والذهول، حين أطلق الخليفة الراشدي أبو بكر الصديق من عاصمة الدولة، المدينة المنورة، أكثر القرارات المفاجئة، فأمر بتوجيه جيشين في الوقت نفسه لمواجهة أعظم امبراطوريتين في العالم. بالفعل، فتح ذلك القائد المحنك على نفسه جبهتين مع أقوى جيوش العالم وأكثرها تنظيما، لكن النتيجة كانت واحدة من معجزات التاريخ، وأعظمها أثرا في تغيير مساره، ومنذ ذلك الحين كان الكثير من المؤرخين والمستشرقين والباحثين يقفون أمام ذلك الحدث بذهول، يبحثون عن تفسير هذا اللغز وفك أسراره. يشير إلى هذا عباس العقاد في كتابه "عبقرية خالد"، فيقول: "في سبع سنين قصار فتح العرب كل ما اقتحموه من بلاد الفرس والروم، فتقوّضت في الشرق دولة الأكاسرة، وتداعت في الشمال والغرب دولة القياصرة، وزال سلطانها من الشام وفلسطين ومصر وأفريقيا الشمالية، وشغلت بنفسها زمانا عن الفاتحين وما فتحوه. عجيبة من أعظم عجائب التاريخ... لا يبرح المؤرخون حتى أيامنا هذه يأتون في تعليلها كل يوم بعلل جديدة، ويفيضون في شرح السوابق واللواحق على النحو الذي يفسر العجب بالمألوف، ويرد الدهشة الجامحة إلى قرار البحث والتدليل".

يبدأ ويل ديورانت حديثه عن عصر الحضارة الإسلامية في كتابه "قصة الحضارة" بالإشارة الى هذا الحدث الهائل، حيث يقول: "ولد محمد (صلى الله عليه وسلم) في أسرة فقيرة في إقليم ثلاثة أرباعه صحراء مجدبة قليلة السكان، أهله من قبائل البدو الرحل، إذا جمعت ثروتهم كلها فإنها لا تكاد تكفي إنشاء كنيسة أيا صوفيا. ولم يكن أحد في ذلك الوقت يحلم أنه لن يمضي قرن من الزمان حتى يكون أولئك البدو قد فتحوا نصف أملاك الدولة البيزنطية في آسية، وجميع بلاد الفرس، ومصر، ومعظم شمالي أفريقية، وساروا في طريقهم إلى إسبانيا. والحق أن ذلك الحادث الجلل الذي تمخضت عنه جزيرة العرب، والذي أعقبه استيلاؤها على نصف عالم البحر المتوسط ونشر دينها الجديد في ربوعه، لهو أعجب الظواهر الاجتماعية في العصور الوسطى".

فقد كانت فارس وبيزنطة الدولتين الوحيدتين اللتين تتمتعان بقوة عالمية، في حين لم يكن العرب شيئاً مذكوراً، فمَن من معاصري تلك الفترة كان باستطاعته أن يتكهن مثل هذا الحدث، وما هي الأمور المحتملة الوقوع

فيليب حتي

في كتابه "تاريخ سورية ولبنان وفلسطين" يتحدث المؤرخ اللبناني فليب حتي عن صفحة التاريخ التي تبدلت "عشية ظهور الإسلام"، حيث يبرز في الحقبة الأخيرة من العصور القديمة حدثان مهمان: الأول هجرة القبائل الجرمانية التي انتهت بسقوط الأمبراطورية الرومانية في الغرب، والثاني: انطلاق القبائل العربية الإسلامية الذي أزال الأمبراطورية الفارسية، وسلخ عن الأمبراطورية البيزنطية أفضل أقاليمها. يقول حتي: "وكان الحدث الثاني أروح الحدثين مظهراً، فقد كانت فارس وبيزنطة الدولتين الوحيدتين اللتين تتمتعان بقوة عالمية، في حين لم يكن العرب شيئاً مذكوراً، فمَن من معاصري تلك الفترة كان باستطاعته أن يتكهن مثل هذا الحدث، وما هي الأمور المحتملة الوقوع".

يعقد فيليب حتي مقارنة بين الفتوحات الإسلامية التي تمت في القرن الأول الهجري، وبين فتوحات الإسكندر المقدوني، حيث يرى أن أثر الفتوحات الإسلامية في مجرى الاجتماع والتاريخ أكبر من فتوحات الإسكندر المقدوني، "فعلى مدى عقد من الزمان بدل الفتح الإسلامي وجه الشرق الأدنى، وفي مدى قرن بدل وجه العالم المتمدن. وذلك فوق ما يستطيع فتح الإسكندر أن يدعيه. فالفتوحات الإسلامية بعيدة عن أن تعتبر من قبيل الأحداث العارضة، فقد قام الدليل على أنها كانت عاملاً حاسماً في تطوير مجتمع العصور الوسطى، وتحويل البحر الأبيض المتوسط إلى بحيرة إسلامية، قاطعة بذلك الصلة البحرية بين الشرق والغرب، هذا فضلاً عن أن احتلال شواطئ المتوسط، الشرقية والغربية والجنوبية، كوّن عالماً جديداً، هو العالم الذي عاش فيه شارلمان (768-814م) ومعاصروه، وبذلك انتهى العصر القديم وبدأت العصور الوسطى".

اهتم عدد كبير من الباحثين المعاصرين، غربيين وعربا، ببحث دوافع أحداث التاريخ الإسلامي، وتفسير العوامل المحرّكة له، وعلى مقدم ذلك دراسة دوافع الفتوح الإسلامية، ويأتي هذا في سياق الاهتمام المتزايد في العصر الحديث بدراسة العوامل المؤثرة في سير التاريخ. وقد عقد المؤرخ القدير صالح أحمد العلي في كتابه "الفتوحات الإسلامية" فصلا لتناول هذه المسألة، حيث يرى أن هناك دراسات متتالية اهتمت بهذا الأمر كثيرا، وهي تفترض مبدئيا أن الأحداث التاريخية على الرغم من تنوعها فإن فيها اتجاهات عامة تنظمها وتعبر عن سيرها، فهي كالقوانين الجبرية التي تنظم حركة البشرية، ولكن الدارسين اختلفوا في القوة الرئيسة الموجهة لسير الأحداث، فمنهم من ردها إلى العوامل العرقية، ومنهم من عزاها إلى العوامل الجغرافية، أو الاقتصادية، أو الدينية. وقد حاول أغلب المفكرين إرجاع سير الأحدث إلى عامل وحيد أو رئيس. ولكن مما يؤخذ على بعض تلك الدراسات أنها قامت بفرض آرائها على تاريخ الإسلام، ولي أعناق الأحداث والوقائع حتى تكون متوافقة مع ذلك السبب التي اختاره الباحث عاملاً رئيساً في تفسيره لحركة التاريخ.

في سبع سنين قصار فتح العرب كل ما اقتحموه من بلاد الفرس والروم، فتقوّضت في الشرق دولة الأكاسرة، وتداعت في الشمال والغرب دولة القياصرة... عجيبة من أعظم عجائب التاريخ

عباس العقاد

عرض بعض المستشرقين أفكارا في مسألة تفسير دوافع الفتوح الإسلامية، برز فيها اتجاهان رئيسان، أولهما: التفسير الاقتصادي، والثاني: التفسير الديني، وكان من أبرز من أكد الدافع الاقتصادي في الفتوح الإسلامية المؤرخ كارل بيكر، الذي كان يرى أن الفتوح الإسلامية هدفها تأكيد السيادة السياسية للعرب فحسب، إذ أن العرب لم يجبروا أحداً على اعتناق الإسلام، واكتفوا بأخذ الجزية ممن لا يريد اعتناقه، مما يعني أن حركة الفتوحات الإسلامية لم تكن حركات تبشيرية لتحويل الناس إلى الدين الإسلامي، بل إن هذا التمدّد العربي لم يكن مفاجئا، فالهجرات العربية من الجزيرة إلى الأقاليم المجاورة كانت قائمة منذ أزمنة قديمة، وكان مردّها إلى التدهور الاقتصادي الذي كانت تعانيه جزيرة العرب، "حيث الدافع الحقيقي كان الجوع والحاجة، أما الدين الإسلامي فقد خلق حماسة في المقاتلة وتنظيماً للحركة وتوحيداً في إداراتها"، كما يرى كارل بيكر.

يتفق مع هذا الأمر فيليب حتي حيث انتقد التعليل التقليدي الذي تعلل به الفتوحات الإسلامية بأنها "جهاد ديني"، إذ يرى أن التوسع الإسلامي كان حلقة من سلسلة الهجرات، أو موجات النزوح، حملت الفائض من سكان البادية القاحلة إلى ما يتاخم الهلال الخصيب، وقد كان بواقع الأمر الشوط الأخير من أشواط النزوح المتواصلة التي بدأت من الهجرة البابلية قبل ذلك بنحو أربعة آلاف سنة، لكن ما يميز الموجة الإسلامية أنها كانت ذات طابع مميز هو الدافع الديني، وقد كان اجتماع العامل الديني بالدافع الاقتصادي ما جعل الحركة أمراً لا يُدفع، تخطى به حدود الهجرات السابقة إلى مدى بعيد، "على أنه لا بد لنا من الاعتراف بأن الإسلام كان بمثابة صيحة الحرب، فقد عمل على توثيق القبائل، وتجميع الأشتات المتناثرة التي لم يسبق لها ان اتحدت من قبل".

هذه الحركة العربية الكبرى بلغت في أقصى توسعها أطراف الصين شرقا، وفرنسا غربا، وحملت بين جناحيها روح الثقافة العربية الإسلامية، ولغة القرآن، فازدهرت الحضارة والعلوم والفنون والعمارة والثقافة والأدب في ربوع تلك الأرض الشاسعة التي بلغت أكثر من ثلث العالم، وأصبحت اللغة العربية لغة العلم والمعرفة، ودفع العلماء العرب والعباقرة المبدعون في عصر الإسلام الذهبي حركة التطور الإنساني أشواطا كبيرة، ووضعوا الأسس التي قامت عليها النهضة العلمية الحديثة.

font change