سبعة شهور من حصار ناغورنو كاراباخ

فرضت أذربيجان تدريجيا حصارا شاملا على كاراباخ، وأوقفت النقل، وقطعت كذلك تدفق الكهرباء والغاز من أرمينيا

Shutterstock
Shutterstock

سبعة شهور من حصار ناغورنو كاراباخ

هل سمع أي منكم أن السكان الأرمن في ناغورنو كاراباخ قابعون تحت الحصار الخانق منذ سبعة أشهر الآن؟ أغلب الظن أنكم لم تسمعوا بذلك. ولكن الحقيقة أن المنطقة بأسرها التي يبلغ تعداد سكانها 120 ألف نسمة تعيش تحت الحصار منذ سبعة أشهر. وكلما مر الزمن، تضيق أذربيجان الخناق على السكان، بسبب غياب أي رد فعل دولي يذكر على فعل يمكن وصفه بأنه "جريمة ضد الإنسانية".

ومع ذلك، أصدرت محكمة العدل الدولية يوم 23 فبراير/شباط الفائت أمرا يقضي بأن على أذربيجان "اتخاذ جميع التدابير المتاحة لضمان عدم إعاقة حركة الأشخاص والمركبات والبضائع على طول ممر لاتشين في كلا الاتجاهين". وحتى اللجنة الدولية للصليب الأحمر التي لا تحبذ الظهور في الإعلام عادة وجهت نداء عاجلا، وطالبت برفع الحظر العاجل عن الوصول إلى كاراباخ ودقت ناقوس الخطر بالقول:

"إن عشرات الآلاف من الأشخاص يعتمدون على المساعدات الإنسانية التي تصلهم عبر هذه الطرق. والآن، يواجه السكان المدنيون نقصا في الأدوية الضرورية والسلع اللازمة للحياة مثل منتجات النظافة وحليب الأطفال، كما أصبحت الفواكه والخضراوات والخبز نادرة ومكلفة بشكل متزايد، في حين تُفقد المواد الغذائية الأخرى مثل منتجات الألبان وزيت عباد الشمس والحبوب والأسماك والدجاج من الأسواق. وكانت آخر مرة سُمح فيها للجنة الدولية بإحضار مواد طبية ومواد غذائية أساسية إلى المنطقة قبل عدة أسابيع".

سوى أن ذلك كله لم يمنع القوات الأذربيجانية من احتجاز قافلة من الشاحنات تنقل 360 طنا من المساعدات الغذائية العاجلة، مرسلة من أرمينيا إلى ناغورنو كاراباخ المحاصرة. هذه المواد تكفي فقط لتلبية احتياجات المدنيين ال120 ألفا الذين تحاصرهم أذربيجان لمدة يومين فقط. وتستخدم القيادة الأذربيجانية تكتيكات الحصار القروسطية لإخضاع السكان المستقلين من أصل أرمني في كاراباخ.

وعلى الرغم من كل ذلك، لم تجد صناعة الإعلام أن مصير ناغورنو كاراباخ وسكانها أمر "يستحق النشر". ناغورنو كاراباخ اليوم هي قطاع غزة الجديد: أرض وسكان يعيشون تحت الحصار، يعاقبون فقط بسبب هويتهم.

الحصار الأذربيجاني خطوة بخطوة

تخضع ناغورنو كاراباخ– أو أرتساخ كما تسمى باللغة الأرمينية- منذ 12 ديسمبر/كانون الأول 2022 لحصار كامل من الجيش الأذربيجاني.

في البداية، في 12 ديسمبر/ كانون الأول، أرسلت أذربيجان قواتها الخاصة ومسؤولين حكوميين متنكرين بزي "نشطاء بيئيين" لقطع الطريق الوحيد الذي يربط كاراباخ بأرمينيا، وبالتالي بالعالم الخارجي، متظاهرين بالاحتجاج من أجل الحفاظ على البيئة. وفي وقت لاحق، في 25 مارس/آذار، انسحب "دعاة حماية البيئة" الأذربيجانيون، ليحل محلهم الجيش الأذربيجاني الذي استولى علنا على مواقع استراتيجية على امتداد ممر لاتشين، مما زاد من إعاقة أي نقل محدود بين كاراباخ وأرمينيا. ولمدة ستة أشهر، لم تظهر القوى الغربية أو روسيا أي معارضة للأعمال الأذربيجانية، ولم تكن هناك عقبة أمام أذربيجان لتشديد الحصار، فأغلق الجيش الأذربيجاني الجسر فوق ممر لاتشين في 23 أبريل/نيسان بشكل كامل من خلال نصب نقطة تفتيش وإغلاق الطريق بكتل خرسانية.

أصدرت محكمة العدل الدولية يوم 23 فبراير/شباط الفائت أمرا يقضي بأن على أذربيجان "اتخاذ جميع التدابير المتاحة لضمان عدم إعاقة حركة الأشخاص والمركبات والبضائع على طول ممر لاتشين في كلا الاتجاهين"

ثم جاء التطور الأخير من هذا الحصار الشامل في 15 يونيو/حزيران عندما أوقفت أذربيجان نهائيا حتى النقل المحدود الذي كانت تقوم به اللجنة الدولية للصليب الأحمر، لنقل كميات قليلة من الأدوية إضافة الى المرضى بين المنطقة المحاصرة وأرمينيا لتلقي العلاج. بعدها كان الجيش الأذربيجاني يوقف حتى سيارات الإسعاف التابعة للجنة الدولية التي تنقل الأشخاص المصابين بأمراض خطيرة، ويأمر الركاب بالخروج من المركبات التي يسطو عليها المسعفون الأذربيجانيون، وهي أفعال ينظر إليها السكان الأرمينيون على أنها أفعال مذلة.

AFP

وفرضت أذربيجان تدريجيا حصارا شاملا على كاراباخ، وأوقفت النقل، وقطعت كذلك تدفق الكهرباء والغاز من أرمينيا. والآن، يشرف سكان كاراباخ البالغ عددهم 120 ألفا على حافة الموت جوعا، فهم يفتقرون إلى العلاج والطاقة والمواصلات. ويبدو أن السلطات الأذربيجانية اختارت إخضاع السلطات الأرمينية في كاراباخ للأمر الواقع أو ببساطة تجويع المنطقة حتى الموت.

تدهور الظروف

حتى قبل بدء الحصار، كان الجنود الأذربيجانيون يطلقون النار بانتظام على العمال الزراعيين الأرمن الذين كانوا يعملون في حقولهم. وتكثفت عمليات إطلاق النار هذه مؤخرا، كما لو أن الهدف غير المعلن لم يكن فقط وقف أي واردات من المواد الغذائية، ولكن أيضا إعاقة القدرة المحلية على إنتاج الإمدادات الغذائية.

أدى الحصار إلى تدهور الحياة اليومية للسكان المدنيين في كاراباخ. أرفف المتاجر خالية من المواد الغذائية الأساسية وتغلق الأسواق أبوابها ببساطة بسبب نقص المواد الغذائية للبيع. وأوقفت المواصلات العامة خدماتها بسبب نقص الوقود، وأغلقت المدارس، وتوقف العمل الزراعي بسبب نقص الديزل لتوليد الكهرباء، وأفرطت سلطات ناغورنو كاراباخ مرغمة في استخدام الموارد المائية لخزان سرسنك في أشهر الشتاء، حتى بات الخزان الآن فارغا من الماء، مما يعني أن الحقول الزراعية في اتجاه مجرى النهر لن تتلقى أي مياه خلال أشهر الصيف الحارة.

صراع العقود الثلاثة

هذه المأساة التي هي من صنع الإنسان استمرار لنزاع دام ثلاثة عقود للسيطرة على أرض جبلية وعلى سكانها، فهو صدام بين مجموعتين عرقيتين وهو كذلك صراع على مبدأين، حيث يصر الأرمن على حق الشعب في تقرير المصير، بينما تصر أذربيجان على وحدة أراضيها. إن صراع كاراباخ هو أول نزاع عرقي إقليمي في الاتحاد السوفياتي، فقد كانت منطقة ناغورنو كاراباخ (جبل كاراباخ) المتمتعة بالحكم الذاتي في العهد السوفياتي منطقة جبلية ذات عرقية أرمنية، ولكن السوفيات وضعوها داخل أذربيجان السوفياتية، بدلا من أرمينيا المجاورة السوفياتية. 

في 20 فبراير (شباط) 1988، عندما صوت مجلس السوفيات المحلي (الهيئة التشريعية) على اقتراح يطالب موسكو بفصل منطقتهم عن حكم أذربيجان السوفياتية، والتوحد مع أهاليهم من المجموعة العرقية نفسها في أرمينيا المجاورة، والتي هي أيضا سوفياتية مثلهم. كان سبب هذا المطلب الذي حظي بتأييد شعبي واسع في كاراباخ هو التمييز المنهجي ضدهم من قبل السلطات الأذربيجانية، وقد تأملوا خيرا في  "البيريسترويكا والغلاسنوست" التي وعدهم بهما مخائيل غورباتشوف واللتين تعنيان إعادة الهيكلة واتباع سياسة الانفتاح والشفافية، بالإضافة إلى إصلاح النظام السوفياتي ومراجعة المظالم السابقة.
 

يشرف سكان كاراباخ البالغ عددهم 120 ألفا على حافة الموت جوعا، فهم يفتقرون إلى العلاج والطاقة والمواصلات

إلا أنه بعد أسبوع من مطالبة سكان كاراباخ بتغيير وضع منطقتهم، اندلعت المذابح المعادية للأرمن على بعد 300 كيلومتر، في مدينة سومغيت الصناعية، واستمرت المذابح ثلاثة أيام هاجمت خلالها مجموعات من الشبان منازل الأرمن وقاموا بالقتل والاغتصاب والحرق. حولت مذابح سومغيت الصراع السياسي حول الوضع الإداري لمنطقة ريفية، إلى صراع بين الطوائف، وكذلك التبادل السكاني بين أرمينيا وأذربيجان، وكانت كلتاهما لا تزال ضمن الاتحاد السوفياتي. كما أن مذبحة سومغيت وضعت نهاية للآمال في إصلاح الاتحاد السوفياتي وبداية تفككه السريع.

ومع الانهيار غير المتوقع لاتحاد الجمهوريات الاشتراكية السوفياتية، أصبحت أرمينيا وأذربيجان دولتين مستقلتين وقد خاضتا بالفعل حربا ضد بعضهما البعض من أجل السيطرة على كاراباخ، استمرت هذه  الحرب لمدة 3 سنوات، وقد خلفت وراءها ما يقدر بنحو 30 ألف قتيل ومئات الآلاف من اللاجئين من كلا الجانبين. وفي حرب كاراباخ الأولى، برزت القوات الأرمينية المنتصرة، وسيطرت ليس فقط على ناغورنو كاراباخ، بل سيطرت كذلك على أجزاء من أذربيجان المحيطة بها، وعندما تم التوقيع على وقف إطلاق النار في مايو/أيار 1994، كان الجانبان منهكين من المجهود الحربي.

وعلى مدى 26 عاما، فشلت المفاوضات الدبلوماسية التي توسطت فيها منظمة الأمن والتعاون في أوروبا في تحقيق نتائج، ومع ذلك، كان الطرفان على وشك التوصل إلى اتفاق يقوم على اعتراف أذربيجان بحق تقرير المصير في كاراباخ، وفي المقابل يعيد الجانب الأرمني الأراضي الأذربيجانية حول ناغورنو كاراباخ المحتلة خلال الحرب. كان حيدر علييف على وشك التوقيع على هذه الاتفاقية، بدافع من حقيقة أنه كان يعد ابنه إلهام لخلافته، وأراد حل المشكلة الكبرى التي تواجهها بلاده قبل أن يتقلد ابنه المنصب الرئاسي، لكن الاتفاق لم يتم بسبب المعارضة القوية من بين مساعديه المقربين.

Shutterstock

وفي عام 2003 خلف إلهام علييف والده في منصب رئيس أذربيجان، وقد تزامن ذلك مع إنشاء خط أنابيب عام 2005 يربط باكو واحتياطيات النفط البحرية في بحر قزوين بمحطة جيهان البحرية التركية، ولم يجلب ذلك مليارات الدولارات الأميركية إلى خزائن أذربيجان فقط، بل عزز أيضا تحالف أذربيجان مع تركيا، وقد تلاشت الرغبة في التوصل إلى حل تفاوضي، حيث أنفقت أذربيجان مليارات الدولارات على الأسلحة الحديثة من روسيا وإسرائيل وتركيا.

وقد اندلعت حرب كاراباخ الثانية في 27 سبتمبر/أيلول 2020، في ذروة انتشار جائحة كوفيد-19، عندما شنت أذربيجان هجوما واسعا على مواقع دفاعية لقوات كاراباخ. بعد أربعة وأربعين يوما، مع تقدم القوات الأذربيجانية في عمق ناغورنو كاراباخ والتوغل في مدينة شوشي الاستراتيجية، جرى التوصل إلى اتفاق لوقف إطلاق النار بوساطة روسية، شمل إعادة الجانب الأرميني المقاطعات الأذربيجانية المتبقية، ونشر نحو 2000 جندي حفظ سلام روسي في المناطق المتبقية من منطقة ناغورنو كاراباخ السابقة التي لا تزال تحت السيطرة الأرمينية.

توقف الحرب لا يعني نهاية الصراع 

قبل حرب 2020، وعد الزعيم الأذربيجاني بـحصول أرمن كاراباخ على "أعلى مستوى من الحكم الذاتي" من أجل إنهاء الصراع، إلا أنه بعد حرب عام 2020 وانتصاره العسكري، اعتبر إلهام علييف أن "الصراع قد حُل" وأنه لا داعي للحديث عن الوضع السياسي المستقبلي لكاراباخ. لكن علييف لم يتخل عن انتهاج العنف لصالح الدبلوماسية، واستمرت الهجمات العسكرية الأذربيجانية على مناطق كاراباخ التي لا تزال تحت السيطرة الأرمينية، وكان هناك كذلك هجمات عسكرية ضد أرمينيا نفسها. كانت أعنف هذه الهجمات في سبتمبر/أيلول 2022، عندما هاجمت القوات الأذربيجانية الحدود الأرمينية من ستة اتجاهات مختلفة، واستمر القتال 48 ساعة وخلف أكثر من 300 قتيل من كلا الجانبين.
 

مع الانهيار غير المتوقع لاتحاد الجمهوريات الاشتراكية السوفياتية، أصبحت أرمينيا وأذربيجان دولتين مستقلتين وقد خاضتا بالفعل حربا ضد بعضهما البعض من أجل السيطرة على كاراباخ

ومع الغزو الروسي لأوكرانيا في فبراير/شباط 2022، ضعفت الإمكانيات الروسية لكبح إلهام علييف، ومع الحرب والعقوبات الغربية على الاقتصاد الروسي، أصبح بوتين يحتاج إلى علييف لتصدير النفط والغاز الروسي، بما في ذلك التصدير إلى الأسواق الأوروبية عبر أذربيجان. علاوة على ذلك، تربط بوتين علاقة بإلهام علييف، وهو نجل أحد ضباط المخابرات السوفياتية، أوثق بكثير من علاقته مع رئيس الوزراء الأرميني نيكول باشينيان، الذي وصل إلى السلطة بسبب الثورة الشعبية- وهو ما يكرهه بوتين.


ويخشى الأرمن أن العلاقات الوثيقة الحالية بين بوتين وعلييف، والدعم التركي غير المشروط لأذربيجان، والاهتمام العالمي بالحرب في أوكرانيا، خلقت ظروفا مواتية لعلييف للنظر في هدفه وإيجاد "الحل النهائي" لصراع ناغورنو كاراباخ، والذي يتحقق بالترحيل الجماعي لسكانها، إما بعملية عسكرية واسعة النطاق، وإما عن طريق الضغط ببطء على المدنيين وإجبارهم في نهاية المطاف على التخلي عن أراضي أجدادهم.

وها هي ناغورنو كاراباخ تتحول إلى غزة جديدة في عصرنا، ولكن على عكس غزة، فإن كاراباخ محاطة بأذربيجان من الجهات الأربع، وليس لها حدود مباشرة مع أهلها في أرمينيا، ولا يمكنها الوصول من خلالها إلى البحار المفتوحة، وعلى عكس غزة، هناك قوات "حفظ سلام" خارجية من روسيا تتمركز في ناغورنو كاراباخ منذ نوفمبر/تشرين الثاني 2020، حيث كان الانتقال الحر بين ناغورنو كاراباخ وأرمينيا عبر ممر لاتشين تحت مسؤوليتها. ومع ذلك، عندما استولى الجيش الأذربيجاني بشكل تدريجي على الممر، قام "جنود حفظ السلام" الروس باحتجاج شفوي لكنهم لم يتخذوا أي إجراء.

يبقى السؤال عما إذا كان الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة سيقفان مكتوفي الأيدي أمام إلهام علييف وهو يقوم بالتطهير العرقي لسكان ناغورنو كاراباخ الأرمن، وفي الوقت الذي يتسامح فيه الغرب إلى حد كبير مع السلوك العدواني الأذربيجاني تجاه كاراباخ وتجاه الأرمن، تزايدت مؤخرا الدعوات لفرض عقوبات على إلهام علييف وثرواته في البنوك الغربية. 

لقد كتب ذات مرة آفي شلايم في صحيفة "الغارديان": "الطريقة الوحيدة لفهم حرب إسرائيل الحمقاء في غزة هي من خلال فهم السياق التاريخي"، ويظهر التاريخ أن أذربيجان لم تقدم سوى العنف لحل النزاع الذي كان من الممكن حله عن طريق الدبلوماسية. ومن خلال فرض حصار مدته سبعة أشهر الآن، توضح أذربيجان أن تقرير مصير ناغورنو كاراباخ ضرورة وجودية وليس كمالية.
 

font change