بحر البلطيق... هل يدخل ميدان المواجهة البحرية مع موسكو؟

Shutterstock
Shutterstock

بحر البلطيق... هل يدخل ميدان المواجهة البحرية مع موسكو؟

أعلنت موسكو مطلع الشهر المنصرم وقف العمل باتفاق الحبوب الذي وُقع في يوليو/تموز 2022 بوساطة من الأمم المتحدة وتركيا. وكرّر الرئيس فلاديمير بوتين شروطه لعودة العمل بالاتفاق ومنها تسهيل تصدير الحبوب والأسمدة الروسية، حيث تشكل القيود المفروضة على المدفوعات والخدمات اللوجستية والتأمين عائقا أمام عمليات الشحن. وبالتزامن مع الإعلان الروسي قُصفت الموانئ الأوكرانية على البحر الأسود التي تُصدّر منها الحبوب وميناء إسماعيل على نهر الدانوب الذي يُعدّ ثاني أطول أنهار أوروبا.

دخل ملف الحبوب بقوة ساحة الصراع بوصفه من أوراق الضغط التي تضعها كل من موسكو وكييف في خدمة معركتهما، ففيما يمكن القول إن أسباب موسكو لا تقتصر على إلغاء القيود على الصادرات الروسية بل تضع مسألة الحبوب في سياق الرد على الهجمات الأوكرانية بالطائرات المسيّرة على جسر القرم وعلى السفن الروسية واحتمالات استخدام سفن الحبوب في نقل أسلحة لخدمة جبهات الحرب، تحاول كييف بدورها وضع موسكو في مواجهة المجتمع الدولي من خلال تحميلها مسؤولية ارتفاع أسعار الغذاء في العالم لا سيما أمام أصدقائها من الدول المتلقية للحبوب الأوكرانية كالصين وتركيا ومصر والجزائر والمغرب، كما تحث الغرب على إمدادها بأسلحة بحرية تستهدف السفن الروسية لفتح ممرات الحبوب.

Shutterstock
سفينة حربية روسية في بحر البلطيق

قصف ميناء إسماعيل على نهر الدانوب الذي ينبع من ألمانيا ويحاذي أو يمر بــ10 دول أوروبية- ألمانيا (23 في المئة)، النمسا (10.3 في المئة)، سلوفاكيا (5.8 في المئة)، المجر (11.7 في المئة)، كرواتيا (4.5 في المئة)، صربيا (10.3 في المئة)، رومانيا (28.9 في المئة)، بلغاريا (5.2 في المئة)، مولدوفا (حوالي كيلومترين) وأوكرانيا (3.8 في المئة)- ليصب في البحر الأسود، هو بمثابة إعلان موسكو عزمها على استثمار أزمة الحبوب حتى النهاية بجعلها جزءا من الحرب الدائرة وتحميل الداخل الأوروبي تبعات قراراته الداعمة لأوكرانيا.

وتبدو الخيارات المتاحة أمام أوكرانيا محدودة في حال فشل الخيار الدبلوماسي عبر تركيا والأمم المتحدة في إنهاء أزمة الحبوب. فخيار استخدام الطرق البرية وخطوط سكك الحديد مع دول الجوار يعني بالدرجة الأولى إقرارا أوكرانيا وغربيا بخسارة الموانئ بعد المطارات، هذا بالإضافة إلى الارتفاع في كلفة التصدير التي ستفاقم ارتفاع أسعار الغذاء. كما أن استخدام موانئ دول الجوار للتصدير عبر نهر الدانوب أو موانئ كرواتيا على البحر الأدرياتيكي سيؤدي إلى إدخال هذه الدول كأطراف في الصراع القائم. وتجدر الإشارة إلى أن بعض الدول المجاورة مثل بولندا ترفض مرور صادرات أوكرانيا من أراضيها لعدم تأثر أسواقها المحلية. وبناء على ذلك يتقدم خيار المواجهة بتوجيه ضربات للسفن الروسية في البحر الأسود على سواه من الخيارات ليصيح البحر الأسود ميدان المعركة الرئيس بعد تعذر تحقيق نتائج حقيقية في المواجهات البرية بعد أكثر من 18 شهرا على انطلاق الحرب.

بحر البلطيق مسرح محتمل للعمليات العسكرية القادمة

كانت قمّة الناتو التي انعقدت يوم 11 يوليو/تموز 2023 في فيلنيوس هي الأولى التي تشارك فيها فنلندا كعضو في الحلف، وقد تمت خلالها موافقة تركيا على انضمام السويد، الأمر الذي يمهد الطريق لتحوّل استراتيجي في منطقة كانت موسكو تسيطر عليها ذات يوم.

ازدادت سيطرة الناتو بشكل مطرد على بحر البلطيق، وهو البوابة البحرية الهامة للأسطول الروسي للوصول إلى قواعده بالقرب من سان بطرسبرغ وفي منطقة كالينينغراد المعسكرة بشدة. فخلال الحرب الباردة، اقتصر وجود الحلف على كل من الدنمارك وألمانيا في أقصى الطرف الغربي لبحر البلطيق، لتنضم بعد ذلك بولندا في عام 1999 ويصبح معظم الساحل الجنوبي للبحر في عهدة جمهوريات البلطيق الثلاث وتحت سيطرة الناتو. وخلال العام الحالي تخلت كل من السويد وفنلندا عن حيادهما الطويل الأمد وتقدمتا في مايو/أيار المنصرم بطلب الانضمام إلى التحالف في أعقاب الغزو الروسي الشامل لأوكرانيا.

تبدو الخيارات المتاحة أمام أوكرانيا محدودة في حال فشل الخيار الدبلوماسي عبر تركيا والأمم المتحدة في إنهاء أزمة الحبوب

يجعل انضمام السويد وفنلندا الناتو أكثر تماسكا من الناحية الجغرافية حيث يتحول بحر البلطيق إلى بحيرة داخلية بما يبقي لروسيا وصولا محدودا إليه، وهذا يعني توسيع خطوط المواجهة بشكل كبير معها وتعزيز الدفاع في شمال أوروبا وجعل قدرات الردع لدى الحلف أكثر مصداقية. هذا بالإضافة إلى ما يعنيه انضمام السويد وفنلندا من توسيع وجود الحلف في القطب الشمالي وهي منطقة تتزايد أهميتها الاستراتيجية لكل من روسيا والصين. 

وتتمتع الدولتان بقدرات كبيرة تتيح لهما التبادل العملياتي مع الناتو (Interoperability) وتشغيل أنظمة أسلحة متوافقة مع معايير الناتو، وقد سبق لهما المشاركة في مهام وتدريبات الناتو، وهذا ما سيتيح قدرات إضافية على أداء الحلف بخلاف معظم الدول الأوروبية التي توقفت عن الإنفاق على قواتها المسلحة بعد انتهاء الحرب الباردة.

ووفقا لوسائل الإعلام الفنلندية، تمتلك هلسنكي واحدة من أكبر ترسانات المدفعية والقوات البرية في أوروبا، حيث تتقدم على مثيلاتها في فرنسا وألمانيا والمملكة المتحدة. وقد جددت فنلندا مؤخرا أسطولها الجوي، ومن المتوقع أن تتسلم 64 مقاتلة أميركية من طراز (F-35) بحلول عام 2026. وتكمن قوة السويد في أسطولها البحري، الذي تتم ملاءمته جيدا للعمل في بحر البلطيق، وقد جهزت القوات الجوية السويدية بمقاتلات (Saab JAS 39 Gripen) الذكية وهي مقاتلة من الجيل الرابع تم تطويرها محليا ويُنظر إليها كسلاح محتمل لدخول الميدان الأوكراني. بالإضافة إلى ذلك يمتلك البلدان الإسكندنافيان تقنيات متقدمة في مجال الاتصالات حيث تسيطر كل من شركة نوكيا الفنلندية وشركة إريكسون السويدية وهواوي الصينية على شبكات الجيل الخامس بما يمكّن الدولتين من تقديم إضافة نوعية للناتو ليس في مجال التسليح بل في مجال تحديث البنية التحتية للاتصالات ووضع منظومة (G5) في خدمة العمليات العسكرية.

تضاف إمكانات وقدرات كل من السويد وفنلندا إلى القدرات البحرية الوازنة لألمانيا وبولندا بحيث يمكن للصراع أن ينتقل إلى بحر البلطيق، بما يشكل استنزافا للقدرات الروسية ومحاولة تشتيت الجهد البحري لموسكو المتركز حاليا في البحر الأسود. ويحل الجيش الألماني في المرتبة الـ16 عالميا وتصنف ميزانية الدفاع الألمانية من بين أضخم 5 ميزانيات دفاع في العالم ويقدّر حجمها بـ50.3 مليار دولار. ويمتلك الأسطول الألماني 80 سفينة حربية، من بينها 11 فرقاطة، و5 طرادات، و6 غواصات، و12 كاسحة ألغام، وفقا لتقرير صدر عن الأسطول الألماني، أورده موقع "Global Fire Power" الأميركي. وتعد ألمانيا من الدول الرائدة في مجال الصناعات البحرية العسكرية، سواء السفن الحربية أو الغواصات ومنها غواصات دولفين، وهي غواصات ديزل كهربائية، تعد من أحدث الغواصات من هذا الطراز في العالم. وتستفيد البحرية الألمانية علاوة على ذلك من تجارب ودروس اكتسبتها من الحرب العالمية الثانية حين استطاعت خلال تلك الحرب أن تقطع ممرات التجارة في المحيط الأطلسي وأن تلعب دورا كبيرا في قطع الإمدادات عن بريطانيا.

Reuters
الرئيس الروسي فلاديمير بوتين اثناء اجتماع لبحث الموقف في اوكرانيا في 4 اغسطس

وفي حين يصنف الجيش البولندي في المرتبة 24 بين أضخم 142 قوة عسكرية في العالم، وفقا لإحصائيات موقع "Global Fire Power" الأميركي. وتضم القوات البحرية البولندية 86 وحدة بحرية تجعلها في المرتبة رقم 33 عالميا، بينما تصنف ميزانية الدفاع البولندية في المرتبة رقم 18 وتقدّر بـ14.5 مليار دولار.
 

ازدادت سيطرة الناتو بشكل مطرد على بحر البلطيق، وهو البوابة البحرية الهامة للأسطول الروسي للوصول إلى قواعده بالقرب من سان بطرسبرغ وفي منطقة كالينينغراد المعسكرة بشدة

وفي المقابل، فإن روسيا ليست غائبة عن التطورات في بحر البلطيق الذي يتحول تدريجيا إلى بؤرة صراع رئيسة بين حلف الأطلسي وروسيا وهي تجري بانتظام مناورات بحرية حيث يعد بحر البلطيق، الممر المائي الرئيس لروسيا نحو مدينة سان بطرسبرغ. هذا وقد أطلقت وزارة الدفاع الروسية يوم 2/8/2023 تدريبات للقوات البحرية في بحر البلطيق، تحت اسم "درع المحيط" بمشاركة 30 سفينة وزورقا حربيا، و20 سفينة دعم و6 آلاف عسكري، كما نقلت وكالة الأنباء الفرنسية عن الدفاع الروسية. وقد شملت المناورات البحرية، تدريبات عسكرية على حماية الممرات البحرية، ونقل الجنود، والدفاع عن السواحل. 

وقد فرضت وقائع الميدان نفسها في أوكرانيا، حيث يقر صناع القرار والمخططون العسكريون في دول الناتو وسواها بأن العمليات البرية قد بلغت أفقا مسدودا وأن ليس هناك من إمكانية لتطوير الموقف بما يتجاوز خطوط الدفاع القائمة التي تكتسب مناعة إضافية يوما بعد يوم. لقد حاول المخططون للعمليات النوعية ضد الداخل الروسي ولبعض الاختراقات بواسطة المسيّرات لأجواء العاصمة موسكو وللهجمات على جسر القرم، حاولوا إحداث تغيير نوعي في مسار الحرب ولكن النجاحات المحدودة لم تؤد إلى تغيير مسار المعركة. يظهر البحر الأسود كمنطقة نفوذ متنازع عليها وساحة متاحة لجولات الصراع المقبلة، وتضيف أزمة الحبوب مزيدا من السخونة على الصراع القائم وتحوّله إلى صراع دولي عنوانه أزمة الغذاء العالمي. لكن البحر الأسود لا يبدو كافيا لاستيعاب كل الاحتقان الدولي الذي فجرته الحرب في أوكرانيا والذي يتصاعد يوما بعد يوم، بحيث يبدو أن بحر البلطيق سيحل إلى جانب البحر الأسود كميدان جديد للصراع الدولي المتفاقم إلى أجل غير مسمى. 

font change

مقالات ذات صلة