بيروت: دراجات نارية ومصارف قاتلة

بيروت: دراجات نارية ومصارف قاتلة

في طريقي الى المصرف لتفقد ما تبقى من مدخراتي، قفزتْ أمامي، أو هبطتْ، دراجة نارية صغيرة، كاد سائقها أن ينزلق تحت عجلة سيارتي الأمامية اليسرى ليصدم المرآة.

يحييني "من باب الأملية"، على ما يقال في الكلام الدارج اللبناني، مع عبارة "ما تواخذنا"، ويكمل طريقه بشكل عادي، كأن شيئا لم يكن.

حمدتُ ربي أنه نجا، وأني نجوتُ، والسيارة، معه. لكن، ما هي إلا لحظات حتى تكررت الواقعة عند الإشارة الضوئية/المطفأة التالية غير أن الصدمة كانت أعنف فأزالت جزءا من دهان الباب الأيسر. أما التحية فبقيت هي نفسها، برفع اليد، و"من باب الأملية"، و"ما تواخذنا". وأكمل الديليفري طريقه لتوصيل كيلوغرامين من حزم المئة ألف ليرة، كان يحملها في كيس نايلون، بعد خروجه من محل للصرافة يصطف أمام بابه عشرات المنتظرين بالدور.

بعد أيام قليلة من وصول المرء إلى بيروت، يستعيد مهاراته السابقة في رالي السيارات والموتوسيكلات في شوارع بيروت وسياراتها "المتعودة دايما" (كما في جملة مسرحية عادل إمام الشهيرة) على تلك "القبلات" المتكررة من الأمام أو الخلف، وعن الجانبين.

ما دمتَ لم تكسر يد السائق، وما دامت عجلة سيارتك لم تهرس قدمه، وما دامت الدماء لم تسل، وما دام حظك "يفلق الصخر" بحيث أنك لم تعلق مع سائق دراجة "ممانع" قد يقتلك ويقول "ما تواخذنا"، فإن الأمور تمضي طبيعية، مرفقة بتحية من سائق الدراجة؛ وبعبارة "ما تواخذنا"، أو بشتيمة، ثم يمضي كلٌّ في سبيله.

من أخطر المَشاهد المعتادة في بيروت، عندما تقع على سائق درّاج يشقّ طريقه وهو يمتطي دراجة أصغر من "الفيسبا"، ومعه من أمام، ومن الخلف، ولدان وزوجة في حضنها رضيع

تشعر أحيانا بأنكَ أنتَ الذي يخالف القوانين، حين الدراجة تجري بعكس السير، أو بالعرض. يقال في هذا الصدد، إن بعض الحوادث المماثلة تكون متعمدة ليستفيد السائق من بضعة دولارات "فريش"، ذلك أن الذنب يقع دائما على صاحب السيارة، بحسب قانون السير.

من أخطر المَشاهد المعتادة في بيروت، عندما تقع على سائق درّاج يشقّ طريقه وهو يمتطي دراجة توصيل "ديلفري" أصغر من "الفيسبا"، ومعه من أمام، ومن الخلف، ولدان وزوجة في حضنها رضيع. 

ذلك تعاينه ليس في أزقة بيروت فحسب، بل أينما كان، وعلى الطرق السريعة، وأيضا خصوصا على الطرق الجبلية، الوعرة والضيقة والخطرة. علما أن شوارع بيروت وأزقتها التي تزداد سوءا وتآكلا، باتت "تزينها" فتحات الصرف الصحي بعدما سُرقت أغطيتها الحديد، فصارت النجاة من الوقوع فيها من نوع الأعاجيب، ولطالما تحدثت نشرات شرطة السير والقوى الأمنية عن "شهداء" سقطوا في فخاخ هذه الفتحات المميتة.

في طريقي الى المصرف، كان السير "متجمدا" في شارع الحمراء الرئيسي، عند مفترق نزلة مستشفى الجامعة الأميركية. "ربّ ضارة نافعة"، قلتُ في نفسي، فقد أتاح لي هذا التوقف الإجباري، أن ألقي نظرة على كشك الصحف عند زاوية مقهى "كوستا" سابقا، "وهو مقهى الـ"هورس شو" الشهير أيام العز (صار اسمه اليوم "روسا")، فأقرأ من بعيد مانشيت جريدة "النهار": "مسلسل ترهيبي بالسلاح السافر: اغتيال في عين إبل وفتنة في الكحالة"، وتحته أقرأ: "منصوري رمى كرة الاصلاحات في ملعب الحكومة" (صح النوم)، لمن لا يعرف، فإن وسيم منصوري هو النائب الأول لحاكم مصرف لبنان والقائم حاليا بأعمال منصب الحاكم المخصص للطائفة المارونية الذي شغر منذ أول أغسطس/آب الجاري في سابقة تاريخية.

أسباب الموت كثيرة في لبنان، ولا فرق بين سبب وآخر، ما دام الموت "مؤمّنا"، وأكيدا: بدراجة نارية، بشحنة أمونيوم، أو بعملية خطف كما في عين إبل، أو بسلاح "ممانع"، أو بشاحنة "ممانعة" تنقلب على كوع الكحالة، أو بحساب مصرفي مسروق...

فيما كانت تسرقني هذه العناوين، هبّ قرب نافذتي، صوت سائق إحدى الدراجات ملعلعا: "قرِّب قرِّب يا هوندا، فتح السير". راحت السيارات تتحرك ببطء سلحفاتي، وأنا أحدّث نفسي بأن خطر هذه الدراجات النارية الفالتة من عقالها في بيروت وفي كل لبنان، لا يقل في شيء عن الأخطار الداهمة الكبرى. فهي مشاريع موت توازي، إنْ لم تكن تبزّ مجمل "المفخخات" والتهديدات الأمنية الأخرى التي تتزايد في العاصمة اللبنانية تحذيرات السفارات المعنية من أخطارها المحتملة. 

أسباب الموت كثيرة في لبنان، ولا فرق بين سبب وآخر، ما دام الموت "مؤمّنا"، وأكيدا: بدراجة نارية، بشحنة أمونيوم، أو بعملية خطف كما في عين إبل، أو بسلاح "ممانع"، أو بشاحنة "ممانعة" تنقلب على كوع الكحالة، أو بحساب مصرفي مسروق...

كل هذه الأفكار تستولي عليك، وأنت تهمّ بالوصول الى المصرف المدجج ببوابات حديد ساخنة من الخارج. عندما تلج إلى الداخل، يلفحك هواء المكيف، ليفاجئك الموظف بعبارات معسولة ملؤها الاحترام والمودة: "استاذ، حرام تارك الحسابات هيك. عم يطلع عليك فوائد". فأسأله متعجبا: "عن أية فوائد تتحدث؟ فأنا لست مديونا لكم، بل انتم من سرقتكم ودائعنا، وتواصلون احتجاز ما تبقى من أموال الناس". يجيب الموظف النشيط: "يا استاذ، تسجَّل على حساباتك المشتركة مع والديك وزوجتك وشركتك (المقفلة منذ 2019)، خمسة دولارات عن كل حساب بالدولار، أو باليورو، ونحو مئتي ألف ليرة، عن كل حساب بالليرة اللبنانية. وبما أن معظم الحسابات لا تزال مفتوحة وخاوية، تسجل عليك فوائد نسبتها 14 في المئة".

كنت أحاول الحفاظ على هدوئي وبرودة أعصابي، لكن كيف؟ وجدتني "أنبر" في وجهه: "تحتجزون الأموال من جهة، وتأخذون رسوما وفوائد من جهة أخرى... شو هالمنطق والظلم؟". فيجيب ببرودة: "بإمكانك أن تدفع الرسوم "فريش دولار" أو "فريش باللبناني"، أو نقتطع من تلك الموجودة على أساس حساب كل دولار 15 ألف ليرة (هو فعليا 90 ألف ليرة عند الصراف)"، أي اقتطاع إرادي (هيركات) متواصل لأموال المودع.

لا يوجد طاولة للحجز على العشاء. كل الفنادق والمطاعم والملاهي الليلية محجوزة لأسابيع مقدما، المسابح "مفولة"، كلها رفعت الأسعار بالدولار، ووزير الثقافة "الممانع" يمنع فيلم "باربي" في بيروت

أطلب أن يطبع لي كشفا بكل حساب لأرى ماذا يجب أن أفعل لتسديد الرسوم والفوائد المتوجبة. فيجيب: "حرام يا استاذ". فأسأله مستفهما: "وما هو الحرام؟"، فيقول: "بيصير بدك تدفع 10 دولارات "فريش" عن كل كشف... صرنا مناخد رسوم على طبع الأوراق".
تسرقني لحظات من الصمت، وأحسّ بدوار ممزوج بالغباء والندم، وأروح أتذكر كيف كان مديرو هذا الموظف يزورونني في مكتبي لتوقيع الأوراق وفتح الحسابات والحصول على بطاقات الائتمان مع عروض التأمين وغيرها مجانا، وكيف كان أصحاب المصرف ينظّرون على البشرية في مفاهيم الحوكمة والشفافية وحقوق العميل و"المسؤولية الاجتماعية للشركات"... 

في غمرة هذا كله، أسمع أحد العملاء يقول لصديقه العشريني: "يا زلمي ما في ولا طاولة فاضية للحجز عالعشاء. كل الفنادق والمطاعم مفولة لأسابيع والدخلة على "السبورتينغ" (مسبح بيروتي عريق) رفعوها من 20 الى 30 دولارا. يا زلمي كلهم رفعوا الأسعار بالدولار. من وين عم يجيبوا دولارات كل هالناس؟ وأمين سلام (وزير الاقتصاد) بدو الكويت ترجع تعمر اهراءات القمح بشحطة قلم!".

أجدني أتجه نحو باب الخروج من المصرف، بطريقة لاواعية، في حين كان موظف الأمن يفتح لي الباب وهو يراقب يديّ وحركات وجهي بحذر شديد...

وأنا في طائرة العودة، أقرأ أن وزير الثقافة اللبناني "الممانع" أصدر قرارا منع بموجبه عرض فيلم "باربي"...

 أتذكر الآن أنني سمعت الموظف في المصرف، أو ربما رجل الأمن، يقول لي وأنا أهم بالخروج: "سكرهم للحسابات، أستاذ، صفيهم. شو ما كان، وسكِّر على لبنان. ما في أمل".
 

font change