"كيف تصبح زعيم طائفة؟"... الديستوبيا المقدّسة

وثائقي من ستّة أجزاء على "نتفليكس"

Netflix
Netflix

"كيف تصبح زعيم طائفة؟"... الديستوبيا المقدّسة

"كيف تصبح زعيم طائفة"، هو عنوان غريب وغير مألوف لسلسلة وثائقية من ست حلقات بدأت منصة "نتفليكس" بعرضها أخيرا، فالأمر هنا لا يتعلق بمواضيع تحمل عناوين مماثلة من قبيل "كيف تكسب أصدقاء؟"، أو "كيف تصبح مليونيرا؟"، أو "كيف تتخطى الملل؟"، وغيرها من العناوين التي تحمل قدرا من الخفة والمرح، بل يتمحور حول سلسلة تقتحم عالما سريا وغامضا لستّ طوائف، ظهرت في النصف الثاني من القرن العشرين، وتلقي نظرة ثاقبة على شخصيات زعمائها عبر سرد سوداوي لا يخلو من السخرية والتهكم.

تعرّف الجمعية الأميركية لعلم النفس الطائفة بأنها "مجموعة دينية أو شبه دينية تتميز بمعتقدات غير عادية أو غير نمطية، وبعزلة عن العالم الخارجي وببنية سلطوية". الطوائف الست، موضوع السلسة الوثائقية التي نحن في صددها (How to Become a Cult Leader)، لا تكاد تخرج عن فحوى هذا التعريف، فهي تتمتع بالكثير من الجوانب الفاتنة التي تغري بالانضمام إليها.

تتبنّى الطوائف معتقدات وأفكارا غامضة ومراوغة تبدو جذابة في ظاهرها، لكن خلف هذه القشرة الرقيقة من الآمال والوعود بغد أفضل، ثمة مآس وقصص مروعة بطلها دائما هو زعيم الطائفة الذي يُظهر لأتباعه عكس ما يضمر، ويسوّق لنفسه صورة "مبجلة" محاطة بهالة من القداسة، فيما الحقائق التي تكشفها السلسلة تقول الكثير عن انتهازيته وشخصيته المخادعة ومنبته الاجتماعي المتواضع، وقدرته البارعة على إخفاء كل ذلك وراء ستار ضبابي من الحكمة ورجاحة العقل والرأفة.

لكن الوصول إلى هذه المكانة الجليلة ليس أمرا سهلا، كما تكشف السلسلة التي يؤدي فيها الممثل الأميركي بيتر دينكلاج دورَي الراوي بتعليق صوتي موفق، وهو المنتج التنفيذي لها. فثمة قائمة طويلة من التكتيكات والمبادئ لا بد للمرء من أن يتبعها حتى يحظى بلقب "زعيم طائفة"، ويستطيع، بالتالي، دفع أتباعه إلى حب غير مشروط وإخلاص بلا حدود.

تتبنى الطوائف معتقدات وأفكارا غامضة ومراوغة تبدو جذابة في ظاهرها، لكن خلف هذه القشرة الرقيقة من الآمال والوعود بغد أفضل، ثمة مآس وقصص مروعة بطلها دائما هو زعيم الطائفة 

لعل القاسم المشترك بين زعماء الطوائف الست هو أن الجميع يتقن فنون الانتهازية والاحتيال، وهم مصابون بفائض من النرجسية وجنون العظمة، ويتبنون أي شيء يمكن أن يكون مفيدا في كسب الولاء، من تنظيم حفلات زفاف جماعية إلى إدعاء القدرة على شفاء الأمراض واستخدام المخدرات وإجراء جراحات تجميلية واقتناء السلاح لمحاربة الشر، وغيرها من الممارسات والتصرفات  والأساليب التي تبشر الأتباع بـ"يوتوبيا" وشيكة، ستحققها لهم الطائفة التي يصحّ وصفها بـ"الديستوبيا المقدسة". ذلك أن زعيم الطائفة يغلف حضوره دائما بهالة من القداسة، دون أن يتوانى عن خرق كل القوانين المجتمعية، ولكن بذكاء وحنكة، من أجل زيادة عدد الاتباع.

وفقا للسلسلة، فإن أعداد المتابعين والموالين هي أشبه برصيد الشخص من المال في البنك، فكلما زادت أعدادهم زادت قوة زعيم الطائفة الذي يستمد "شرعيته"، إذا جاز التعبير، من الموالين له. فلن يكون في مقدوره أصلا ادعاء الزعامة دون وجود الآلاف من المناصرين الأوفياء، يدافعون عن أفكاره، ويروّجون لنهجه، بل ويضحّون بأنفسهم في سبيل "الزعيم".

Netflix
وثائقي "كيف تصبح زعيم طائفة؟"

على الرغم من الانطباع السريع الذي قد يصل إليه مشاهد هذه السلسلة، والمتمثّل في أن هؤلاء الأتباع ما هم إلا مجموعة من السذج المحبطين، الذين يتبعون تعاليم زعيم مهووس بالمال والجنس وحب الظهور، ومراكمة النفوذ، وتسخير الرعية لخدمة أهوائه الشخصية، يتخطى التفسير المنطقي مثل هذا الانطباع الآني المباشر، ذلك أن شعارات زعماء الطوائف ومعتقداتهم تأتي بمثابة نداء خفي يلامس أسئلة مقلقة لدى البشر، تتعلّق بالخلاص ومعنى الوجود، لتكون الطائفة، والحال كذلك، بلسما شافيا، وملاذا مغريا للهرب من فوضى الحياة، وهمومها وخيباتها.

وكما تقول إحدى المشاركات في السلسلة، التي تضمّ شهادات لباحثين وخبراء وأعضاء سابقين في تلك الطوائف، فإن الرغبة في الوصول إلى إجابات سهلة تسري في الطبيعة البشرية، وهذا ما يحقّقه زعيم الطائفة، العارف بكل شيء، فيما تقول مشاركة أخرى إن "طرق الحياة تقودنا كثيرا إلى لحظات نشعر فيها بالتيه والضعف ويمكن لزعيم طائفة مقنع أن يقول: لديّ الدواء المثالي". مثل هذه الوعود الزائفة بالخلاص والتبشير بعالم مثالي، تتناغم مع الكيمياء المعقدة للبشر، الذين يجدون في الطائفة "الجنة الموعودة"، وسرعان ما تتحوّل هذه الجاذبية الخادعة لدى الأتباع والموالين إلى مسوّغ لمحو هوياتهم وشخصياتهم، فيبدو الأمر كأنهم تعرضوا لغسيل الأدمغة أو للتنويم المغناطيسي، إلى أن تأتي اللحظة الحاسمة باكتشاف حقيقة الزعيم "الرهيبة".

 

تشارلز مانسون وجيم جونز

من بين هؤلاء الزعماء، يأتي تشارلز مانسون (1934 - 2017)، كمثل واضح على "نزعة الشر". فقد أسّس في ستينات القرن الماضي جماعة أو طائفة "العائلة" (مانسون فاميلي) التي ارتكب أعضاؤها جرائم قتل مروّعة في الولايات المتحدة، ومن بين ضحاياها الممثلة شارون تيت زوجة المخرج المعروف رومان بولانسكي. وكانت الجماعة تؤمّن بقيم رائجة، آنذاك، في الولايات المتحدة عن الحريات المطلقة، والخروج عن النظام، وعدم التزام المعايير الاجتماعية والأخلاقية، فضلا عن ممارسة "العنف المفرط".

ولد مانسون في سينسيناتي بولاية أوهايو وكان نتاج علاقة خارج اطار الزواج. عاش طفولة بائسة وبدأت سلسلة جرائم مانسون بسرقة الدكاكين والمحلات الصغيرة، لتتطوّر إلى عمليات قتل. حكم على مانسون وعدد من أتباعه بالإعدام لكن بعد إلغاء عقوبة الإعدام في كاليفورنيا تحوّلت الأحكام إلى السجن مدى الحياة حيث أمضى مانسون نحو 45 سنة متواصلة في السجن منذ 1969 حتى وفاته في 2017.

Netflix, Inc
تشارلز مانسون

أما جيم جونز (1931– 1978) فأنشأ جماعة "معبد الشعوب"، وافتتح كنيسته الأولى في منتصف خمسينات القرن الماضي في إنديانابوليس، ودعا إلى المساواة بين البيض والسود وتكامل الأعراق، وهو ما يعني بأنه كان "تقدميا" بمعايير تلك المرحلة.

على الرغم من أحاديث جونز المعمّقة عن "شفاء الروح"، ونشاطه في الجانب الإنساني، غير أن معاملته لأتباعه اتسمت، غالبا، بالقسوة. وفي عام 1977، طرحت أسئلة في الإعلام حول ممارسات جونز المسيئة، فانتقل مع المئات من أتباعه إلى مجمّع في جمهورية غويانا في أميركا الجنوبية حيث سافر إلى هناك في العام  1978، عضو الكونغرس الأميركي ليو رايان لتفقد أنشطة كنيسة معبد الشعوب والتحقق من شائعات تفيد بأن بعض أعضاء الطائفة محتجزون رغما عنهم، وأن بعضهم يتعرّض للإيذاء الجسدي والنفسي.

Netflix, Inc
جيم جونز

وبينما كان الوفد يستعد لرحلة العودة، نصبت مجموعة من مسلحي الطائفة كمينا للوفد وفتحت النار على مهبط الطائرات الذي كان من المقرّر أن يغادر منه رايان وفريقه، فقُتل خمسة أشخاص، من بينهم رايان.

وفي أعقاب إطلاق النار، أصدر جونز أوامره لأعضاء الطائفة بالانتحار، وقضى في تلك الواقعة 913 شخصا، وكان هذا الحادث هو أكبر حوادث الموت المتعمّد لمدنيين في التاريخ الأميركي.

 

طائفة بوذية

في الحلقة الثالثة، سنتعرّف إلى سيرة مؤسّس جماعة "بوذا فيلد"، جيمي غوميز، الذي ولد في فنزويلا، وانتقل إلى هوليوود ليعمل ممثلا، ولكن مع إخفاقه هنا، لجأ إلى السيطرة على عقول الشباب في الثمانينات، في لوس أنجليس.

نظم أفراد جماعة "بوذا فيلد" تجمّعات في منتجعات بعيدة وهادئة ومارسوا طقس "اليوغا" بهدف الوصول إلى أقصى درجات السعادة، واستثارة ما في داخل المرء من طاقة روحية عبر تعاليم زعيمهم جيمي غوميز الذي كان مدمنا عمليات التجميل، وكانت مآربه لا تحتلف عن مآرب أقرانه من زعماء مثل هذه الطوائف، ألا وهي الجنس والمال والنفوذ.

لا يختلف مارشال أبل وايت (1931 - 1997) زعيم طائفة "بوابة السماء"، عن سابقيه، ففي مدينة سان دييغو وفي 26 مارس/آذار 1997، عثر في أحد المنازل على جثث 39 رجلا وامرأة أقدموا على انتحار جماعي، ليُكشف لاحقا انهم أعضاء في طائفة "بوابة السماء" الدينية، التي بشر زعيمها مارشال أبل وايت بأن الانتحار سيسمح لهم بمغادرة "حاوياتهم" الجسدية ومعانقة الخلود.

Netflix
مشهد من "كيف تصبح زعيم طائفة؟"

وعلى الرغم من أن أبل وايت معروف بأنه زعيم طائفة "بوابة السماء" إلا أنه لم يكن مؤسسها، فالمؤسسة الحقيقية هي بوني لو نيتلز، ممرضة كان لديها اهتمام كبير بالكتاب المقدس وقد التقى الاثنان في أواخر الستينات، وخلُصا إلى أن القوانين الدنيوية لا تنطبق عليهما، وتوصلا الى فكرة مغرية مفادها أن البشر أسرى المستوى الدنيوي، وأن مهمتهما تكمن في مساعدة الآخرين للارتقاء إلى "المستوى التالي".

في عام 1985، توفيت بوني، لتحوم الشكوك حول تعاليم الطائفة، لكن في عام 1995، قرأ مارشال بشغف عن المذنب "هيل-بوب"، وقرّر أنه هو الجسم السماوي الغامض الذي تحتاج إليه الطائفة للصعود إلى المستوى التالي، وأقنع أتباعه بأن "هيل-بوب" هو "الفرصة الأخيرة لإخلاء كوكب الأرض، وهذا ما تحقّق في العام 1997 حيث خطّط 39 من أفراد الجماعة، تحت قيادة وايت، للموت انتحارا.

 

طائفة يابانية

من الولايات الأميركية إلى الأرخبيل الياباني البعيد، تسرد السلسلة قصة طائفة "أوم شينريكو" ومؤسسها شوكو أساهارا (1955 - 2018) وهو معلم يوغا فقد بصره جزئيا وصدر حكم بإعدامه عام 2004 بعد إدانته بثلاثة عشر اتهاما منها الهجمات بالغاز على قطار الأنفاق في طوكيو بالإضافة إلى جرائم قتل.

أسس أساهارا طائفة "أوم شينريكو" (الحقيقة السامية) في 1987 التي قامت على مزيج من الأفكار البوذية والهندوسية، وآمنت الطائفة بأن نهاية العالم وشيكة. نجح أساهارا في استمالة الكثيرين حول العالم من خلال كتبه والمحاضرات التي كان يلقيها في الجامعات. وكان أغلب أتباعه في اليابان طلابا في الجامعات، وقد قيل الكثير عن وعود الطائفة بضمان حياة ذات معنى للشباب وتحوّلت الجماعة تدريجيا إلى طائفة عدمية سوداوية تؤمن بأن العالم سيفنى في حرب عالمية ثالثة وبأنها وحدها ستنجو من تلك المحرقة.

صدم هجوم 1995 المجتمع الياباني "المتماسك"، وحوكم العشرات من أتباع الطائفة بتهمة الضلوع في ذلك الهجوم، وحكم على 13 منهم بالإعدام بمن فيهم أساهارا نفسه الذي نفذ فيه حكم الإعدام عام 2018.

ثمة قائمة طويلة من التكتيكات والمبادئ لا بد للمرء من أن يتبعها حتى يحظى بلقب "زعيم طائفة"، ويستطيع، بالتالي، دفع أتباعه إلى حب غير مشروط وإخلاص بلا حدود

على مقربة من اليابان ظهر سون ميونغ مون (1920  - 2012) مؤسس طائفة "كنيسة التوحيد" الذي ولد في مقاطعة بيونغان الشمالية التي تقع حاليا في كوريا الشمالية.

خلال شبابه وجّهت إليه تهمة التجسس لصالح كوريا الجنوبية، فحُكم عليه بالعمل لخمس سنوات في معسكر أشغال شاقة، وهذا ما يفسّر كرهه للشيوعية.

أسّس مون طائفته "جماعة الروح القدس لتوحيد المسيحيين في العالم" في عام 1954، لكن تغيّر اسمها مع السنوات لتصبح "اتحاد الأسرة من أجل السلام العالمي والتوحيد".

بحسب الوثائقي، يؤمن أتباع الحركة بأن الخالق أراد للإنسان اختبار سعادة الحب. لكن آدم وحواء فشلا في تحقيق ذلك الهدف، فساد الحب الأناني الأرض. أراد الخالق ترميم ما تخرّب، بإرساله مخلّصين كثر للبشرية، من بينهم المسيح الذي لم يستطع إكمال مهمته لأنه لم يتزوج، وبحسب معتقدات "كنيسة التوحيد" فإن مون هو "المسيح الجديد"، وعلى مرّ الأعوام استقطب مون الأتباع، وصار مالكا لأمبراطورية تجارية تتنوع بين البناء، والغذاء، والتعليم، والإعلام، وكرة القدم.

انتقل مون إلى الولايات المتحدة في مطلع السبعينات، حيث أسس صحيفة "واشنطن تايمز" المحافظة، وأدين وسجن بتهمة التهرب الضريبي، وبعد وفاته، باتت زوجته هاك جا هان مون القائدة الفعلية للجماعة.

عرف عن مون الأب نشاطه السياسي في مناهضة الشيوعية، ويعتقد أن حركته بنت علاقات جيدة مع نخبة من السياسيين من بينهم الرئيس الأميركي السابق دونالد ترامب، ورئيس الوزراء الياباني السابق، الذي اغتيل العام الماضي، شينزو آبي.

font change

مقالات ذات صلة