تنظيم “القاعدة” وأخواته تهديدات في مسارح جديدة

هل أصبح تهديد الإرهاب أمرا منسيا؟

Eleanor Shakespeare
Eleanor Shakespeare

تنظيم “القاعدة” وأخواته تهديدات في مسارح جديدة

في عـــــام 2023، وفي ظل تركيـز الغرب عـــــلى الحـــــرب في أوكـــــرانيا، وتبنّي حكــــومات الـــــشرق الأوســـــط لما يـــــســـــــمّـــى «فــــتــــــرة تخـــــفيف التــــــصــــعيـــــد»، يبــــــدو وكـــــأن الإرهاب أصبح أمرا منسيا. ففي واشنطن، وخلال اجتماعاتها مع الدبلوماسيين الحلفاء، تحتفل إدارة بايدن بدورها في الوصول إلى ما تصفه بأنه الشرق الأوسط الأكثر استقرارا منذ 25 عاما.

وعلى الرغم من أن هذا التصور يبدو سابقا لأوانه ويفتقر إلى التواضع في أحسن الأحوال، إلا أن هناك حقيقة واحدة لا غبار عليها؛ وهي أن التحديات والتهديدات الإرهابية التي يمثلها الإرهاب لا تزال مستمرة وبعيدة عن الانتهاء.

يواجه الشرق الأوسط الكبير منذ أواخر الثمانينيات موجات متعاقبة من الإرهاب، اتخذت كل موجة منها شكلا مختلفا وشكلت تهديدات متنوعة، وذلك بسبب مجموعة من الأحداث الرئيسة المؤثرة؛ ففي أواخر الثمانينات، انسحب الاتحاد السوفياتي من أفغانستان بعد وقت قصير من تأسيس تنظيم القاعدة بقيادة أسامة بن لادن ومجموعة من المجاهدين العرب، والذي تبلورت أجندته خلال الحرب ضد الاحتلال السوفياتي. ولكن، بعد انسحاب القوات السوفياتية من أفغانستان بوقت قصير، بدأت القوات الأميركية في الوصول إلى السعودية، بعد أن دُعيت هناك ردا على غزو العراق للكويت. وبينما كانت القوات الأميركية تصل إلى الأراضي السعودية، وصل بن لادن إلى هناك أيضا، متذرعا بالعمل على طرد الأميركيين.

لقد أصبحت القناعة بالنصر في أفغانستان والوجود الجديد للقوات الأميركية ذريعة لانطلاق الموجة الأولى من الإرهاب، والتي استمرت طوال فترة التسعينيات. كانت هذه الموجة مدفوعة بتنظيم القاعدة حديث التأسيس ومحكم التنسيق، وهو تنظيم يزعم أنه يضم النخبة الرائدة ورأس الحربة الملزمة بمواجهة الولايات المتحدة وإخراجها من الأراضي. وبقيادة بن لادن، استثمرت طاقة “القاعدة” الأولية في اليمن وشرق أفريقيا، ويعزى ذلك جزئيا إلى منفاه في السودان اعتبارا من أواخر عام 1991. وفي ديسمبر/كانون الأول من العام 1992، وقع أول هجوم لـ“القاعدة” في اليمن، حين فجّر قنبلة في أحد فنادق مدينة عدن، حيث كانت القوات الأميركية تمر من هناك أثناء توجهها إلى الصومال. وفي عام 1993، تورط تنظيم القاعدة في تفجير مركز التجارة العالمي في نيويورك، وأيضا في حادثة سقوط طائرة الهليكوبتر الأميركية “بلاك هوك” في الصومال، والتي أسفرت عن مقتل 18 جنديا أميركيا.

وظهر عزم تنظيم القاعدة على قتل الأميركيين بشكل واضح في منتصف التسعينات في رسالة بن لادن، ولاحقا في عام 1998، عندما أعلن بن لادن “الجهاد” بشكل رسمي، ونفذ هجمات كارثية على السفارتين الأميركيتين في كينيا وتنزانيا. وعند هذه النقطة، كانت خلايا “القاعدة” تخطط لأعمال إرهابية أكثر تعقيدا في جميع أنحاء العالم، من جنوب شرقي آسيا إلى الشرق الأوسط وحتى أفريقيا والولايات المتحدة نفسها. وعلى الرغم من إحباط مؤامرة الألفية في الأردن، هوجمت المدمرة الأميركية “يو إس إس كول” قبالة سواحل اليمن عام 2000، مما أسفر عن مقتل 17 بحارا أميركيا.

لقد أصبحت القناعة بالنصر في أفغانستان والوجود الجديد للقوات الأميركية ذريعة لانطلاق الموجة الأولى من الإرهاب، والتي استمرت طوال فترة التسعينيات. كانت هذه الموجة مدفوعة بتنظيم القاعدة حديث التأسيس ومحكم التنسيق

على الرغم من تصاعد حملة الإرهاب التي يديرها تنظيم القاعدة بشكل مركزي على مدى عدة سنوات، فإن هجمات 11 سبتمبر/أيلول كانت نقطة تحول حاسمة ومحفزا للموجة الثانية من الإرهاب، والتي استمرت منذ عام 2000 وحتى الآن. وخلال هذه الفترة، شهد العالم حملة من الغزو الغربي والحروب المرهقة، حيث ردّت الولايات المتحدة الجريحة أولا في أفغانستان ومن ثم في العراق. وعلى الرغم من الضربات القوية التي تلقتها الهياكل الأساسية لـ"القاعدة" في أفغانستان، إلا أن الحروب الأهلية والاحتلالات أسهمت في تفتيت التنظيم المركزي وتحويله إلى شبكة من الفروع في أماكن مثل شمال أفريقيا ومالي واليمن وجنوب شرقي آسيا والعراق. ونتيجة لانتشاره على صعيد دولي، نما تنظيم القاعدة من حيث الحجم والتوسّع، وقام بتوسيع قائمة أهدافه لتشمل الحكومات المحلية والولايات المتحدة وحلفاءها. وفي حين ركزت الفروع التابعة لـ"القاعدة" بشكل متزايد على مناطق النزاعات المختلفة، ظلت النخبة الرائدة الأصلية للتنظيم مركزة بشكل مباشر على الهجمات الإرهابية في الغرب، وشهد العقد الأول من هذا القرن هجمات ومؤامرات بارزة في الولايات المتحدة وتونس والكويت وإندونيسيا وكينيا والمملكة العربية السعودية والمغرب وتركيا وإسبانيا وقطر والمملكة المتحدة والأردن والجزائر وباكستان.

AFP
الدخان يتصاعد من خلف المركبات المدمرة بعد هزمية تنظيم "داعش" في الباغوز في محافظة دير الزور شرقي سوريا بالقرب من الحدود العراقية، مارس 2019

وعلى مدار هذه الموجة الثانية، سعت الفروع التابعة لـ«القاعدة» لاستغلال المناطق غير الخاضعة لسيطرة الحكومات، واستغلال الاستياء المحلي من الحكومات الفقيرة والفاسدة والقمعية. وعلى الرغم من نجاح عملاء التنظيم في إنشاء مناطق عمليات جديدة إلا أن محاولاتهم للتوسع على نطاق كبير قد باءت بالفشل. ومع ذلك، استمرت الانشقاقات السياسية والاجتماعية الحقيقية في جميع أنحاء الشرق الأوسط.

وفي أواخر عام 2010 وأوائل عام 2011، بدأ "الربيع العربي"، وانتشرت الاحتجاجات الشعبية والاضطرابات المدنية كالنار في الهشيم، من تونس إلى اليمن، وتم كسر المحظورات وإسقاط الحكومات.

قدم الانتشار المتسارع للاضطرابات فرصا غير مسبوقة لحركة المتطرفين. ففي بادئ الأمر، كانت توجيهات تنظيم القاعدة لفروعه تركز على تحييد الأولويات الأكثر تطرفا في أجنداتهم والعمل على إيجاد استراتيجيات تتناسب مع الواقع المحلي بشكل أفضل، وتهدف إلى كسب دعم محلي وجذور أعمق وأكثر استدامة. كانت سوريا أفضل مكان لتحقيق هذا الهدف، حيث استطاعت "جبهة النصرة" أن تتغلغل في قلب الثورة المسلحة ضد نظام الرئيس بشار الأسد. فخلال الفترة من عام 2012 إلى عام 2015، كانت "جبهة النصرة" في طليعة المعارك التي حققت فيها المعارضة انتصارات عسكرية. وعلى الرغم من أن "جبهة النصرة" أعلنت تبعيتها لـ«القاعدة» بشكل واضح، إلا أنها نجحت في تمييز نفسها بشكل كبير، حيث بدأت الحكومات الغربية في بعض الأحيان بالتأكيد بشكل سري على ضرورة تمييزها عن الفروع التقليدية لـ"القاعدة".

حركتان متطرفتان

إلى جانب قدرة "جبهة النصرة" على ممارسة البرغماتية الخاضعة للسيطرة، كانت الأزمة في سوريا مشهورة أيضا بتسهيلها لصعود تنظيم جهادي جديد بسمعة سيئة على المستوى العالمي، ألا وهو تنظيم داعش. ولأول مرة، يقف العالم في مواجهة تنظيمين جهاديين عالميين، إلا أن "داعش" كان مختلفا على كل الصعد؛ ففي حين بلغ أكبر عدد موثق للمقاتلين الأجانب في أي نزاع منذ عام 1945 حوالي 10 آلاف مقاتل، وذلك في الحرب ضد السوفيات في أفغانستان (1992-1978)، نجح تنظيم داعش في استقطاب ما لا يقل عن 40 ألف رجل يعودون إلى أكثر من 80 دولة حول العالم بين عامي 2013 و2016، وسافر عدد هائل من النساء والأطفال وحتى كبار السن للانضمام إلى الدولة التي أسسها تنظيم داعش في سوريا والعراق.

غيّر صعود تنظيم داعش، وإعلان "خلافة" مزعومة، قواعد اللعبة بشكل كبير؛ إذ دفع احتلال المجموعة لمناطق واسعة من سوريا والعراق- وهي مساحة تعادل حجم المملكة المتحدة– الدول لتشكيل أكبر تحالف متعدد الجنسيات في التاريخ، كما أدى إلى تدخل عسكري بقيادة الولايات المتحدة في العراق وسوريا.

وبينما كانت الموجة السابقة من الإرهاب الجهادي في العقد الأول من الألفية ترتبط بالاحتلالات الغربية واسعة النطاق، فإن المجهودات العسكرية هذه المرة كانت تعتمد بشكل أساسي على القوات العسكرية المحلية، مع دعم الولايات المتحدة والدول الغربية. وعلى الرغم من أن هذا الأمر يشير إلى تعلم الدروس المهمة من التجارب السابقة، إلا أنه ما زالت هناك تهديدات بإمكانية إطلاق حملة جديدة مرهقة من هجمات "داعش" الإرهابية في جميع أنحاء العالم؛ إذ سُجّلت هجمات كبيرة بين عامي 2013 و2023 في بلجيكا وأستراليا وكندا والولايات المتحدة وفرنسا والمملكة المتحدة والدنمارك والمملكة العربية السعودية وتونس وتركيا والكويت ومصر ولبنان وإندونيسيا وبنغلاديش وكازاخستان وماليزيا وألمانيا والأردن والسويد والفلبين وفنلندا وإسبانيا وروسيا وطاجيكستان وإيران وسريلانكا والنمسا ونيوزيلندا وإسرائيل.

وبينما كانت الموجة السابقة من الإرهاب الجهادي في العقد الأول من الألفية ترتبط بالاحتلالات الغربية واسعة النطاق، فإن المجهودات العسكرية هذه المرة كانت تعتمد بشكل أساسي على القوات العسكرية المحلية، مع دعم الولايات المتحدة والدول الغربية

شكلت الهزيمة العسكرية لدولة تنظيم داعش في قرية الباغوز شرقي سوريا في مارس/آذار 2019 إنجازا هاما وكانت بمثابة بداية الموجة الأخيرة من التهديدات والتحديات الإرهابية. وعلى الرغم من تراجع التهديد الراهن، إلا أن جميع المكونات لا تزال متوفرة لظهوره مرة أخرى في سوريا والعراق. فالوضع في سوريا لا يزال مأساويا والآفاق لإيجاد حل للأزمة لا تزال محدودة في أفضل الأحوال. وعلاوة على ذلك، فإن حجم نشاط داعش في المرحلة السابقة خلّف تحديا غير مسبوق اليوم، ألا وهو وجود 30 ألف مقاتل على الأقل وما لا يقل عن 60 ألفا من أفراد عائلاتهم في السجون والمخيمات في سوريا والعراق. وكما توضح القيادة المركزية الأميركية، فإن داعش لديه بالفعل جيش في الانتظار وجيل جديد من المقاتلين.

ولكن، بعيدا عن سوريا والعراق، يبقى الوضع محبطا للغاية، إذ إن حجم ونطاق التهديدات الإرهابية يتوسع بشكل كبير عبر مساحات شاسعة من أفريقيا، دون أي تدخل يذكر من المجتمع الدولي. كما أن أفغانستان عادت مجددا إلى أيدي طالبان، وأصبح قادة "القاعدة" الآن يشغلون مناصب حكومية مدفوعة الأجر، أما "داعش" فيشكل تحديا مستمرا للأمن.

AFP
عناصر من طالبان يحتفلون في كابول بالذكرى الثانية لانسحاب الجيش الأميركي، 15 أغسطس 2023

كان هناك الكثير من الدروس الهامة المستفادة منذ التسعينيات في مجال مكافحة أنجع للإرهاب. وأصبح التركيز على العمل «مع ومن خلال وبالاعتماد على» القوى المحلية الشريكة قاعدة، عندما يتعلق الأمر بالجهود الأجنبية، وأصبحت العائدات أكثر وضوحا. ولكن بعض الدروس كانت أهم من غيرها؛ فلطالما كان الاحتلال أمرا مدمرا، ولكن الانسحابات المبكرة أيضا لم تأت بالنتائج المرجوة، ولم تحقق الحملات الدولية لمكافحة الإرهاب في أي مكان نتائج إيجابية على المدى الطويل.

ويستمر المسؤولون على التأكيد- أثناء الاجتماعات متعددة الأطراف- على أهمية مكافحة الآيديولوجيا، في حين أن أكبر الدوافع لانضمام الجهاديين لا تزال تسيطر على القضايا المحلية، كالبطالة والتخلف والفساد والقمع السياسي ونقص التمثيل وعدم الاستقرار والمناطق غير الخاضعة لسيطرة الحكومات. وإلى أن ندرك هذه الحقيقة، سنستمر في تحقيق الانتصارات التكتيكية، بينما نخسر الحرب.

واليوم، تصمم الحكومات الغربية على التحول نحو منافسة القوى العظمى، ولكنها فقدت قدرتها على استيعاب أن مسارح مكافحة الإرهاب تشكل عنصرا محوريا في مواجهة تأثير القوى العظمى المتنافسة أو المعادية. وفي هذا السياق، تستمر الموجة الحالية من التهديدات والتحديات الإرهابية في التطور في مسارح جديدة مثل غرب أفريقيا وأيضا في المسارح التقليدية والأكثر رسوخا، سواء في العراق وسوريا أو أفغانستان واليمن، أو في أي مكان آخر.

font change

مقالات ذات صلة