دافيد توسكانا لـ"المجلة": بعض الروايات أعظم من الفلسفة

بعد فوزه بجائزة ماريو فارغاس يوسا

Albane Simon
Albane Simon

دافيد توسكانا لـ"المجلة": بعض الروايات أعظم من الفلسفة

فاز الروائي المكسيكي دافيد توسكانا قبل أسابيع قليلة بجائزة فارغاس يوسا للرواية في مدينة "وادي الحجارة" في المكسيك عن روايته "عبء الحياة على الأرض"، الصادرة حديثا بالإسبانية، وتسلم الروائي المكسيكي الجائزة من الروائي البيروفي الحائز جائزة نوبل في الآداب في 2010 ماريو فارغاس يوسا، الذي قال: "أعتقد أن توسكانا كتب واحدة من أجمل روايات لغتنا".

توسكانا واحد من أبرز الروائيين الأميركيين اللاتينيين وقد حصل على العديد من الجوائز المرموقة منها جائزة "بيت الأميركيتين" عن روايته "جيش المتنوّرين"، وتُرجمت رواياته إلى لغات عدّة. صدرت له بالعربية رواية "محطة تولا" التي ترجمها المترجم السوري رفعت عطفة ونشرتْها "دار التكوين" في دمشق، ثم تبعها المترجم برواية "نوى" التي صدرت عن "دار الحوار". صدرت لتوسكانا أيضا روايتان مترجمتان في الكويت هما “جيش المتنورين” و"القارئ الأخير"، ترجمهما محمد سالم وصدرتا عن "دار الخان للنشر".

وُلد توسكانا عام 1961 في مدينة مونتيري المكسيكية حيث درس الهندسة وحصل على شهادة جامعية في هذا الاختصاص، وبعد ذلك تفرّغ للكتابة الروائية. وهو مقيم حاليا في مدريد.

هنا نص الحديث الذي أجرته "المجلة" معه:

  • فازت روايتك الصادرة حديثا “عبء الحياة على الأرض” بجائزة ماريو فارغاس يوسا للرواية، وسلّمك الجائزة الروائي البيروفي الكبير، ما الذي تعنيه لك هذه الجائزة؟

تعني لي الكثير. حين كتبتُ الرواية ظننتُ في البداية أنها عمل شخصي جدا، حتى أنني لم أفكّر في نشرها. ثم في ما بعد حين قدّمْتها للنشر رفضها مُحرّران. هكذا كنت أقفز من مفاجأة إلى أخرى من خلال ردود فعل القراء والنقاد، والآن حصلت الرواية على هذه الجائزة، التي تلتها مقالة ماريو فارغاس يوسا تشيد بها. يسعدني هذا جدا.

حين أقرأ تعليقات الكتّاب على رواية ما فإن المديح الأكثر شيوعا هو أنها سهلة القراءة. إن معظم القراء المعاصرين لا يحبون الروايات التي تحرّض الفكر

  • لا تنسى روايتك إلقاء الضوء على الكتّاب الروس الذين تعرّضوا للقمع والنفي والسجن. ما الذي حفزك للذهاب إلى هذا الأدب؟

تدافع روايتي عن حرية الكتابة والقراءة والتخيل، وهذا في صلب موضوعها. لم تكن روسيا حرة في زمن القياصرة ولا في زمن الشيوعية وليست حرة الآن في زمن فلاديمير بوتين. لم تكن حرة البتة، لكنها قدمت كتّابا كبارا وأدبا عظيما. أردتُ أن أعرب عن تقديري لهؤلاء الكتاب الذين قُتلوا ونُفوا أو زُجَّ بهم في السجون أو أُرسلوا إلى معسكرات الاعتقال حيث فُرض عليهم العمل الإجباري، وعُزلوا وفُصلوا واعتُدي عليهم ومُنعت أعمالهم أو أُخضعوا للرقابة لأنهم كتبوا أدبا عظيما يهدف إلى تكريم الكائن البشري والإعلاء من شأنه. قال الشاعر أوسيب ماندلستام: "في روسيا فقط يحترمون الشعر، إنه سبب لقتل الناس. هل مِن مكان آخر يكون فيه الشعر حافزا عاما هكذا للجريمة؟". في ما بعد، حصل ماندلستام على نصيبه حين مات جوعا وهو يُنْقل إلى سيبيريا.

  • تقول روايتك، على مستوى عميق، إنه لا توجد حدود بين الثقافات وإن رسالة الكاتب كونية. إن نشدان التحرر من خلال تقمص شخصيات بوشكين وتولستوي وبوريس باسترناك وكتّاب روس آخرين شهادة على هذه الكونية، وعلى قدرة الأدب على تحريرنا. ما دور الرواية في عصرنا هذا؟

في معظم الأحيان ليست الرسالة كونية في الروايات السائدة. لهذا السبب بالذات نثني على قلة من الروائيين الأفذاذ الذين يجعلونها كونية. نُسي هذا التوجه في الكتابة منذ هوميروس حتى وقتنا الحاضر. لكن لدينا أيضا بعض العباقرة الذين بنوا قصصهم على الحجر الصلب والمستمر للوضع الإنساني الكوني وعلى الجمال الطويل الأمد.

Getty Images
الكاتب المكسيكي دافيد توسكانا

قال كتّاب اليونان القدماء: "اكتبوا للأجيال المقبلة". لكنني رأيت كثيرا من الكتّاب المعاصرين يزدرون فكرة الأجيال. بالطبع، لا نستطيع التحكم بالمستقبل لكن الأجيال المقبلة يجب أن تُؤخذ في الاعتبار حين نكتب. إن معظم الروايات المعاصرة تُكتَب من أجل التسلية. وفي العالم الناطق بالإسبانية تسيطر على عالم النشر مجموعتان لا تعملان بوصفهما تنتميان إلى المشروع الثقافي والأدبي الإبداعي بقدر ما تنتميان إلى صناعة التسلية. حين أقرأ تعليقات الكتّاب على رواية ما فإن المديح الأكثر شيوعا هو أنها سهلة القراءة. إن معظم القراء المعاصرين لا يحبون الروايات التي تحرّض الفكر. لا يزال لدينا عدد لا بأس به من الكتّاب الجيدين لكنهم غير مقروئين على نطاق واسع، أما من يساهم في انحطاط الأدب فهم القراء والناشرون وليسوا الكتّاب.

  • لماذا اخترت أن تكون كاتبا؟ما المؤثرات الأولى؟ هل بدأت بكتابة الرواية منذ البداية؟

لم أولد في منزل مليء بالكتب. كانت لدينا في بيتنا الموسوعة البريطانية فقط وكنت أواظب على قراءتها. ثم كان هناك سوبرماركت في المنطقة أعلن أنه إذا اشتريت منه ما قيمته 100 بيزو من السلع، فإنك تحصل على رواية كلاسيكية مجانا. وهكذا كان أول ما قرأته "دون كيخوته" لسرفانتس و"الجريمة والعقاب" لدوستويفسكي. وقعتُ في حب الروايتين من القراءة الأولى. لم أبدأ الكتابة حتى سن الثلاثين. لا أعرف ما التحول الذي طرأ على روحي وجعلني أشرع في الكتابة، لكن بعدما كتبت الفقرة الأولى، تأكد لي أنني سأكرّس حياتي لها.

إن الفكاهة العميقة يجب ألا تكون بسيطة، بل يجب أن تأتي كوحي، كإحساس بالمفارقة أو العبث، ويجب أن تكون موجّهة إلى قارئ ذكي، كي يبتسم أو يضحك، وأيضا كي يجد حافزا على التفكير والتساؤل.

  • هل يقول هذا شيئا عن نظرتك إلى فن السرد؟

في الروايات العظيمة هناك أيضا فلسفة، هذا أهم شيء بالنسبة إليَّ. كقارئ، لا أريد أن أكون متفرجا، بل لاعبا، وأن أقوم ببناء حوار مع النص، والشخصيات والمواقف. إن كثيرا من الأسئلة التي تطرحها الفلسفة يطرحها الأدب، وبعض الكتاب يطرحون أسئلة أعمق ويقتربون من الحقيقة. إن رواية "الأخوة كارامازوف" لدوستويفسكي كتاب فلسفي رفيع المستوى، وهذا ينطبق على رواية "الحرب والسلام" لتولستوي. واصل سقراط طرح الأسئلة حول العدالة من دون أن يحصل على جواب، لكن حتى في زمنه اقترب إسخيلوس في مسرحيته "أوريستيا" ويوريبيدس في مسرحية "الطرواديات" من فهم ماهيتها.

  • ماذا تغير في تجربتك بين رواية"محطة تولا" وروايتك الأخيرة "عبء الحياة على الأرض"؟

تضاعف عمري بين الروايتين الأولى والثانية. في أثناء ذلك الوقت قرأتُ الكثير من الكتب ومررتُ بتجارب جمّة، والأهم من هذا أنني أشعر باقتراب الموت. في سن الثلاثين كان كاتبي المفضل هو دوستويفسكي أما في الستين فكاتبي المفضل هو تشيخوف. أمضى تشيخوف نصف حياته يعاني من داء السل، وتستطيع أن ترى كيف أن أدبه تطور إلى بحث عميق عن معنى الحياة.

  • عنوان روايتك "عبء الحياة على الأرض" يتحدث معنا جميعا، لأننا نشعر بهذا العبء فيما نعيش رواية الحياة. هل تعتقد أن الأدب يمكن أن يخفف العبء؟

يمكن أن نشعر بأن الحياة عبء في بعض الأحيان، لكن حتى في الظروف المريعة والصعبة نختار الحياة ونفضّلها على الموت. تقول إحدى شخصيات تشيخوف: "حتى الحشرة تريد أن تعيش". أرى أن الروايات العظيمة تشكل جزءا من حياتنا، من تجربتنا. فالرواية شيء يحدث لنا إذ لا مهرب من الواقع، لكن أعني الواقع بالمعنى الحقيقي، العميق. إن صداقتي مع دون كيخوتة أعمق بالنسبة إلي من علاقتي مع أي من أصدقائي. إن القراء أشخاص يتمتعون بالامتيازات. لا يعني هذا أن القراءة تجعلنا سعداء، لكنها تجعلنا إنسانيين، إنسانيين جدا.

  • كل روائي يبني عالمه الروائي بلغته الخاصة الفريدة وأسلوبه، في رأيك ما الذي يجب أن يفعله الروائي كي يؤلف رواية إبداعية؟

يجب أن يكون فيلسوفا، مفكرا عميقا يستطيع أن يروي حبكات بسيطة أو معقدة، لكن دوما لها معنى. ثم إذا كان هذا أدبا فيجب أن يمتلك كاتبه إحساسا بالجمال. والجمال في الرواية يأتي من مزيج غامض من الشخصيات والمواقف ومن الاختيار الحكيم للكلمات. أستطيع أن أبكي من جمال ركوع راسكولينكوف أمام سونيا وقوله: "لم أركع أمامك، بل ركعت أمام كل معاناة البشرية".

  • هل لديك تعريف خاص للرواية؟

إنها حياة مصنوعة من كلمات.

Albane Simon

  • ما الرواية العظيمة في نظرك، ما الذي يجب أن يتحقق فيها كي يجعلها تستحق صفة العظمة الأدبية؟

سأذكر مرة أخرى عُنصرَي الجمال والفلسفة، لكن كي لا أكرر نفسي سأضيف شيئا جوهريا: إن الرواية العظيمة يمكن أن تُقرأ مرات عدة وفي أوقات مختلفة من حياتك وتبقى مغرية ومدهشة ومليئة بالأسرار والمعاني الجديدة.

  • أنت كاتب مكسيكي يعيش في أوروبا، كيف تخدمك هذه المسافة؟

إن البعد عن المكسيك لا يؤثر بي لأنني دوما أكتب عن ماضيها. معظم الكتاب المكسيكيين يكتبون حاليا عن العنف والفساد وكارتلات المخدرات، لكنني لست مهتما بهذا ولا يثيرني ككاتب. كنت أبني جسورا بين أوروبا والمكسيك. لديَّ  رواية تدور أحداثها في وارسو، وأخرى في كونيغسبرغ، التي هي الآن كالينينغراد، ورواية ثالثة تدور أحداثها في القدس، وروايتي الأخيرة تطير بين الأدب الروسي والمكسيك في سبعينات القرن الماضي. إن مدريد الآن مليئة بالكتّاب الأميركيين اللاتينيين، كما كانت باريس يوما.

في سن الثلاثين كان كاتبي المفضل هو دوستويفسكي أما في الستين فكاتبي المفضل هو تشيخوف. أمضى تشيخوف نصف حياته يعاني من داء السل، وتستطيع أن ترى كيف أن أدبه تطور إلى بحث عميق عن معنى الحياة.

  • دوما تنشد قوة الخيال وتأثيره على حياتنا في رواياتك، كيف أنجزتَ هذا في روايتك الأخيرة "عبء الحياة على الأرض"؟

يكتشف صاحب الشخصية الرئيسة في الرواية أن حياته مضجرة، ويقترح على زوجته أن يعيشا حياة شخصيات من الروايات الروسية. إنها فكرة دون كيخوتية، لكن الشخصيات لا تريد أن تهيم على وجهها كالفرسان بل هم مجموعة من مدمني الكحول والمصابين بالسل والعاهرات والقتلة والسجناء، وفعلوا ذلك لا كي يدفعوا بأنفسهم إلى المزيد من الانحطاط بل كي يشاركوا بفعالية أكبر في الوضع البشري. قال تيرينس: "أنا رجل، ولا أعدّ أي شيء غريبا عني"، لكن شخصياتي تعرف أن هناك الكثير من الأشياء البشرية الغريبة عليها، وتريد تذوقها.

  • تتقن فن الفكاهة في حياتك ورواياتك. حتى ماريو فارغاس يوسا نفسه قال إن حس الفكاهة لديك ليس بسيطا، بل معقد وعميق. ما دور حسّ  الفكاهة هذا في رواياتك؟

إن حضور حسّ  الفكاهة طبيعي وتلقائي في طريقة حديثي وكتابتي. لكن الفكاهة عندي بعيدة عن النكتة. إن الفكاهة العميقة يجب ألا تكون بسيطة، بل يجب أن تأتي كوحي، كإحساس بالمفارقة أو العبث، ويجب أن تكون موجّهة إلى قارئ ذكي، كي يبتسم أو يضحك، وأيضا كي يجد حافزا على التفكير والتساؤل. يسعدني أيضا أن أقول إن الذكاء الاصطناعي سيعاني من تماس كهربائي مع روايتي.

font change

مقالات ذات صلة