في منزل هنريش بول

Getty Images
Getty Images
الكاتب الألماني الراحل هنريش بول

في منزل هنريش بول

يستضيف منزل الكاتب الألماني الراحل هنريش بول، سنويا، وضمن برنامج للإقامة الإبداعية، كتّابا من مختلف أرجاء العالم. محمد أبي سمرا حلّ ضيفا على هذا البيت، وعاد بهذه الانطباعات.

1

كولونيا: بعد يومين أو ثلاثة على الإقامة في منزل الكاتب الألماني الراحل هنريش بول (21 ديسمبر/كانون الأول 1917- 16 يوليو/تموز 1985) ببلدته الريفية لانغنبرويش في مقاطعة كولونيا الألمانية، لا بد أن يساورك شعور بأن العالم هادئ وفسيح ومؤنس إلى ما لا نهاية. وقد يكون خاليا من سواك، ومتاحا لك ولسواك، بصفتك ظلا في "صحبة الظلال" (الشاعر الراحل بسام حجار: 1955- 2009).

كأنك، ما أن وصلتَ إلى هذا المنزل القديم، المشيّد من حجر وخشب وقرميد رصاصي أو سوّده القِدم، وتجاوزتَ عتبة بوابته الخارجية الخشبية المتينة، حتى سرى بينك وبينه تعاقد صامت: أن تكون ظلا، ومسكونا بالظلال، أنت من أتيت إلى هنا من بلاد "مهن القسوة" (بسام حجار أيضا) في بيروت الصخب الفوضوي، العدواني والعنيف، حتى القتل العشوائي والمجاني.

ستعلم أنك لست وحدك ظلا. ستعلم أيضا أن أناسا يسكنون هنا في الجوار، هناك وهنالك بعيدا. أحيانا تبصرُ بعضهم في الطريق، لكنهم يختفون فجأة أو يغيبون، ولا يتركون خلفهم أثرا ولا حتى ظلا

2

هنا، في هذه البلدة الريفية الألمانية البورجوازية، ستعلم أنك لست وحدك ظلا. وستعلم أيضا أن أناسا يسكنون هنا في الجوار، هناك وهنالك بعيدا. أحيانا تبصرُ بعضهم في الطريق، لكنهم يختفون فجأة أو يغيبون، ولا يتركون خلفهم أثرا ولا حتى ظلا. تماما مثل الصمت الجالس، منذ وصولك إلى هنا، على ذاك المقعد الخشبي الشاغر قرب باب المنزل الحجري، وتحت نافذته المسدلة الستائر.

أناس قلما تبصرهم، وتحدس أنهم يقيمون في بيوتهم المبطّنة بدهر من الصمت والكلمات. من النشاط الهادئ اللامرئي منه سوى نظامه المادي والمجرد، الدقيق والخالي من أي خلل، ولو بسيط. حتى تلك النافذة التي لمحتها من بعيد في منزل إلى جانب طريق مشيتك الصباحية الأولى، وتراءى لك أنها مهملة وبها خدوش من أثر هجران أو اعتداء بشري، تبيّن لك لما اقتربت من المنزل أن النافذة مؤطرة برسوم فضية هندسية.

Getty Images
منزل الكاتب الألماني هنريش بول.

وسمّيتَ هذا الوهم حادثةً صامتة، أو حادثة النافذة. ثم اتخذتها أثرا أو علامة استدلال، وفكرت أن الحوادث هنا شبيهة بهذه الحادثة ولا تتجاوزها.

الصمت والكلمات والنشاط هنا مرئية في مشاهد البيوت، في بنائها وهندستها المعمارية المصمّمة بأمزجة فنية لا تُحصى. ويتهيأ لك أن أشكال البيوت الخارجية مرايا لدواخلها ولحياة ساكنيها غير المرئيين.

مثل تلك المقاعد الثلاثة المؤنسة، هناك على الشرفة الأرضية العلنية كنهار في شمس الربيع الخريفية، وقد غادرها قبل هنيهات جلاّسها بلا أثر.

مثل المرأتين الصباحيتين الواقفتين تتحادثان، ممسكتين بمقودَي دراجتيهما الهوائيتين، على درب الحقول، غير بعيد من البيوت، وخلفهما الحقول المترامية حتى الأفق الموشح بغيوم بيضاء.

مثل السنجاب الصغير المتقافز سريعاً على الإسفلت.

مثل شجرة السرو الوحيدة في قصائد بسام حجار، لكن بلا ذاك الحزن الجنائزي المقيم.

مثل تلك المقبرة غير المسورة، والمرسومة من عشب ورخام في مشهدها المشمس إلى جانب الطريق بين بلدة هنريش بول وبلدة مجاورة، ويؤمها في عطلة الأحد زوار الموتى، فيحتفلون احتفالا خافتا رضيّا بالحياة.

 

3

لا شيء هنا تزيّنيّ أو استعراضي وللإبهار، أو مفتعل وفائض على الحاجة الجمالية والعملية. هذه حال البيوت، وأصحابُها مثلها على الأرجح. وإلا من أين يأتي هذا الصمت الدهري المطمئن؟

قد تصادف من أصحاب البيوت أشخاصا هنا أو هناك. يومئون لك وتومئ لهم بتحية عابرة خاطفة من يد أو صوت. لكنها تحيات لا تترك أثرا وتظل ذكرى متجمدة في مكانها وفي الزمن. ولا تشعر أنك غريب وأتيت من بلاد غريبة وبعيدة. ولا هم يوحون لك بشيء من هذا أو سواه.

Getty Images
الكاتب الألماني الراحل هنريش بول

لا، ليست البيوت وحدها على هذه الصورة من الأناقة والبهاء العاديَين في هذه البلدة في الريف الألماني البورجوازي. بل إن الطبيعة ومشاهدها كلها على هذه الصورة: لم يُترَك سنتمتر واحد منها خارج التنظيم المشهدي الدقيق، الجمالي والعملي. كأنما التنظيم والجمال والوظيفة الاستعمالية والفنية تتداخل وتتجانس ببداهة سلسة، ومضى زمن مديد على تجانسها، وعلى الجهد الكبير، وربما المضني والأليم، لجعل العالم والحياة على هذه الصورة من التناسق البديهي السلس.

فهل بقي في هذه الصورة للعالم والحياة شيء ما من ذاك التقشف الذي وصفه المفكر الألماني ماكس فيبر (1884- 1920) في كتابه الشهير "البروتستانتية والروح الرأسمالية"؟

 

4

على مسافة خطوات قليلة من البيوت، تبدأ منبسطات الريف الزراعي الهندسي مثل البيوت الريفية. مدىً شاسع من حقول أصفر النبات وأخضره. كأنما الصمت هندسها ولوّنها ويحرسها ويعمل فيها، ولا حاجة لمخيلة فان غوغ (1853- 1890) وريشته وألوانه، ولا لكلود مونيه (1840- 1926) ومتحفه البيتي في بلدة جيفرني بالريف الفرنسي.

تمشي وحيدا في الصباح على دروب حقول الصمت المترامية. صمتٌ أنسيٌّ اختطت حقوله عقول ومخيلات بشرية روّضت الطبيعة، وصنعتها صناعة مشهدية سابقة على رؤيتها من نافذة قطار يسير مسرعا في صمت الحقول والمراعي والمزارع والغابات.

وعلى دروب الحقول المنبسطة حتى الأفق، وخلفك منزل هنريش بول وبلدته الريفية الصغيرة، تتشابه الجهات والأمداء، فتروح كلما مشيت مبتعدا بلا اتجاه، تحدّق مليا في علامات استدلال ذاتي، ثم تلتفت إلى الخلف وتقيس المسافات: هناك حصان قصير القوائم يرعى وحيدا. تلك شجرة وحيدة رأيتها أمس. وهذا حقل شعير شاسع حُصدت سنابله الصفراء، وضُغطت في حزم أسطوانية ضخمة متساوية الأحجام، وصُفّت على نحو هندسي بين حقل الذرة والغابة.

تمشي وحيداً وتمشي، وتتخيل أنك نقطة متناهية الصغر في المشهد الفسيح الشاسع.

خطوة واحدة في هذه الغابة الألمانية الدهرية، أو خطوتين تدخلانك في أزل الطبيعة ورهبتها السرمدية

5

خطوة واحدة في الغابة إلى جانب درب الحقول، تُنهي فجأة هذا العالم الأنسيّ كله، تمحوه تماما كأنه لم يكن. خطوة واحدة في هذه الغابة الألمانية الدهرية، أو خطوتين تدخلانك في أزل الطبيعة ورهبتها السرمدية.

تعلم أن البراري والغابات قد رُوّضت منذ زمن بعيد. ترى حولك أشجارا وحشية هائلة الأحجام، كأنها من ليل العالم والظلام في الأزمنة السحيقة. لا تفيدك في شيء معلوماتك عن سيطرة البشر على الطبيعة، ترويضها وأنسنة وحشيتها. خوف غامض يدفعك إلى الوراء، فلا تقوى على صدّه ومقاومته.

هدوء عميق مسكون بأرواح أو أشباح، ولا تعرف مثله من قبل. كأنما الأشجار المهولة مسكونة بأرواح شبحية من ليل العالم السابق على الخلق والمخلوقات.

Getty Images
الكاتب الروسي ألكسندر سولجينتسين يتحدث إلى الصحافة الدولية ليلاً خارج منزل الكاتب الألماني هنريش بول.

تخرج مرتاعا من غابة الأرواح الشبحية إلى درب الحقول. تفكر بفيلسوف الوجودية الألماني مارتن هايدغر (1889- 1976) وبغابته السوداء، وبقوله مرة: "وحدها الغابة السوداء تلهمني". وقد أنجز الكثير من كتاباته الفلسفية في منزل صغير (خشبي ربما) بناه في الجبال وسط الغابات.

تتذكر أيضاً المفكر والروائي إلياس كانيتي (1905- 1981) صاحب كتاب "الحشد والسلطان" الذي رأى فيه أن أقوى ما يجسّد روح ألمانيا الرمزية هو الغابة التي قد تكون النازية الهتلرية استوحت منها انتظام حشودها البشرية الوحشية التي دمرت ألمانيا.

وعلى درب الحقول الأنسيّة، مقتربا من بيوت البلدة، تفكر بموجة "أدب الأنقاض" الألماني، وبرائدها هنريش بول ما بعد الحرب العالمية الثانية. فأي معجزة تلك التي انتشلت ألمانيا من بين الأنقاض؟

تصل إلى منزل هنريش بول، وتقرأ أنه في فبراير/شباط 1974 استضاف ليومين في منزله هذا صاحب "أرخبيل الغولاغ"، الكاتب الروسي ألكسندر سولجنتسين (1918- 2008). وعقدا أمام المنزل مؤتمرا صحافيا تحدثا فيه عن دعم الكتّاب الروس المنشقين عن نظام الاتحاد السوفياتي التوتاليتاري. بعد وفاته، قررت عائلة هنريش بول تحويل منزله منذ العام 1989 بيتا للفنانين والكتّاب، جريا على التقليد الذي اتبعه بول في حياته.

font change


مقالات ذات صلة