قصة الرواية التي فضحت وجود المافيا في إيطاليا

"كوزا نوسترا" والحرب على الدولة والمجتمع

Paramount Pictures
Paramount Pictures
آل باتشينو في دور مايكل كورليوني.

قصة الرواية التي فضحت وجود المافيا في إيطاليا

ميلانو: بعد ستين عاما ونيف من صدورها، عادت رواية "نهار البومة" (دار المتوسط- ترجمة عرفان رشيد) إلى الواجهة إثر اعتقال زعيم زعماء المافيا ماتيو ميسّينا دينارو في 16 يناير/ كانون الثاني 2023، من قبل وحدة مكافحة المافيا في سلاح الكارابينييري خلال تواجده في عيادة "لا مادالينا" الخاصة في باليرمو.

و"نهار البومة" مستوحاة من مقتل أكورسيو ميراليا، النقابي الشيوعي، الذي اغتالته منظمة "كوزا نوسترا" الإجرامية في مدينة شاكّا (صقلية) في يناير 1947. أنهى ليوناردو شاشا كتابة الرواية في عام 1960 واستبقت نشرها مجلة "العالم الجديد" في العام نفسه، وصدرت الطبعة الأولى منها عن دار نشر "إنياودي" في تورينو عام 1961، مستهلّة بملحوظة توضح أن الحقيقة التي تنطوي عليها السردية الخيالية للرواية، لم تُكتب بحرية وافية، لكنها مهمة لعالم الأدب الذي لم يقدّم المافيا حتى تلك اللحظة سوى بصورة تبريرية، ونفى وجودها الاجتماعي عبر الهيئات السياسية والإعلامية وحتى الدينية. وحتى تسعينات القرن الماضي، ظلّت هناك حالة إنكار لوجود المافيا، ومن هذا القبيلادعاء القاضي كورّادو كارنفالي، الذي كان يترأس القسم الأول لمحكمة النقض عام 1993، خلال مؤتمر صحافي، أن "المافيا غير موجودة".

كانت الرواية بمثابة البداية الحقيقية لمسيرة شاشا الذي كان يبلغ من العمر آنذاك 39 عاما، ولكنه لم ينشر سوى القصائد والقصص القصيرة والمقالات ومخطط لسيرة ذاتية. وتمثل الرواية إدانة واضحة لنظام الجريمة المنظمة، والتي يرسم الكاتب الصقلي عنها صورة أنثروبولوجية مهمة للغاية، وهو ما يعبر عنه خلال مناقشة الرواية مع طلاب إحدى المدارس الإعدادية في مدينة تورينو:

"لقد كتبت هذه الرواية في صيف عام 1960، ولم تكتفِ الحكومة آنذاك بعدم الاهتمام بظاهرة المافيا، بل نفتها جملة وتفصيلا... لكن بعد ثلاث سنوات من النفي والإنكار، وهو أمر لا يصدّق، شُكّلت لجنة تحقيق برلمانية بشأن المافيا".

من الناحية الفنية، لا تُعتبر "نهار البومة" أول رواية بوليسية إيطالية، ففضلا عن رواية "جثّتي" لفرانشيسكو ماسترياني الصادرة عام 1852، وبعض الأمثلة الأخرى من القرن التاسع عشر، والتي تعد مع ذلك أكثر سوداوية من القصص البوليسية الحقيقية، فقد ابتدع أوغوستو دي أنجيليس في ثلاثينات القرن الماضي شخصية المفتش دي فينتشنزي، لكن بسبب الرقابة الشديدة التي فرضها النظام الفاشي على الأعمال الأدبية، كان المجرمون في رواياته هم الأجانب فقط.

لم يقدّم الأدب عالم المافيا قبل رواية شاشا سوى بصورة تبريرية، ونفى وجودها الاجتماعي عبر الهيئات السياسية والإعلامية وحتى الدينية. وحتى تسعينات القرن الماضي، ظلّت هناك حالة إنكار لوجود المافيا

وللسبب نفسه، في عام 1940، ابتدع جورجيو شيربانينكو، وهو كاتب إيطالي من أصل أوكراني، شخصية المحقّق آرثر جيلينج، في محاكاة شبه تامة للقصص البوليسية الأميركية، حتى إن أحداث معظم قصصه تدور في الولايات المتحدة. بينما في عام 1957، كانت رواية "تلك الفوضى الشنيعة في شارع ميرولانا" لكارلو إميليو غادّا مشبعة بمزاج سكان العاصمة روما وحسهم التهكّمي، وقد أولى كاتب هذه الرواية اهتماما واضحا لتجربة اللغة والبنية أكثر مما أولاه لحبكات القصص البوليسية.

مع ذلك، يمكن القول إن "نهار البومة" هي أول رواية إيطالية يتقصّى فيها محقّق إيطالي جريمة وقعت في صقلية ليقدّم شكوى مدنية محدّدة المعالم ضدّ المافيا، جازما فيها بوجود شكل من أشكال الجريمة المنظمة والتي كان يُقال حتى ذلك الحين إنها من "ابتداع الصحف" أو "من اختراع سكان الشمال الإيطالي".

AFP
رئيس المافيا في إيطاليا، ماتيو ميسينا بعد إلقاء القبض عليه في يناير 2023.

وفقا للمسح الدقيق الذي أجراه شاشا للأعمال الأدبية، من روايات ومجموعات قصصية قصيرة ونصوص مسرحية، أي تلك التي تصل إلى جمهور أوسع، كان هناك عملان أدبيان فقط حول المافيا: أحدهما على مستوى شعبي، وكان شائعا للغاية، ويراد به تمثيل عالم المافيا في الأحياء الصغيرة، لكن بمعالجة سطحية للغاية، وكان بعنوان "مافيويو فيكاريا"، وهي كوميديا باللهجة المحلية، من تأليف جوزيبي ريزوتّو وغاسباري موسكا؛ وفيكاريا هو سجن باليرمو، الذي كان مشهورا آنذاك مثل سجن أوتشاردوني اليوم. أما العمل الآخر، بعنوان "المافيا"، الذي كتبه للمسرح باللغة الإيطالية جوفاني ألفريدو تشيزاريو، وهو أستاذ في جامعة باليرمو، وشاعر ومترجم شكسبير، فقد كان يمثّل طبقة من البورجوازيين التي تعتبر المافيا نمط حياة وقاعدة علاقات اجتماعية وسياسة.

وعنوان رواية شاشا، والذي يبدو أنه يشير إلى الأمثال أو الطقوس المحلية، إنما هو مأخوذ من بيت شعريلشكسبيرمن مسرحية هنري السادس: "مثل البومة عندما تظهر أثناء النهار"، والبومة التي ظهرت هذه المرة في وضح النهار، كانت بلا شك من الطراز النادر والمخيف أيضا، لأن ماتيو ميسّينا دينارو، كان واحدا من أشرس زعماء المافيا الذين تناوبوا على قيادة "كوزا نوسترا"، بارتباط وثيق مع المافيا الأميركية، فهم في النهاية ينتمون إلى البيئة نفسها ومعظم أسلافهم ينحدرون من مناطق معينة في صقلية، مثل بلدة "كورليوني"، التي منح اسمها ماريو بوزو للعرّاب "دون كورليوني" في روايته الشهيرة، وحازت سلسلة الأفلام التي أخرجها فرنسيس فورد كوبولا نجاحا عالميا قلّ نظيره. 

 

جرائم المافيا

وكما في رواية وفيلم "العراب"، ولكن بمستوى إجرامي أوسع وأشد فظاعة، فإن سلسلة طويلة من العمليات الإجرامية التي بدأت في ثمانينات القرن الماضي ولم تهدأ إلا مع حلول القرن الحادي والعشرين، أكّدت ما ذهب إليه شاشا في روايته الرائدة من وجود الجريمة المنظمة، وذلك عند اندلاع صراع محموم بين الدولة الإيطالية والمافيا الممثلة بمنظمة "كوزا نوسترا" والتي بادرت بشنّ سلسلة هجمات إرهابية. 

كان من بين هذه الهجمات الشرسة، تلك التي حدثت في ليلة 26 و27 مايو/أيار عام 1993، عندما انفجرت سيارة فيات فيورينو مفخّخة، محشوة بمائتي كيلوغرام من مادة الـ "تي. إن. تي" و"تي 4" ونتروغليسيرين في شارع دِيْ جورغوفولي في فلورنسا، مما أدى إلى انهيار برج الأكاديمية وتدمير منطقة مساحتها 12 هكتارا ومقتل الطفلة نادية نينتشوني البالغة من العمر تسعة أعوام، ووالدتها أنجيلا فيومي ووالدها فابريتسيو نينتشوني وأختها الصغيرة كاترينا البالغة من العمر بضعة أشهر فقط، بالإضافة إلى طالب في كلية الهندسة المعمارية وواحد وأربعين جريحا.

قبل الانفجار الذي دبّرته "كوزا نوسترا"، كانت نادية قد كتبت قصيدة بعنوان "غروب الشمس": "الظهيرة ترحل/ يقترب الغروب/ لحظة رائعة/ الشمس في طريقها (إلى الفراش) / ها قد حل المساء، / وانتهى كل شيء".بقيت هذه القصيدة الشعرية التي تحمل كل معاني البراءة الطفولية معلّقة على جدار غرفة عمليات الفرقة الخاصة لمكافحة المافيا طوال ثلاثين عاما، إلى أن حانت اللحظة المناسبة، وألقي القبض على واحد من أكثر زعماء المافيا دموية، ماتيو ميسّينا دينارو، الملقب "ديابوليك". وتيمنا بقصيدة نادية، أطلق على العملية اسم "عملية الغروب"، تخليدا لذكراها، بينما أعدّ طلابمدرسة نينتشونيأغنية كتبها ولحنها الأطفال تحتوي على بعض أبيات القصيدة التي كتبتها نادية.

 

رجل المافيا الأول

ولكن من هو هذا الرجل، وكيف تمكن من البقاء طليقا ما يقرب من ثلاثين عاما في مدينة باليرمو، عاصمة المافيا، ذات الكثافة الأمنية العالية؟

وُلد ماتيو في كاستل فيترانو، في محافظة تراباني، وكان الرابع من بين ستة أطفال. قام والده، فرانشيسكو ميسّينا دينارو بالإشراف على أراضي عائلة دآلي ستايتي D'Alì-Staiti لمدة ثلاثين عاما، في حين كان شقيقه سلفاتور يعمل فيبنكسيكولا بارتانّا، الذي كان في ذلك الوقت أحد أهم المؤسسات المصرفية الخاصة في صقلية. كانت عائلة دآلي ستايتي من المساهمين فيه، وعندما توفي والده، تولى ماتيو إدارة الأعمال الزراعية لهذه العائلة القوية.

بدأ صعود ماتيو في كوزا نوسترا عندما قرر والده فرانشيسكو الانحياز إلى الزعيم ماريانو أغاتِهْ إلى جانب توتو ريينا في حرب المافيا الثانية، ضد العائلات الباليرمية التي هيمنت على المنظمة حتى ذلك الحين. على وجه الخصوص، أصبح ماتيو حجر الزاوية في ولادة الشراكة بين زعيم الزعماء توتو ريينا والأخوين فيليبّو وجوزيبي غرافيانو.

أكدت سلسلة طويلة من العمليات الإجرامية التي بدأت في ثمانينات القرن الماضي ولم تهدأ إلا مع حلول القرن الحادي والعشرين، ما ذهب إليه شاشا في روايته الرائدة من وجود الجريمة المنظمة

كانت عائلة غرافيانو في الواقع موالية لعائلة بونتاته، ولكن بعد مقتل زعيمها ستيفانو بونتاته في 23 أبريل/ نيسان 1981، راودتهم الشبهة في خيانتهم له. لهذا السبب اغتيل مايكل غرافيانو في السابع من يناير/ كانون الثاني عام 1982، وبعد ذلك مباشرة، التقى ماتيو ميسّينا دينارو بجوزيبي غرافيانو، من خلال عمه فيليبو غوتاداورو، الذي كان قرينه في السن تقريبا، وقدمه إلى بلاط توتو ريينا.

بعد انتهاء حرب المافيا الثانية، أصبحت عائلة ميسّينا دينارو واحدة من أهم عائلات كوزا نوسترا، لدرجة أن القاضي باولو بورسيلينو بدأ الاهتمام بها، بصفته المدعي العام لمدينة مارسالا. في 23 يناير 1990، طلب القاضي، بناء على التحقيقات التي أجراها المفتش كالوجيرو جرمانا، فرض مراقبة خاصة على هذه العائلة، وحظر الإقامة ومصادرة جميع أصول "دون تشيشو"، والد ماتيو، باعتباره "أحد المدافعين الرئيسيين عن مافيا بيليتشي"، ولكن محكمة تراباني رفضت الطلب. في ذلك الوقت، كان سجل الزعيم لا يزال نظيفا، حتى أكتوبر/ تشرين الأول التالي عندما أصدر بورسيلينو مذكرة توقيف بحقّه بتهمة الانتماء للمافيا. ومع ذلك، توارى فرانشيسكو (دون تشيشو) ميسّينا دينارو عن الأنظار، ونظرا إلى مشاكله الصحية الخطيرة، انتقلت سلطة العائلة تدريجيا إلى ابنه ماتيو. كما أن مشاركة ماتيو في الاجتماعات المختلفة التي عقدت في نهاية عام 1991 والتي قرر فيها تنظيم كوزا نوسترا شنّ الحرب الشاملة ضد الدولة، أجازت أيضا تسليم زمام القيادة التدريجي له.

 

الكتائب المسلّحة

تلك الاجتماعات التي أصبحت تاريخية، عرفت باسم "اجتماعات إينّا"، وهي تلك التي أوضح فيها توتو ريينا لأتباعه أن الوقت قد حان ليس فقط لمعاقبة الأعداء التاريخيين ﻠ "كوزا نوسترا"، ولكن أيضا للأصدقاء السابقين الذين خانوا الأمانة خلال المحاكمة في باليرمو. في تلك الاجتماعات، قال زعيم الزعماء أيضا شيئا آخر: سنوقع جرائم القتل باسم"الكتائب المسلحة"، وهو اسم استخدم بالفعل في العام السابق لإعلان المسؤولية عن مقتل المربيأومبرتو مورميلي، الذي قتلته الإندرانغيتا، وكذلك للدفاع عن جرائم عصابة "فيات البيضاء"، ولا يُعرف حتى الآن من اقترح على زعيم الزعماء استخدام هذا الاسم الغامض الذي حيّر المحققين لأنه يحمل طابعا يساريا بحتا.

 IPA/IPA/Sipa USA via Reuters Connect
مجزرة جورغوفيلي

شارك ماتيو ميسّينا دينارو بالكامل في خطط توتو ريينا، لدرجة أنه عُيّن   مع جوزيبي غرافيانو، على رأس فرقة المافيا المكلفة باغتيال القاضي جوفانّي فالكوني في روما، حيث كان يشغل آنذاك رئيس الشؤون الجنائية بوزارة العدل، وكان يتجول بحراسة محدودة جدا. لكن فيما بعد، استدعي الزعماء إلى صقلية، حيث قرروا استخدام 500 كلغم من مادة "تي إن تي" لتنفيذ مجزرة كاباتشي. وفقا لمتعاون القضاء غاسباري سباتوتسا، لم تكن العملية في تلك اللحظة تكمن في النيات الشريرة ﻠ "كوزا نوسترا" فقط: "لقد نشأت هذه القصة بأكملها عندما تخلوا عن فكرة اغتيال فالكوني في روما بتلك الطريقة وبدأت مرحلة إرهابية مافيوية جديدة، ولم يكن وراء هذه المخططات كوزا نوسترا فحسب!".

بعد إلقاء القبض على زعيم الزعماء توتو ريينافي 15 يناير 1993، كان ميسّينا دينارو من بين المؤيدين لمواصلة المجازر، وأوضح المتعاون المستقبلي للقضاء فينتشنزو سيناكوري في اعترافاته أن استراتيجية المجازر كان هدفها الرئيسي هو إجبار الدولة على التفاوض.

في الحقيقة، بدأت مقدمة مجزرة جورغوفيلي قبل عام، وذلك في الثاني عشر من مارس/ آذار عام 1992، عندما اغتيل عضو البرلمان الأوروبي ورئيس بلدية باليرمو السابق، سالفو ليما.

Tony Gentile
القاضي جيوفاني فالكوني وباولو بورسيلينو

في 23 مايو/ أيار، وقع هجوم كاباتشي، الذي أودى بحياة القاضي جوفاني فالكوني، وزوجته فرانشيسكا مورفيلو، وهي أيضا قاضية، وعناصر المرافقة.

بعد شهرين، في التاسع عشر من يوليو/ تموز، جاء دور القاضي باولو بورسيلينو وعناصر المرافقة في شارع دي أميليو.

في 5 نوفمبر/ تشرين الثاني، عثر على قذيفة مدفعية ملفوفة في كيس نفايات في حدائق بوبولي في فلورنسا، بالقرب من تمثال القاضيالرومانيكاوتيوس، الذي ابتدع قانون الكفالة، واعتبرت الحادثة لاحقا من قبل المحققين تمهيدا لمجازر 1993.

في 14 مايو، انفجرت سيارة مفخخة في روما في شارع فاورو أي باريولي، بعد فترة وجيزة من مرور سيارة الصحافي الشهير ماوريتسيو كوستانزو الذي لم يصب بأذى، مخلفة أربعة وعشرون جريحا.

في 27 مايو، جاء دور فلورنسا، حيث انفجرت شاحنة محملة بالمتفجرات تحت برج دِيْ بولتشي، مقر أكاديمية جورغوفيلي، مؤدّية إلى مقتل خمسة أشخاص، من بينهم نادية، وجرح واحد وأربعين شخصا. دُمّر برجبولتشيبالكامل تقريبا وتعرض متحف أوفيتسي الشهير لأضرار جسيمة، فقدت ثلاث لوحات إلى الأبد وتضررت مائة وثلاثة وسبعون لوحة، بالإضافة إلى تدمير ستة عشر تمثالا واثنين وأربعين تمثالا نصفيا.

في 27 يوليو، في التوقيت نفسه تقريبا، انفجرت قنبلتان أمام كنيسة سان جيوفاني لاتيرانو في روما وفي شارع باليسترو في ميلانو، مما أسفر عن مقتل شرطي مرور واثنين من رجال الإطفاء ومواطن مغربي كان يمر على الجانب الآخر من الطريق، وجرح اثني عشر شخصا.

في اليوم التالي، في 28 يوليو، انفجرت سيارة أخرى أمام كنيسة سان جورجيو الفيلابرو، في روما أيضا، وأدّت إلى جرح حوالي عشرين شخصا.

 

المحاكمة

تألفت مجموعة قضاة فلورنسا الذين تولوا التحقيق في مجازر عام 1993 من غابرييل كيلاتسي وجيوزيبي نيكولوسي وأليساندرو كريني، تحت إشراف كبير المدّعين العامّين آنذاك بيير لويجي فينيا، بمساعدة نائب المدعي العام فرانشيسكو فلوري. تمكن المحققون من الوصول إلى مرتكبي المجزرة المباشرين في وقت قياسي، بينما كانت عمليات البحث عن المحرّضين "المخفيين" ما زالت جارية، والتي بدأها كيلاتسي وطالبت جمعية "أسر الضحايا" بإعادة فتح التحقيق بشأنها.

 IPA/IPA/Sipa USA via Reuters Connect
باليرمو، هجوم كاباتشي على جيوفاني ومرافقته.

بدأت المحاكمة في مجزرة جورغوفيلي في 12 نوفمبر 1996، ووصلت عقوبات الدرجة الأولى في 6 يونيو 1998، إلى 14 حكما بالسجن المؤبد وإدانات مختلفة.

في عام 2000، تواصلت المحاكمات المتعلقة بتوتو ريينا وغرافيانو وآخرين، مع حكمين بالسجن مدى الحياة، وفي عام 2002، أكد النقض 15 حكما بالسجن المؤبد. من بين المدانين برناردو بروفينتسانو (كان هاربا في ذلك الوقت، وقبض عليه عام 2006) وماتيو ميسينا دينارو (اعتبر بعد اعتقال بروفينتسانو، زعيم كوزا نوسترا، وكان لا يزال فارّا من وجه العدالة).

الإنسانية كلمة جميلة لكنها خاوية، وقد اعتدت أن أقسم الإنسانية خمس فئات: رجال، أنصاف رجال، أشباه رجال، ووشاة ومهذارين - من رواية "نهار البومة"

في عام 2009، دفعت عناصر جديدة من الاتهام المدعي العام للجمهورية في فلورنسا، بقيادة جوزيبي كواتروكّي، إلى طلب إعادة فتح التحقيق القديم المؤرشف، بشأن المحرّضين "المخفيين" على مجازر عام 1993 وكان على رأس المتهمين فرانشيسكو تاليافيا، كونه أحد المسؤولين عن هجمات 92/93. طلب المدّعون العامّون كواتروكّي ونيكولوسي وكريني إعادة فتح التحقيق، مؤكدين الحاجة إلى تحقيقات جديدة مستندة على ما كشف عنه المتعاونون مع القضاء، ومن بينهم سباتوتسا، الذي شارك بشكل مباشر في تنفيذ الهجوم في شارع دِيْ جورغوفيلي.

انضمّت ثلاثون جهة مدنية إلى المحكمة، بما في ذلك حكومة المقاطعة والبلدية والدولة، واستدعي كبار ممثلي المؤسسات مثل وزير الداخلية نيكولا مانشينو وكونسو للإدلاء بشهادتهم بشأن "المفاوضات" التي يُزعم أنها جرت مع كوزا نوسترا من أجل إلغاء المادة 41 مكررا، كرادع للمافيا عن مجازر عام 1993. وفي 5 أكتوبر 2011، أدين زعيم المافيا فرانشيسكو تاليافيا بالسجن مدى الحياة عن جميع المجازر التي وقعت عام 1993 في روما وفلورنسا وميلانو. وكان هذا الحكم هو الأول الذي يعترف بالموثوقية الكاملة لمتعاون القضاء غاسباري سباتوتسا، المدير السابق لناحية برانكاتشو.

بدأت محاكمة جديدة في 27 مايو 2013 لما يسمى بـ "مفاوضات الدولة والمافيا". وفي 20 أبريل 2018، حكمت محكمة جنايات باليرمو على زعيم المافيا ليولوكا باغاريلّا بالسجن 28 عاما، وزعيم المافيا أنتونينو تشينا ​​12 عاما، والسيناتور السابق مارتشيلّو ديل أوتري، المقرب من برلسكوني الذي أوصى له بثلاثين مليون يورو من ورثته، والزعماء السابقين لوحدة العمليات الخاصة "ر.و.س." التابعة لسلاح الكارابينييري، أنطونيو سوبراني وماريو موري اثنا عشر عاما، العقيد السابق جوزيبي دي دونّو ثمانية أعوام، وبراءة الوزير السابق نيكولا مانتشينو، في حين حصل المتعاون القضائي جوفانّي بروسكا على سقوط الحكم بالتقادم.

Paramount Pictures
مارلون براندو بدور فيتو كورليوني.

جريمة قتل أخرى كان ميسينا دينارو مسؤولا عنها هي جريمة أنتونيلا بونومو، التي كان ذنبها الوحيد أنها شريكة حياة لفينتشنزو ميلاتسو، زعيم مافيا ألكامو، المنافس اللدود لتوتو ريينا. في 13 يوليو 1992، قتل جوفاني بروسكا الزعيم ميلاتسو بإطلاق الرصاص عليه، ثم في اليوم التالي تولى ماتيو أمر شريكته، التي خنقها مع ليولوكا باغاريلا بحبل، على الرغم من أنها توسلت إلى القتلة أن يتركوها كونها حاملا، إلا أنهم لم يرأفوا بحالها.

 

مكافحة متواصلة

منذ ذلك التاريخ، لم تتوقف الحكومة الإيطالية عن مكافحة المافيا بمختلف الطرق، وعلى رأسها التعليم ونشر الوعي في المجتمع المدني. يقول جوزيبي لوميا، رئيس اللجنة البرلمانية لمكافحة المافيا بهذا الصدد: "المافيا ليست مجرد مجموعة من المنظمات الإجرامية: إنها أيضا ثقافة. ثقافة تؤسّس وتنظّم العلاقات الشخصية على أساس الممارسة المنهجية للعنف والترهيب، على الصمت وعلى الكتمان، وفوق كل شيء تحويل الحقوق إلى عطاءات، والمواطنين إلى رعايا. تهدف ثقافة الامتياز وازدراء الحياة إلى سرعة تحقيق أرباح ضخمة. في الواقع، قوة المافيا تتناسب طرديا مع مقدار الثروة التي تمتلكها. الكفاح ضد "كوزا نوسترا" و"كامورّا" و"ندرانغيتا" و"ساكرا كورونا أونيتا" و"ستيدّا" وعصابات المافيا الجديدة (الألبانية، الروسية، التركية، النيجيرية، إلخ)، يجب أن تجعلنا أيضا مشاركين في الترويج ونشر الثقافة الشرعية والتآلف، وأن يكون شباب بلادنا من بين المتلقّين الرئيسيين لها.لقد أظهرت المدرسة الإيطالية وعالم التطوع تفاعلا ديمقراطيا كبيرا خلال هذه السنوات. في الواقع، منذ تاريخ نشر ملف التوثيق هذا، اتجهت أكثر من ثلاثمائة مدرسة ورابطة ومعلمين فرديين وطلاب جامعيين إلى النافذة المخصصة للمدارس وللمتطوعين للاستفادة من خبرائها وخدماتها، ولا سيما فيما يخص الاستشارات لتطوير المشاريع التربوية الخاصة بالتعليم من أجل الشرعية".

وفي العودة إلى "نهار البومة"، يوضح شاشا أن سلفاتور كولاسبيرنا، صاحب شركة الإنشاءات الصغيرة التي بدأت القصة بمقتله، هو في الواقع اشتراكي، في حين أن النقيب بيلّودي، المحقق الذي لا هوادة فيه، هو من الشمال، وهو حزبي سابق ومن عائلة جمهورية، ويتوافق مع شخصية حقيقية، هي شخصية قائد الكارابينييري في أغريجنتو رينانو كانديدا، الذي كان بالفعل مقاتلا في صفوف قوات المقاومة "البارتيزان"، حيث كانت الصداقة بين الاثنين والمعلومات المباشرة أساس الرواية.

في نقطة معينة من الرواية، يعتقل النقيب بيلّودي العرّاب دون ماريانو أرينا، الذي يخاطبه بعبارات بقيت خالدة في الذاكرة الجماعية: "لدي تجربة معينة في العالم؛ وما نسميه الإنسانية، ونحشو أفواهنا بقول كلمة إنسانية، وهي كلمة جميلة لكنها خاوية، وقد اعتدت أن أقسم الإنسانية خمس فئات: رجال، أنصاف رجال، أشباه رجال، (مع كل احترامي لشخصك) ووشاة ومهذارين ... ثمة قلة قليلة من الرجال؛ وقلة من أنصاف الرجال، وسأكون سعيدا لو توقفت البشرية عند أنصاف الرجال ... لكن لا، وما دون ذلك، أشباه الرجال: الذين هم مثل الأطفال الذين يعتقدون أنهم كبروا، قردة تقلد حركات الكبار ... وما دون ذلك أيضا: الوشاة، الذين أصبحوا جيشا ... وأخيرا المهذارين: الذين يجب أن يعيشوا في البرك كما البط، فليس لحياتهم معنى واعتبارا أكثر من حياة البط...".

font change

مقالات ذات صلة