العراقيون وأزمة التفكير في التغيير السياسي

AFP
AFP
عراقيون في مسيرة في ذكرى ضحايا "ثورة تشرين" 2019 عند جسر الزيتون في 21 نوفمبر 2021

العراقيون وأزمة التفكير في التغيير السياسي

ينشغل العراقيون هذه الأيام بالحديث عن تحركات للقوات العسكرية الأميركية في مناطق محددة من العراق. وباتت هذه التحركات حديث البرامج الحوارية السياسية والمدونين ووسائل التواصل الاجتماعي. وتفرق الجميع بين مبشر بمهمة قتالية جديدة للجيش الأميركي هدفها الميليشيات المسلحة، وآخر مستبشر بالتغيير السياسي الجديد الذي يمكن أن يقوم به الأميركيون في العراق. وفريق ثالث، يحاول تكذيب هذه الأخبار أو التقليل من أهميتها.

المهم في هذه السجالات، هو كيف يمكن أن نقرأها كمؤشر على توجه الرأي العام العراقي باتجاه التغيير السياسي؟

المشكلة الرئيسة تكمن في تصور كثير من العراقيين أن إدارات البيت الأبيض يجب أن تتماهى مع رغبات بعض العراقيين، ويعتقدون أن الرئيس الأميركي أو السياسيين الأميركيين ليس لديهم شغل شاغل غير ما يحدث في العراق! وكأن الولايات المتحدة عملت على إسقاط نظام صدام الدكتاتوري من دون حسابات مصلحتها في الشرق الأوسط. لذلك نجد كثيرا من السياسيين وحتى الجمهور يريدون من أميركا أن تعمل على تخليص العراقيين من النظام السياسي الذي أثبت فشله وعجزه عن الاستجابة لتوفير أبسط المتطلبات العامة للمواطنين.

والمأزق الأكثر تعقيدا في البحث عن إجابة لسؤال التغيير السياسي في العراق، يكمن في المخيال السياسي الشعبي عند العراقيين، إذ لا يزال كثير منهم يعوّل على أن تكون أميركا هي المنقذ مرة أخرى! فهم لا يعطون أهمية للانتخابات ولا حتى للاحتجاجات ضدّ طبقة سياسية فاسدة وفاشلة! ويركنون دائما إلى مناقشة الحلول الخارجية الجاهزة، ولا يريدون أن يقتنعوا أن دولة كبرى مثل الولايات المتحدة الأميركية تعمل وفق مبدأ مصالح بلادها أولا وأخيرا. وهي ليست مثل العراق "دولة" بالعنوان فحسب، ومن يتحكم بقرارها السياسي الداخلي والخارجي هو مصالح زعامات تدين بالولاء لمن هو خارج الحدود.

AFP
متظاهرون يحييون ذكرى ضحايا "ثورة تشرين" في الناصرية في 25 اكتوبر 2021

في أيام النظام السابق، كما هو حال العيش في ظل نظام دكتاتوري، لم يكن هناك حتى بصيص أمل في التغيير مِن الداخل، ولم تكن هناك أي خيارات أخرى سوى التدخل الخارجي. لكننا اليوم، رغم أننا نعيش في نظام سياسي هجين، عنوانه ديمقراطي ومضمونه حكم المافيات السياسية، وتداخل السياسة والسلاح، وغياب ملامح الدولة، إلا أنّ كل الطبقة الحاكمة وجبروتها وقوتها تعيش لحظات الخوف عند سماع التحرك نحو احتجاجات أو مظاهرات مطلبية، أو إنها تستشعر الخطر مع كل انتخابات رغم أنها تسيطر على نظامها الانتخابي ومنظومة إدارته. وهذا بحدّ ذاته يجعل خيارات الضغط نحو تغيير نظام الحكم تحت ضغط إرادة الشارع أقوى بكثير مِن فرضية التدخل الخارجي.

في أيام النظام السابق، كما هو حال العيش في ظل نظام دكتاتوري، لم يكن هناك حتى بصيص أمل في التغيير مِن الداخل، ولم تكن هناك أي خيارات أخرى سوى التدخل الخارجي

في تشخيصه لواقع الأنظمة السياسية في البلدان الحديثة النشوء سياسيا يرى عالم السياسة الأميركي صموائيل هنتنغتون في كتابه "النظام السياسي في مجتمعات متغيّرة"، أن المجتمع السياسي فيها يكون مفتَتا، ومؤسساته ضئيلة السلطة، وسيادتها ضعيفة وجامدة لا مرونة فيها، ولا تمارس أنظمةُ الحكم حُكْما، وتحدث الفجوة السياسية عندما تُقابَل ديناميكية المجتمع بجُمُود النظام السياسي. وفرص حدوث الاضمحلال السياسي تصبح واقعا عندما تكون هناك فجوة بين الحراك الاجتماعي والمؤسسات السياسية، ويحدث ذلك عندما يعجز النظام السياسي عن الاستجابة لمتطلبات الأجيال الصاعدة أو الجزء الأكبر من الجمهور؛ عندها يشعرون بالإحباط لأنَّهم يجدون أنفسهم غير قادرين على المشاركة السياسية. 

هذا التوصيف ينطبق على واقع النظام السياسي الحالي في العراق، بيد أن خصوصية العملية السياسية في العراق تعمل على تعطيل انهيار النظام السياسي، والتي تتركز في ثلاثة محاور رئيسة: 
الأول، توافق الاقطاعيات السياسية على أن إعلان الموت الرَّحيم لنظام سياسي قائم على أساس صفقات تقاسم السلطة بين زعماء الأوليغارشيات السياسية وحاشيتهم يعني خسارة جميع الطبقة السياسية.  

والثاني، الفوضى والفساد هما من يعملان على إدامة النظام السياسي، إذ إن النفوذ والسيطرة على مؤسسات الدولة يساهمان في إيجاد نوع من التوافق الضمني بين الفرقاء السياسيين على نهب الثروات والموارد الاقتصادية للدولة وتقاسم الاقتصاد الريعي. سواء أكان النفوذ والسيطرة يجريان عن طريق الأحزاب السياسية، أو قوة السلاح المنفلت، أو يجمع بين قوّة السلاح والنفوذ السياسي. فكلّ هذه الطرق تؤدّي إلى نتيجة واحدة هي نهب الثروات، ومن ثمَّ تكون مهمة الحكومات إدارة نظام الحكم على أساس تحقيق التوازن بين رغبات ونفوذ مافيات السلطة.

أما الثالث، فهو البيئة الإقليمية التي لا تريد انهيار العراق ولكنّها تعمل على إبقائه دولة هشّة، ولذلك فإنها تغذّي الانقسام والتشرذم والضعف والاختراق والفساد؛ لأنّه يسهّل تمرير الأجندة ومشاريع دول الجوار الإقليمي.
 

الفوضى والفساد هما من يعملان على إدامة النظام السياسي، إذ إن النفوذ والسيطرة على مؤسسات الدولة يساهمان في إيجاد نوع من التوافق الضمني بين الفرقاء السياسيين على نهب الثروات والموارد الاقتصادية للدولة وتقاسم الاقتصاد الريعي

الوصف الأدق أن منظومة العمل السياسي الحاكمة في العراق تواجه الاضمحلال السياسي، على حد وصف صموائيل هنتنغون، ولكنّها لم تنهر بعد. بيد أن تأخر إعلان موت هذه المنظومة ليس بسبب قوّتها وصلابتها لكن البديل لم يتوفّر بعد حتّى يفرض نفسه، ومن هنا يعتبر فرانسيس فوكوياما الاضمحلال السياسي بطرقه المتعددة حالة من حالات التطور السياسي: "القديم لا بدّ أن ينهار لإفساح المجال أمام الجديد. لكنَّ التحولات قد تكون فوضوية وعنيفة إلى أبعد الحدود؛ وليس ثمّة ضمانات بأنَّ المؤسسات السياسية سوف تتكيف مع الظروف الجديدة بشكل ملائم وسِلميّ على الدوام".

المسألة العراقية باتت أكبر من تغيير النظام، كوننا فشلنا، لحد الآن، في الاستجابة إلى تحدي ما بعد تغيير النظام، الذي ظل يفرض السؤال الأكثر تعقيدا: هل التغيير هو عملية نقل لِلسلطة من جماعة إلى جماعة أخرى، بحيث تتغير النخبة لكن الآليات تبقى نفسها؟ أم إنه عملية تغيير جذري يجب أن تشمل الآليات وعلاقة الدولة بالمجتمع، هدفها توسيع نطاق المشاركة لتشمل المواطنين كلّهم، بغض النظر عن انتماءاتهم وهوياتهم الدينية والإثنية واللغوية والطائفية؟

AFP
مشهد ليلي لبغداد وبدا مبنى المصرف المركزي العراقي في 2 فبراير

ودائما ما أميل إلى توصيف علاقة المجتمع العراقي مع الطبقة الحاكمة باعتبارها معركة، لأننا نعيش في مخاض التحول نحو نظام ديمقراطي، وبين رغبتنا في أن يكتمل نموّ الجنين الديمقراطي في رحم جسدٍ مشوّه، وبين طبقةٍ سياسية أنتجت لنا بيئة سياسية ملوّثة بجراثيم الفساد والفشل والفوضى. لذلك عملت الطبقةُ الحاكمة على توظيف كل أسلحتها حتّى ترسخ قناعات لدى كثير من العراقيين، بأن بديلَهم الفوضى، وأن خسارتهم الحكم يعني خسارة المكوّن الطائفي. لذلك تسعى الطبقة السياسية إلى وأد الأمل في أن تكون الانتخابات فرصة لتغييرهم، ونجحوا في تشتيت أيّ قوّة ترفع شعارَ معارضة منظومة الحكم، ونجحوا ببراعة في تسويق دعاية المؤامرة التي تستهدف منظومتهم السلطوية.

الطبقة الحاكمة تحتاج إلى مراجعة نقدية بدلا من خطاب المهاترات السياسية والانشغال بتسويق نظرية المؤامرة الخارجية التي تستهدف تجربة حكمهم، فعلاقتها مع المواطن هي الأساس في حماية النظام السياسي. وعندما يتفاعل الجمهور مع أخبار تحركات عسكرية أميركية، أو الدعوة إلى الاحتجاجات والتظاهر للخلاص من المنظومة السياسية الحاكمة. فهذا يعني أنَّ النظام الذي أسست بنيانه قد أصبح ميّتا سريريا.

إذن، علينا أن لا ننتظر (قوّة هائلة، ضاربة، قاضية، مدمّرة، عنيفة، لا يوجد لديها رحمة على الأطلاق!)، وأن نمتلك القدرةَ على نقد تاريخنا والوقوف بقوّة عند اللحظات الكبرى ونسائل أنفسنا عن مدى تواطؤ كلّ منا في صنع رمزية لزعامات فشلت في إثبات أنها تستحقّ وصف (الزعيم السياسي)، وأن نعترف بأنَّ من يحكموننا ليسوا ظاهرة منسلخة عن مجتمعنا وبيئتنا الثقافية والاجتماعية، بل هو نتيجة لنمط مِن التفكير والتربية والتثقيف. وعلينا أيضا، أن نتوقف عن الانتظار وأن لا نتخلّى مجددا عن حريتنا لمنقذ موهوم يصنع مِن بؤسنا مَجدا مزيفا قد يطول الوقت قبل أن نكشف زيفه، وقبل أن يأتي منقذ آخر يساعدنا على الإطاحة به.
 

font change

مقالات ذات صلة