شعار قوى السلطة في العراق: أنا الدولة واللادولة أنا

اللادولة في العراق– مع الأسف- تمثل الواقع القائم، وما عدا ذلك خطابات وشعارات نقدية

AFP
AFP
متظاهرون يلوحون بالأعلام العراقية أمام نصب الحرية في ساحة التحرير، خلال احتجاج على الحكومة، أكتوبر 2021

شعار قوى السلطة في العراق: أنا الدولة واللادولة أنا

يتوهم كثيرٌ من السياسيين في العراق، سواء كانوا يعلمون أو لا يعلمون، في وصفهم الواقع السياسي الذي نعيشه بـ"الدولة". لذلك فهم عندما يلوحون بخطر الانزلاق نحو الهاوية بفقدان الدولة، لا يجدون لذلك التهديد صدى لدى المواطن العراقي، لأنه متيقن تماما بأنه يعيش في ظل اللادولة، ومن ثم لا يمكن التهديد بأسوأ من هذا الواقع.

ويبدو أن المشكلة أكثر تعقيدا من فهم الطبقة السياسية، فالعراق لا يزال في صدارة قائمة الدول الفاشلة أو الهشة؛ وعند التدقيق في مؤشرات هذا الوصف نجدها تدور حول محور يتركز في عجز الدولة عن القيام بوظائفها الرئيسة، وأهمها: معالجة الفقر والتدهور الاقتصادي، والمشاكل بين المكونات، وشرعية الدولة، والخدمات العامة، والمنظومات الأمنية، والفصائل السياسية، والتدخل الخارجي، واللاجئون والمشردون.

اللادولة في العراق– مع الأسف- تمثل الواقع القائم، وما عدا ذلك خطابات وشعارات نقدية ولا يمكن أن نعده تشخيصا حقيقيا لأس المشكلة. والكيان السياسي العراقي يشبه ذلك الكيان المسخ في رواية فرانكشتاين. فهي لم تكن يوما نتاج عقد اجتماعي، وإنما نتاج لإرادة خارجية فرضت وجودها، وبقيت عبارة عن تجمع مكونات طائفية وعرقية وليس الشعب بأكمله.

اللادولة في العراق لا تنحصر ملامحها في سيطرة الميليشيات وغياب القانون وسيطرة المافيات السياسية، وإنما يتم تقزيم الدولة عندما يبدأ الصراع بين زعامات سياسية تريد تمركز القرار السياسي في يدها وإقصاء خصومها، ليس بالطرق الديمقراطية، وإنما بالاستئثار بمراكز السلطة والنفوذ، وبالنتيجة كانت الضحية الأولى هي الدولة وعملية التحول نحو الديمقراطية. لذلك كانت أبرز نتائج الصراعات السياسية، ديمقراطية متسربلة بالدم، وليس انتقالا سلسا نموذجيا نحو بناء دولة المؤسسات.

لم تنتج لنا الطبقة السياسية التي تولت زمام الحكم بعد 2003 غير دولة فاشلة، والمصيبة الأكبر أنه حتى هذه الدولة الفاشلة عجز السياسيون عن إبقائها في مستوى محدد من الفشل والهشاشة؛ إذ عملوا العكس من ذلك بفتح المجال أمام قوى وعناوين ما قبل الدولة لمصادرة وظيفة الدولة وتحويلها إلى "دولة موازية". ولذلك باتت المهمة الرئيسة للمنظومة السياسية هي تحطيم بقايا الدولة من جهة، والبكاء على أطلالها من جهة أخرى.

هنالك فجوة ثقافية ومعرفية بين الدولة كفكرة ومفهوم، وبين أحزاب السلطة وزعامتها سواء على مستوى الخطاب السياسي أو المواقف السياسية؛ فمن يبرر لشرعية السلاح المنفلت تحت عناوين مختلفة، ومن يطالب بضمان حق المكون وهو بيده الحكم ويسيطر على القرار السياسي، قطعا لا يعرف معنى الدولة باعتبارها المؤسسة العليا التي تعبر عن كيان الأمة المتعالي عن التناقضات الاجتماعية والتي تصهر جماعات وتنوعها وتقوم بوظيفة حماية المجتمع وتحقيق طموحاته.

ولم تحترف الطبقة السياسية وزعامتها في العراق إلا في ترسيخ ثلاث ركائز قضت على روح الدولة وأصابت كيانها. الركيزة الأولى كانت سياسة تغييب مفهوم الأمة العراقية والمواطن العراقي، واستبدلتها بمفاهيم حقوق الطائفة والقومية والمتاجرة بهذا العنوان في كتابة الدستور وتوزيع المناصب العليا.

AP
ظاهرة "القمر العملاق" تُضئ سماء بغداد ليلا، في الأول من أغسطس 2023

أما الثانية، فهي تحويل موارد الدولة ومؤسساتها إلى إقطاعيات سياسية لهذا الزعيم السياسي أو لذلك الحزب، وهناك شرعنة الفساد السياسي والمالي والإداري، ومن ثم باتت موارد الدولة تجير لصالح البقاء في السلطة وإدامة النفوذ. والركيزة الثالثة التي أصابت قلب الدولة هي إلغاء كل ما يتعلق بمفاهيم سيادة الدولة، وباتت التدخلات الخارجية والإقليمية مبررة بدعاوي الدفاع عن هذا المكون الطائفي أو القومي ولحماية حقوقه.

الطبقة السياسية الحاكمة في العراق تستمد عداءها للدولة، كونها تتعارض مع انتمائها القومي والطائفي، فالكرد رغم أنهم شركاء في تأسيس النظام السياسي في العراق بعد 2003 إلا أنهم يعتقدون أن بقاءهم ضمن خارطة العراق هو لضمان مصالحهم وليس شراكة حقيقية في الوطن، والمشروع الأكبر هو دولة قومية منفصلة عن الدولة العراقية، وهذا هو الركن الأساس في أزمة التفكير السياسي الكردي إزاء الدولة في العراق، والكثير من قوى الإسلام السياسي الشيعي يعتقد أن الانتماء المذهبي أكبر من أن يتم حصره في حدود الدولة العراقية، فالعقيدة أكبر وأهم من تلك الحدود المصطنعة، ولا تجد حرجا في التماهي مع الجمهورية الإسلامية في إيران، وتبرر تدخلاتها باعتبارها راعية لتجربة الحكم السياسي الشيعي! والكثير من الزعامات والقوى السياسية السنية تعتقد أن الانتماء الجغرافي العربي يبيح لهم تقبل التدخلات الإقليمية ودور بعض الدول في تقريب وجهات النظر بين الفرقاء السنة عندما تشتد الخلافات السياسية.

اللادولة في العراق لا تنحصر ملامحها في سيطرة الميليشيات وغياب القانون وسيطرة المافيات السياسية، وإنما يتم تقزيم الدولة عندما يبدأ الصراع بين زعامات سياسية تريد تمركز القرار السياسي في يدها وإقصاء خصومها

وحتى الآن لا تريد الطبقة السياسية الحاكمة مغادرة تفكيرها الذي يعادي الدولة ويريد تدمير بقاياها الشكلية، وكأنما هناك ثأر قديم بينهم وبين الدولة! وبدلا من الشروع في ترميم ما تبقى من مؤسسات وإعادة ارتباطها بالدولة، عمل السياسيون على خطين متوازيين: الأول تدمير بنيوي لكل رمزية مؤسسات الدولة التي تعبر عن هيبة الدولة وكيانها وتعاليها عن الصراعات المجتمعية، ولعل المؤسسة العسكرية من أهم المؤسسات التي تعرضت إلى هذا التخريب المتعمد. والثاني، إنشاء كيانات موازية للدولة؛ إذ بدلا من أن يحكمنا الدستور والقوانين، بات يحكمنا التوافق بين الزعامات السياسية. وبدلا من أن تحتكر الدولة السلاح، بات لدينا الكثير من العناوين السياسية والعسكرية التي تحمل السلاح خارج سيطرة الدولة وتريد أن تخضع الدولة والمجتمع لسطوة سلاحها المنلفت!

ومن الرومانسية المفرطة التفكير بأن في مخيلة هذه الطبقة الحاكمة مساحة لفكرة الدولة ومفهومها؛ لأنها تعتقد أن نهاية سطوتها ونفوذها السياسي في قوة الدولة، وهي امتداد لموروث ثقافي واجتماعي لا يؤمن بمشروع الدولة، ولذلك لم يعد من المستغرب أن نجد في العراق من أسسوا أركان النظام السياسي وكتبوا الدستور، يعلنون في كل يوم تمردهم على النظام، ولا يحترمون الدستور الذي لم يعد حاكما وإنما أصبح وسيلة للاحتجاج السياسي عند التخاصم.

تغول قوى اللادولة سببه نرجسية الزعامات السياسية، التي تعمل على تقزيم الدولة بصفقاتها التي تلغي كل الاعتبارات السياسية للعملية الانتخابية، ولدور المؤسسات السياسية وحتى التوقيتات الدستورية. فالدولة تعمل على وفق مبدأ المركزية التي تعني تركيز القرار السياسي في هيئات محددة وليس في تقاسم القرار السياسي بين زعامات الطبقة السياسية.

قوى اللادولة التي تمسك زمام السلطة والنفوذ اليوم، لا تدرك بأن الحكم والسلطة والنفوذ من دون ثقة بين الحاكم والمحكوم، لا تنتج إلا الخراب

وقوى اللادولة التي تمسك زمام السلطة والنفوذ اليوم، لا تدرك بأن الحكم والسلطة والنفوذ من دون ثقة بين الحاكم والمحكوم، لا تنتج إلا الخراب، وإن مصير من هم في سدة الحكم سوف لا يختلف تماما عن مصير الطغاة والدكتاتوريين؛ فالقوات العسكرية الأميركية لم تتمكن من إسقاط نظام صدام حسين إلا عندما تخلى عنه العراقيون، والشعوب لا تقبل أن تعيش ذلا يوميا على يد الحكام الدكتاتوريين أو أن يكون الإذلال بسبب الفساد والفوضى. فمفاهيم كالوطن والدفاع عن الوطن تتحول إلى شعارات خاوية إذا كان من يرفعها يريد أن يستعبد أبناء الوطن ويتاجر بدمائهم في سبيل البقاء بالحكم، حتى وإن كانت خطاباتهم تلهج بالدفاع عن حق المكون أو الطائفة أو القومية.

كانت محنتنا الأصعب فقدان الأمل في ظل النظام الدكتاتوري، ويبدو أننا نعود إلى دائرة الخوف من ضياع الأمل باستعادة الدولة التي ضيعها الفاشلون والفاسدون وزعماء المهاترات. فأمنياتنا لم تكن مستحيلة لأن غالبية العراقيين اختصروها على أن يعيشوا حياة هادئة بلا مزيد من الرعب واليتامى والثكالى والأرامل حالهم حال بقية سكان المعمورة، وأن يغادروا مشهد جنائز الشهداء والقتلى في الحروب العبثية. لكن من جعلوا أنفسهم فوق الدولة ضيعوا تلك الأحلام والأمنيات البسيطة.

عندما تعيش في ظل اللادولة، لا تبقى ملامح للمستقبل لك أو للأجيال اللاحقة. ولذلك تبقى تحن إلى الماضي عسى أن تجد عزاء لحالة التردي والنكوص نحو الفوضى، ومحنة العراقيين مع لامبالاة الطبقة السياسية بضياع ملامح الدولة، وأنهم وصلوا لمرحلة اليأس من استعادة الدولة؛ لأن ليس من المنطقي أن يكون بناء الدولة واستعادة هيبتها وسيادتها على يد من عملوا على قتلها وتمزيق بقايا ركائزها.

تغول قوى اللادولة، حتى وإن كان الآن في مصلحة الفرقاء السياسيين المتصارعين على توزيع الموارد السياسية والمادية والرمزية، ويزدهر في ظل تخاذل الحكومات عن القيام بوظائفها السيادية، لكنه في النتيجة سيكون السبب الرئيس في نهاية هذا النظام السياسي. فتوسع جماعات الفقر والفئات المهمشة والهامشية الميالة إلى العنف وتسوية التظلمات بالسلاح، كل ذلك قد يدفع إلى الاعتقاد بأن غياب الدولة هو فرصة حقيقية للاقتصاص من ظالميها في نهاية المطاف، سواء أكان ذلك بجهود داخلية أم بدعم خارجي.

font change

مقالات ذات صلة