"قاعة العار"... هكذا تقوّض المنشّطات نزاهة الرياضة

وثائقي جديد على "نتفليكس"

Majalla
Majalla

"قاعة العار"... هكذا تقوّض المنشّطات نزاهة الرياضة

ليس من نشاط في العالم يوازي سحر الرياضة وفتنتها وفنونها التي تأسر القلوب شرقا وغربا، وهذا القول يصح أكثر في عصر الفضائيات والتواصل الاجتماعي، إذ تتحول المنافسات الرياضية على الشاشات إلى دراما مؤثرة عن الانتصارات والخيبات، وهذا ما تؤكده أرقام المشاهدة العالية للبطولات الرياضية المختلفة، وخصوصا بطولات كرة القدم التي تتسيّد عالم الرياضة، حتى أن عدد الدول والأقاليم الأعضاء في الاتحاد الدولي لكرة القدم (فيفا) (211 عضوا)، يفوق عدد الدول الأعضاء في الأمم المتحدة (193 دولة).

وعادة ما تنسب إلى الرياضة ورموزها أوصاف جليلة تعكس مكانة هذا النشاط، فملاعب الرياضة وحلباتها ومضاميرها، وفقا للثقافة السائدة، هي ساحة للمنافسة العادلة، وللسلوك النزيه، والرياضي هو تجسيد للجسارة والتسامح والانضباط والتفاني، بل أننا حين نمدح شخصا ونختزل صفاته في الدماثة واللطف والأريحية والإيثار نقول عنه بأنه يتمتع بـ"روح رياضية"، وتبعا لذلك تحول الكثير من الرياضيين إلى "نجوم محببين" يحظون بالإجماع، ومن الصعب مثلا أن نعثر على إجماع مماثل حول شخصية سياسية أو ثقافية أو فنية أو اقتصادية يعادل ما يحظى به في عالم الرياضة رونالدو أو ميسي أو كيليان إمبابي، وغيرهم ممن يملكون حضورا طاغيا.

فالرياضة، في هذا المعنى، ترمز إلى المرح والشغف والحماسة والمنافسة النبيلة، وتتلاشى، خلال ألعابها العديدة، الفوارق الطبقية والمذهبية والعرقية والجغرافية، ليعيش الجميع في سعادة غامرة عبّرت عنها منجّمة ألمانية حين سُئِلت عن كيفية توضيحها معنى السعادة لطفل، فردّت بهدوء وثقة: "لا أوضح له، بل أعطيه كرة ليلعب".

   على الرغم من أن ثمة عوامل أخرى قد تشوه جمال الرياضة كالسياسة وشغب الجماهير وجشع الشركات الكبرى، غير أن العامل الأخطر يبقى المنشّطات، ذلك أن الرياضيين أنفسهم، هنا، هم المتهمون


بيد أن هذه الصورة الناصعة للرياضة والرياضيين، لا تخلو من محطات قاتمة، ولعل من أكثر العوامل التي تفسد نزاهة الرياضة هي المنشّطات التي راكمت تاريخا مخجلا في هذا السياق، وعلى الرغم من أن ثمة عوامل أخرى قد تشوه جمال الرياضة كالسياسة وشغب الجماهير وجشع الشركات الكبرى، غير أن العامل الأخطر يبقى المنشّطات، ذلك أن الرياضيين أنفسهم، هنا، هم المتهمون، على عكس العوامل المؤذية السابقة التي قد لا تكون للرياضيين يد فيها.

كونتي و"بالكو"

جزء من هذا التاريخ المعقّد والشائك للمنشطات في عالم الرياضة، يكشفه الوثائقي الجديد "قاعة العار" الذي عرضته منصة "نتفليكس" أخيرا ضمن سلسلة Untold، وهو من إخراج بريان ستوركل. ويخوض، على مدى ساعة و18 دقيقة، في إحدى أكثر قضايا المنشطات إثارة للجدال، التي لطّخت سمعة رياضيين بارزين، وكان بطلها فيكتور كونتي، الشخصية "المراوغة"، صاحب مختبر بالكو الشهير، وهو اختصار لـBay Area Laboratory Co-Operative.

Netflix
فيكتور كونتي

أسس كونتي مختبره عام 1984 في منطقة خليج سان فرانسيسكو في الولايات المتحدة، وبلغ أوج نشاطه نهاية التسعينات ومطلع هذه الألفية، إذ عمل كونتي في مجال تطوير المكملات الغذائية والتحسين البدني للرياضيين، واتهم بتوزيع المنشطات والمواد المحظورة على العديد من الرياضيين البارزين في مختلف الرياضات.

خضع كونتي مع بعض الأفراد الآخرين المتورطين في عمليات توزيع المنشّطات غير القانونية، للمحاكمة، وفي عام 2005 أدين بتهمة "الاحتيال والتآمر لتوزيع المنشطات"، وحُكم عليه بالسجن لمدة أربعة أشهر وغرامة مالية، وبعد قضاء فترة السجن، بدأ كونتي العمل مستشارا في مجال التغذية والتحسين البدني، وأصبح مهتما بتوجيه الرياضيين نحو استخدام المكملات الغذائية القانونية والسليمة، في محاولة متأخرة للتكفير عما اقترفه من تجاوزات.

كونتي ذاته هو ضيف هذا الوثائقي، إذ يتحدّث عن تلك السنوات بكثير من الافتخار وبقليل من الندم، فقد أوصل الكثير من الرياضيين إلى تحطيم الارقام القياسية، عبر مشروعه الذي أطلق عليه اسم "تحطيم الرقم القياسي العالمي"، لكن ذلك لا يمنعه من الاعتراف بأن ثمة انتهاكات ارتكبت، وبأنه لم يكن حريصا بالقدر الكافي على التقيد بالقوانين الصارمة في مجال تعاطي المنشطات، فضلا عن اتهام لا يمكن دحضه وهو أن المواد الهرمونية المنشّطة التي كان يقوم بتصنيعها لم تخضع لأي تجارب سريرية أو اختبارات بشرية، بل كانت تعطى للرياضيين مباشرة، فكان هؤلاء بمثابة "فئران تجارب"، كما يقول أحد المحققين في القضية.

ثمة رياضيون كثر ترد أسماؤهم في حيثيات قضية بالكو، ومن أبرزهم ماريون جونز العدّاءة الأميركية الشهيرة التي كانت تعدّ واحدة من أفضل العدّاءات في التسعينات، وفازت بعدد كبير من الميداليات في الألعاب الأولمبية وبطولات العالم، قبل أن تحوم الشكوك حول استخدامها المنشطات نظرا إلى أدائها البارع وخصوصا في أولمبياد سيدني عام 2000. وفي عام 2007، أقرّت جونز بأنها تناولت المنشطات لتسحب منها كل الميداليات والألقاب التي حققتها، وسجنت لمدة ستة أشهر بتهمة الكذب على المحققين.

Netflix
لاعب البيسبول الأميركي باري بوندز

تشمل قائمة الرياضيين في قضية بالكو، لاعب البيسبول الأميركي باري بوندز الذي أحرز عام 2007 ضربته الحرة رقم 756 ليصبح حامل لقب أكبر رقم قياسي في الضربات الحرة في التاريخ. وحكم عليه في 2011 بالسجن لمدة 30 يوما، بتهمة تضليل العدالة.

ومن بين الأسماء المتورطة في قضية بالكو أيضا تيم مونتغمري العداء الأميركي المتخصص في الـ 100 متر، الذي أحرز أربع ميداليات ذهبية مع فريق بلاده في أولمبياد سيدني 2000، وفي 2002 سجل زمنا قياسيا عالميا جديدا لسباق 100 متر بـ 9.78 ثوان.ولاحقا اعترف مونتغمري بتعاطي المنشطات وسُحبت جميع النتائج التي حقّقها، وسجن لمدة 46 شهرا في 2008 بسبب تورطه في عمليات المنشّطات، واللافت أن مونتغمري يروي حكايته في هذا الوثائقي معربا عن مشاعر الندم، وخصوصا الضرر النفسي الذي تسبب فيه لأسرته، في إطار هذه القضية.

بن جونسونكذلك يرد اسمه في القضية، وهو عدّاء كندي اشتهر بتحقيقه الفوز في سباق الـ 100 متر خلال أولمبياد سيول 1988 في كوريا الجنوبية، لكنه أصبح معروفا بفضيحة تعاطي المنشطات التي أثرت على مسيرته وصورته، ليجرّد من لقبه الأولمبي، ويوقف لمدة عام من المنافسات.

أما في رياضة كرة القدم، الأكثر انتشارا، فهناك لاعب واحد وجّهت إليه اتهامات بالتورّط في فضيحة مختبر بالكو، هو الأميركي لاندون دونوفان. ووفقا لتقارير الوكالة العالمية لمكافحة المنشطات فإن رياضات كمال الأجسام وألعاب القوى ورفع الأثقال وسباقات الدراجات تحتل المراكز الـ4 الأولى في سلم الرياضات الأكثر تسجيلا لحالات تعاطي المنشطات.

يلاحظ أن عقوبات السجن قصيرة للرياضيين المتهمين، ذلك أن الأكثر إيلاما في مثل هذه القضايا هي الناحية النفسية والمعنوية، فحين يجرّد لاعب متوّج من ألقابه، ويجد نفسه في قلب فضيحة تلطّخ سمعته وسمعة أسرته، فإن ذلك يمثل عقابا قاسيا يفوق عقوبة السجن، علاوة على أن المنشطات، من الناحية الطبية، تترك آثارا صحية ضارة وتتسبّب في العديد من الأمراض، ولعل المثل الأبرز على الضرر النفسي والصحي للمنشطات على الرياضي هو ما حصل مع الأسطورة الراحل مارادونا وحكايته المعروفة في هذا المجال.

ينطبق الأمر كذلك على نجمة التنس الروسية ماريا شارابوفا التي توّجت بخمسة ألقاب كبيرة، بدءا من تتويجها الأول في بطولة ويمبلدون الإنكليزية عام 2004 وهي في السابعة عشرة من العمر، مرورا ببطولة "فلاشينغ ميدوز" الأميركية (2006)، وأستراليا المفتوحة (2008)، وصولا الى لقبين حققتهما في إطار بطولة رولان غاروس الفرنسية عامي 2012 و2014.

لكن مسيرة شارابوفا المشرّفة توقفت بشكل مفاجئ في العام 2016، بعد ثبوت تعاطيها المنشطات، مما أدّى إلى إيقافها 15 شهرا، لتركن بعدها إلى الظل بعد رحلة متألقة.

تشديد الرقابة

ترجح المصادر الرياضية أن المنشطات استخدمت منذ عقود لكن وقائعها ظلت مجهولة، ذلك أن تأسيس أول مختبر علمي للكشف عن تعاطي المواد المخدّرة والمنشّطة يعود إلى العام 1961 في مدينة فلورنسا الإيطالية، وكانت هذه الخطوة بداية للشروع في سن قوانين رادعة لمكافحة المنشطات، لتأتي الخطوة العملية الأولى في هذا المضمار مع الأولمبياد الشتوي في غرونوبل الفرنسية عام 1968، ثم أولمبياد ميونيخ الألمانية عام 1972، قبل أن تصدر اللجنة الأولمبية الدولية أول لائحة رسمية بالمواد المحظورة، وذلك على هامش أولمبياد مونتريال عام 1976.

لاحقا تكرست هذه الرقابة الرسيمة الصارمة على المنشّطات، إذ ظهر العديد من الاتفاقات والمبادرات الهادفة إلى مكافحة استخدام المنشّطات وتعزيز النزاهة في عالم الرياضة، فـتأسّست في 1999 الوكالة العالمية لمكافحة المنشطا وهي مؤسسة مستقلة تهدف إلى تنسيق ومراقبة جهود مكافحة المنشطات على المستوى العالمي، وتقوم بتطوير تقنيات الكشف عنها، ذلك أن "المحتالين" يطورون، عادة، طرق الاحتيال، ولا بد، بالتالي، من تطوير طرق الكشف عنها.

    يلاحظ أن عقوبات السجن قصيرة للرياضيين المتهمين، فحين يجرّد لاعب متوّج من ألقابه، ويجد نفسه في قلب فضيحة تلطّخ سمعته وسمعة أسرته، فإن ذلك يمثل عقابا قاسيا يفوق عقوبة السجن


ومن أجل تقنين كل ذلك، أقرّ الاتفاق الدولي لمكافحة المنشّطات في الرياضة في 2005 وهو اتفاق دولي يهدف إلى توحيد الجهود الدولية في مجال مكافحة المنشّطات وتعزيز النزاهة والتنسيق بين الدول والمنظمات الرياضية، الذي اشتمل على مجموعة من القواعد والمعايير التي يجب أن تتبعها الدول والرياضيون والمنظمات الرياضية لضمان مكافحة المنشّطات المحظورة، فضلا عن اتفاقات وطنية وإقليمية تنظم هذه المسألة.

يد إلهية

وإذا كانت للمنشّطات مثل هذه الجولات المخزية في عالم الرياضة، بحسب ما نتابعه في هذا الوثائقي، فإن للسياسة كذلك فصولها المظلمة في عالم الرياضة المشرق، إذ تروي الأدبيات الرياضية، أن الزعيم الإيطالي الفاشي موسوليني وكذلك الزعيم النازي هتلر والجنرال الإسباني فرنكو وظفوا الرياضة بغرض تلميع صورتهم، وأقحموها على نحو شعبوي فاقع، في لعبة الانتخابات.

إبان الحرب الباردة، كانت المباريات التي تخوضها دول الغرب ضدّ دول المعسكر الاشتراكي تمثل محطات سياسية بامتياز، كتلك المباراة الشهيرة في نهائي كأس العالم بسويسرا عام 1954 التي انتهت بفوز ألمانيا الغربية على المجر، واعتبرتها الأدبيات الرياضية "مبارزة سياسية"، أكثر من كونها مبارة رياضية بريئة.

 

ولعل من أكثر الأمثلة وضوحا على هذا التداخل بين السياسة والرياضة، تلك المباريات التي جرت بين الأرجنتين وإنكلترا، وخصوصا بعد ما عرف بحرب الفوكلاند في 1982، التي انتهت بانتصار بريطانيا واستمرار سيادتها على الجزيرة الواقعة على مقربة من سواحل الأرجنتين. فبعد الحرب بأربعة أعوام، نظمت المكسيك بطولة كأس العالم، فتواجهت الأرجنتين وإنكلترا في مباراة حاسمة في ربع النهائي انتهت بانتصار الأرجنتين بهدفين أحدهما جاء بلمسة اليد الشهيرة لمارادونا، وراجت منذ ذلك الحين أن "يدا إلهية" هي التي تدخلت لنصرة مارادونا في تعويض رمزي عما خسرته بلاده في الحرب، وعلق مارادونا، آنذاك، بأن الهدف كان "انتقاما لحرب الفوكلاند".

ما يفسد الرياضة، كذلك، فضلا عن المنشّطات والسياسة، الصفقات التي تبرم حول احتكار البث التلفزيوني، والتقارير عن عمليات تواطؤ ورشاوى لاستضافة هذه الدولة أو تلك بطولة رياضية ما، فضلا عن مؤامرات خفية بين بعض الفرق لإقصاء فريق دولة معينة، كما أن الشركات الاقتصادية الكبرى تلعب دورا في تلطيخ سمعة كرم القدم، ولعل تهافت الشركات العملاقة في العالم على وضع صور سلعتها على جوانب الملعب، وفي المدرجات، وعلى قمصان اللاعبين، يمثل جانبا من ذلك الإقحام الفجّ "حتى أصبحت علامة الشركة على صدر اللاعب أهم من الرقم على ظهره"، وفق تعبير الكاتب الأوروغوياني الراحل إدواردو غاليانو في كتابه الشيق "كرة القدم بين الشمس والظل".

font change

مقالات ذات صلة