في تلك البلاد المؤجَّلة

Getty Images
Getty Images

في تلك البلاد المؤجَّلة

في تلك البلاد "المؤجّلة" على الناس أن يتشابهوا كحقل من الذُرة أو كقطيع من الماعز. وعلى بعضهم، إذا ما وجد فيه تميّز أو اختلاف وإن ضئيلا، أن يخفي بباطنيّة "واقعيّة"، وبخبث "استراتيجي" هذا الاختلاف، ويتظاهر بأنّه الخروف الأبيض في القطيع الأبيض، أو الحمار الأحمر في القطيع الأحمر. وفي كلتا الحالين نعمة القناعة عند الخروف، ونعمة الطاعة عند الحمير. وعلى هذا البعض إذا شعر بأنّ عنده ما "يقوله"، فعليه أن يستخدمه في تجميل هذا الوضع "المتساوق"، وأن يبرّره وأن يبرز محاسنه وفضائله على البلد. فكل فكرة ضؤلت أم تنفّخت عليها أن تخدم هذا الواقع.

وفي هذه البلاد المؤجّلة عليك إذا أن تؤجّل أفكارك الخاصة (والأفكار الخاصة تفردك أفراد البعير المعبد على قول طرفة بن العبد)، وكذلك مشاعرك الحقيقيّة. فلعبة الباطن هي لعبة الممثلين المجيدين ولعبة الظاهر هي لعبة المهرّجين. وعليك أن تختار بوعي شديد أن تكون ممثلا موهوبا مجيدا يُحسِن تقمّص أدوار "الصمت" و"البكم" و"الصمم" و"التفهم" والتواطؤ والنسيان والتغاضي وطأطأة الهامة بأسلوب متين متماسك يخفي أي خلل "مؤذ" في الأداء. وعندها عليك أن تردّد ما على الآخرين أن يردّدوه، وأن تسمع فقط ما على الآخرين أن يسمعوه، وأن ترى بأذنك (لِمَ لا!) ما يراه الآخرون وربما ما لا يرونه. فالرؤية ليست مهمّة في زمن التصديق والبصم. المهم ما يجب ألّا تراه. وإن "رأيت" فعليك أن توحي بأنك لم ترَ وتؤجّل رؤيتك ورؤاك إلى زمن آخر، وربّما إلى أمكنة أخرى وكواكب أخرى.

وعليك أن تقول إن عانيت وعاينت الفقر والجوع والأزمات، إنّ البلد يعيش في بحبوحة نادرة، وفي وفرة وتخمة وكفاية تحسده عليها شعوب المدن الصناعية كي لا توصم بسوء تقدير الأمور، وتقويم الأحداث، والخروج على الإجماع، وعندها يمكن أن تصنّف في عداد الواهمين أو في عداد الأعداء، والبلهاء، والرعناء والمجانين -لا سمح الله - أو لا سمح "الآلهة" الآخرون.

أمّا ماذا تنتظر ومن تنتظر وإلى متى تنتظر فهذا من شأن الآخرين. ولا بأس إن لم تعرف من هم هؤلاء. ولا بأس إن تجاهلت من هم هؤلاء، ولا ماذا يفعلون ولا ماذا يرتكبون. فهذا من شأن الآخرين


أمّا ماذا تنتظر ومن تنتظر وإلى متى تنتظر فهذا من شأن الآخرين. ولا بأس إن لم تعرف من هم هؤلاء. ولا بأس إن تجاهلت من هم هؤلاء، ولا ماذا يفعلون ولا ماذا يرتكبون. فهذا من شأن الآخرين. فأنت عليك أن تُحسِن أداء الطاعة وترسيخ الانسجام وتحرص على أن تكون مهيّأ باستمرار تنتظر مع انتظار الآخرين. صامتا إذا صمتوا. مصفّقا إذا صفّقوا، صارخا إذا صرخوا، من دون أي تمييز أو اختلاف. وإيّاك! ألف إيّاك ألّا تضبط ما يدور في داخلك وفي أفكارك فيفتضح هذا الاختلاف. فأنت مدموغ من رأسك إلى أخمص قدميك وإيّاك أن تعبث بالدمغة المغروزة في لحمك حتى العظام، وفي عينيك حتى أحلامك، وفي قلبك حتى أحاسيسك، وفي رأسك حتى أفكارك. فالمدموغ عبد مع المدموغين. آلة تتحرك في غيابها المتماسك. في ثقلها المحدّد. آلة يأمرونها بالانتظار فتنتظر بكل "اقتناع" وحمية وحماس.

وبين أن تسمّي الانتظار تأجيلا، ويسمّوا التأجيل انتظارا، تتآكل أنت من الداخل. تُحسّ بأن لحمك يتآكل. وأن بصرك يتآكل. وكلامك يتآكل. ودمعك "العصيّ" أو غير "العصيّ" يتآكل. وإن الهواء والماء والزهر والورق تتآكل وتفتّ عليك تآكلها. وفي بعض اللحظات التي تطرق فيها ذلّا أو مهانة تشتمّ رائحة التآكل كالصديد والقيح وتملأ أنفك وحنجرتك وأحشاءك وجدرانك وأرصفتك وصوتك. آه الصوت عندما ينتن. والأصابع. والروح. وينتن معه العالم. والأرض والسماء!

لكن عليك وأنت تتآكل بهذه الشدّة أن تؤجّل كذلك صرخة، أو قطرة دم أو عبرة، وأن ترفع هامتك "المضيئة" لتفاخر بها نور الشمس.

Getty Images
ملصق على حائط المصرف المركزي في بيروت لصورة حاكم مصرف لبنان السابق رياض سلامة، معنون بعبارة "مطلوب".

عليك إذا في هذه البلاد المؤجّلة أن تلتحق بكل شيء مؤجل. الأرض المؤجّلة. الثقافة المؤجّلة. الموت المؤجّل. الحياة المؤجّلة. الأفكار المؤجّلة.

وعليك في كل هذه الأمور المؤجّلة أن تتظاهر بالانتظار. نعم! عليك أن تقول إنّ الانتظار أجمل من المعجزات، وإنّه كنز المقبلين على الأمل، والتفاؤل والانتصار على اليأس والعدم والإحباط. عليك أن تقول إنّك تنتظر وعليك أن تحسن التعامل مع الانتظار، وتحسن ترويضه، وتشكيله، وتزيينه وتلوينه.

لذا عليك أن تتآكل من الداخل وتتماسك من الخارج، تخزّن مراراتك في أعمق بئر وتطفو سعيدا سعادة الأطفال بالأعياد واللعب والهدايا، تعضّ على ذلك ويأسك وموتك اليومي، لتُفرج عن أسنانك وأضراسك (حتى ضرس العقل) ابتسامة صافية لا يشبه صفاؤها الينبوع، ومضيئة لا يشبه إشراقها قمرا أو شمسا ساطعة.

عليك أن تقول إنّ الانتظار أجمل من المعجزات، وإنّه كنز المقبلين على الأمل، والتفاؤل والانتصار على اليأس والعدم والإحباط


إذن عليك أن تنتظر ولا تعرف مَنْ ولا إلى متى تنتظر في تلك البلاد المؤجّلة، ومن المستحسن من أجل سلامة البلاد وسلامتك وسلامة المسارات المتقدّمة في كلّ اتجاه ولو لم تعرف لا ما هي هذه المسارات، ولا إلى أيّ اتجاه تتقدّم، أن تصدّق ما يقال وما لا يقال، وأن تتباهى بكل ما أوتيت من قوّة وإيمان، بأمجاد هذه البلاد المدعوسة، وبسؤددها، وسعادة أبنائها الميامين الذين يدبّون كالحشرات في لعبة التأجيل وفي فخّ الانتظار...

وعليك في مثل هذه الأحوال الطبيعيّة وغير الطبيعيّة، أن تفتح باب منزلك وتغلقه بإحكام، لكي لا يسمع أحد صريره، ولا انغلاقه، كأنّه لم يُفتح ولم يُغلق، وهذا من شأنه أن يُثير الشكوك، التي تطلّ حتّى من النوافذ المُغلقة. فالمُغلق خطر على الذين يختلفون، والذين لا يختلفون. وحتّى العزلة، سواء في غرفتك أو في شُرفتك، لها معانٍ سرّيّة، تبدو أحيانا غير ملائمة للعرّافين، والمتكهّنين، فحتّى العزلة يمكن أن تشي بنواياك، ودخيلائك وبصائرك وصمتك.

Getty Images
رجل مسن يعيش تحت جسر في بيروت بعدما خسر منزله

إذن، عليك أن تقتنع بأنّ بيتك مأهول من دون أن تعرف مِمّن، وحيطانك حسّاسة لأيّ  قرعة أو صوت. من دون أن تعرف من يقرع ومَنْ لمْ يقرع أنتَ وحدك، يعني أحيانا أنّك خطر. على العالم، وعلى الناس، وعلى كلّ المدن… ووحدتك، توحي، كما جلوسك في المقهى وحدك، بريبة مَنْ ينخرطون دونك في لعبة الكوميديا الإلهية... أيّ مع "آلهة الأرض" كما يقول جبران خليل جبران.

في تلك البلاد المؤجّلة أنتَ واحدٌ من كُلّ وكُلٌّ  بلا واحد. فلا الواحد واحد ولا الكُلّ  كُلّ  لأنّهم جميعا مؤجَّلون في تلك البلاد المؤجَّلة.

font change

مقالات ذات صلة