هذا الأمر ليس قاصرا عليه إنما ورثه من والده الثري نبيل صحناوي. فضلا عن ثرائها، يعرف عن العائلة المنتمية الى الطائفة الكاثوليكية التزامها الديني الشديد. مطلع الحرب الأهلية لعب نبيل، الأب، دورا بارزا في إنشاء وتمويل ميليشيا القوات اللبنانية، الذراع العسكرية لحزب الكتائب اللبنانية اليميني المسيحي. تزعّم الذراع العسكرية الشاب بشير الجميل، ومن خلالها فرض نفسه زعيما مسيحيا، ومن ثم رئيسا للجمهورية لم يتح له تسلم منصبه بعد أن اغتيل بعبوة ناسفة.
ويدور الزمان دورته، ويكرّر الابن أنطون ما فعله والده، لكن تنظيم "جنود الرب" لا يزال طري العود، إنما لديه الأفكار نفسها التي حملتها "القوات" التي تحوّلت إلى حزب سياسي، واليوم لديها أكبر كتلة برلمانية. ثمة الكثير من أفراد التنظيم ممن هم أعضاء سابقون في "القوات"، كما أن التنظيم يتغنّى في فيديوهاته بالمعارك الأخيرة إبان الحرب.
تشير إحدى الروايات التي جرى تسويقها إعلاميا حول تمويل التنظيم، إلى أن نبيل، الوالد، حاول دعم فئة من الشباب الذين يعانون من البطالة، وسعى لإخراجهم من الفقر والتهميش والآفات التي تحيق بالمجتمع. فجمع الشبان، وجرى تأهيلهم صحيا، ومتابعة الأمور القضائية (الأحكام والتوقيفات) التي كان بعضهم عرضة لها، من طريق فريق محامين متخصّص.
في المرحلة الثانية أراد صحناوي من خلال انتمائه الديني والتزامه الكنسي تأهيل الشبان روحيا، فكانت مجموعة من الجلسات التثقيفية الدينية التي ساهمت في "هدايتهم"، وتخليصهم من السوداوية التي تظلّل حياتهم. هذا الانتقال من "الضلال" إلى "الهداية"، حسب الرواية، يفسّر ردود أفعال هؤلاء الشبان. ذلك أن الانتقال السريع جعلهم يتعاطون مع الأمور الدينية بطريقة غير تقليدية.
على درب التنظيمات المسيحية المقدّسة
"جنود الرب" ليس أوّل تنظيم يحمل مثل هذا الاسم، وعلى الرغم من أن كثرا في لبنان يشبّهونه بـ"حزب الله"، وهو تشبيه فيه الكثير من الوجاهة، إلا أن الاسم اقترن بتنظيم آخر وهو "جيش الرب". والأخير منظمة إرهابية مسيحية شديدة التطرف، نشأت عام 1987 في أوغندا، وحاربت الحكومة. وقائدها متعصّب يزعم أنه وسيط روحي، وكان يسعى إلى نظام ثيوقراطي قائم على المسيحية والكتاب المقدس. وفي سبيل ذلك ارتكب جرائم وانتهاكات جسيمة للقانون الدولي ولحقوق الإنسان. تتهمه الأمم المتحدة بقتل ما يزيد على 100 ألف شخص، واختطاف أكثر من 60 ألف طفل خلال 30 عاما، وتجنديهم أو استخدامهم كـ"رقيق جنس".
بيد أن النسخة اللبنانية من "جنود الرب" هي أكثر تأثرا بالأساطير التي حيكت حول تنظيم مسيحي تاريخي هو "فرسان الهيكل". والأخير ولد إبان الحملات الصليبية على المشرق الإسلامي، بهدف حماية قوافل الحجاج المسيحيين الى القدس.
تأسس عام 1096، واعترف به البابا هونوريوس الثاني عام 1129، فكان نقطة تحول كبيرة في تاريخ "فرسان الهيكل"، إذ حصلوا بموجب هذا الاعتراف على الكثير من الامتيازات المالية، والإعفاءات الضريبية. كانت خسارته في "فتح عكا" عام 1291 المسمار الأخير في نعشه، حيث تراجعت شهرته، وأصدر البابا قرارا بحلّه عام 1312 بموجب مرسوم "لا رجعة فيه وساري المفعول الى الأبد". لكن وهج الأساطير التي حيكت حوله لا يزال يتفاعل إلى يومنا هذا. إذ تشير المعلومات إلى استمراره كقوة اقتصادية هائلة وسرية، وينظر الى تنظيم "فرسان مالطا" الغامض على أنه امتداد له.
صورة متداولة على مواقع التواصل الاجتماعي تظهر عناصر من حركة "جنود الرب"
من جانب آخر، فإن السردية التي يتبناها تنظيم "جنود الرب" تلائم تماما "حزب الله" الذي عمد عبر وسائل الإعلام الدائرة في فلكه الى تعظيم حضور التنظيم المسيحي الجديد، والتحذير من خطر هذه الميليشيا الناشئة، تماما مثلما عمل سابقا على تعظيم دور التنظيمات السنّية المتطرفة مثل "داعش" وغيرها، وذلك من أجل تبرير إبقاء سلاحه، وشدّ العصب الديني والطائفي لجمهوره.
إحدى السرديات التي تحدّث عنها أكثر من نائب وسياسي مقرّب من "حزب الله" أو حليف له، هي فكرة مؤامرة إمبريالية أميركية (كالعادة)، تعمل على تكديس الأسلحة في الكنائس والأديرة، وذلك بقصد تلطيخ سمعة المسيحيين بعدما تحوّل الصراع السياسي في لبنان من سني – شيعي، الى مسيحي – شيعي في الآونة الأخيرة، وإعادة تذكير جمهوره بأفعال كانت تتم سابقا خلال الحرب الأهلية.
الشارع المسيحي بين داعم ورافض
أثارت ظاهرة تنظيم "جنود الرب" وحضوره العنفي في الشارع نقاشا مسيحيا عميقا، أدّى إلى انقسام الشارع المسيحي بين فئة مؤيّدة وداعمة، وفئة شاجبة ومستنكرة، وإن كانت الثانية تبدو أكبر، إلا أن الفئة الأولى لا تقلّ شأنا وتأثيرا.
حسب العديد من النخب المسيحية فإن "جنود الرب" عبارة عن مجموعة محدودة ليس لديها تأثير كبير في الشارع المسيحي، لكن ضجيجها كبير بسبب سلوكيات عناصرها المافيوية الطابع. يقول الصحافي المسيحي المخضرم إيلي الحاج في تصريحات له إن الخلفية الفكرية والعقائدية للتنظيم "ضحلة وسخيفة، وهم ليسوا جماعة مسلحة، إنما يستعرضون عضلاتهم المفتولة وجثثهم الضخمة لإخافة الناس". ويبيّن الحاج أن التنظيم ينتقي من الإنجيل المسيحي "الآيات القابلة للتأويل بمنطق متطرف على غرار ما يفعل تنظيم داعش مع النصوص القرآنية لتبرير أعماله الدموية".
في حين يرى رئيس "المركز اللبناني لحقوق الإنسان" وديع الأسمر أن "جنود الرب" هي "مجموعة من الزعران يتمتعون بغطاء سياسي لممارسة أعمال البلطجة، وقريبا قد يفرضون خوات على الناس (أتاوات)". ويعتبر أن هذه الظاهرة قائمة على شقّين، "الشق الطائفي التبشيري المعقد، والشق الثاني يتعلق باللعب على الوتر الطائفي الغريزي للإيحاء بأنه كما يوجد حزب الله عند الشيعة، هناك جنود الرب لدى المسيحيين، وكلتا المقاربتان خاطئتان".