"العقدة اللبنانية" في رحلة الدم وذرية التاريخ

وقائع القتل العادي في البلد الصغير

AFP
AFP
رئيس حكومة لبنان الأسبق الشهيد رفيق الحريري

"العقدة اللبنانية" في رحلة الدم وذرية التاريخ

بيروت: "عندما يفسد رأس الرعية يصبح الفساد ديدنا عاما في البلد، وعندما تكون البلد محاصرة فإنه لا تعود هناك فرصة للهواء النظيف أن يدخل الى الغرف الخانقة، وعندما تضيق الأرزاق وينعدم الأمل، يبرّر الناس لأنفسهم كل عمل سيء بدعوى الاضطرار والضرورة".

هذا القول على لسان محي الدين ابن عربي في رواية "موت صغير" للروائي السعودي محمد حسن علوان التي تتناول سيرة أحد أبرز رموز التصوف الملقب بالشيخ الأكبر والكبريت الأحمر. والحال إن القول هذا سواء كان فعلا لابن عربي، أم صاغه محمد حسن علوان ضمن السياق الروائي، فإنه قول دقيق ينطبق على الدول والأمم والمجتمعات التي تمرّ بأزمات وجودية، وأكثر ما يتجسّد في لبنان راهنا.

فالأرزاق ضاقت، والأمل شد رحاله وارتحل، تاركا شذرات متناثرة هنا وهناك. حتى الهواء النظيف ضلّ طريقه عن أرض لطالما كانت له أهلا وسهلا. وفي ظل هذه المناخات تفجرت ظواهر كثيرة، ونمت أخرى، وما عاد الدارسون قادرين على التمحيص والتحليل. وبلغ الاختناق مبلغا جعل الصحافيين، أهل الكلمة والحوار، يتضاربون على الهواء مباشرة. بيد أن الجذر الأساس لكلّ هذه الظواهر هو نفسه.

في ظرف أربعٍ وعشرين ساعة ليس إلا، أنقذ شاب تصادف مروره في الزمان والمكان المناسبين في الساعة الثانية والنصف فجر 19 يوليو/ تموز، طفلة حديثة الولادة عمرها أيام من الموت، بعد أن كان كلب متشرد يجرّ الكيس الذي وضعت فيه قرب حاوية قمامة، على بعد أمتار من القصر البلدي في مدينة طرابلس شمال لبنان.

هذا الشاب ذو النخوة والمروءة ظنّ بداية أن الكلب يهاجم قطة، فسعى لإنقاذها من بين يديه، ليفاجأ عند اقترابه من الكيس بوجود طفلة منهكة لم تعد تقوى على البكاء وفي جسدها الغضّ رضوض شتى.

ظاهرة التخلص من الأطفال حديثي الولادة بهذه الطريقة ليست حديثة العهد في لبنان، بل عمرها سنوات، وقد بدأت في الظهور بالتزامن مع ارتفاع مؤشرات الفقر قبل انفجار الأزمة الاقتصادية والمالية بقليل


تبعها العثور على طفلين حديثي الولادة داخل كرتونة تحت جسر نهر إبراهيم شمال العاصمة بيروت مع اللحظات الأولى من دخول يوم 20 يوليو/ تموز. الطفلة الأولى نقلت الى مستشفى حكومي في طرابلس لمعالجتها، على أن تسلم بعد تعافيها الى أحد دور الأيتام الخاصة. 

أما الطفلان الآخران، فأشرف كاهن على نقلهما إلى مستشفى خاص قريب من مكان العثور عليهما، وأطلق عليهما اسمي إيلي وإيليان بمناسبة عيد النبي إيليا، على أن يسلم الطفلان بعد خروجهما من المستشفى الى إحدى المؤسسات الاجتماعية التابعة للكنيسة المارونية لتربيتهما. ذلك أنه لا يوجد في لبنان دور أيتام حكومية، إذ استعاضت الحكومات المتعاقبة عن ذلك بدعم دور الأيتام والجمعيات الخاصة بطريقة سياسية استنسابية. 

ظاهرة التخلص من الأطفال حديثي الولادة بهذه الطريقة ليست حديثة العهد في لبنان، بل عمرها سنوات، وقد بدأت في الظهور بالتزامن مع ارتفاع مؤشرات الفقر قبل انفجار الأزمة الاقتصادية والمالية بقليل. في مارس/ آذار 2019، أفردت وسائل الإعلام المحلية مساحة للحديث عن هذه الظاهرة عقب العثور على 3 أطفال حديثي الولادة في مدن مختلفة خلال أسبوع واحد فقط. قبلها نشرت صحيفة الرأي الكويتية في ديسمبر/ كانون الأول 2014 تحقيقا للصحافية اللبنانية المتخصصة في القضايا الاجتماعية أسرار شبارو، أشارت فيه الى أنه في تلك السنة وحدها هناك 11 حالة لمن أسمتهم "أطفال الكرتونة" لأنهم يوضعون في كرتونة تترك قرب حاوية نفايات أو دار عبادة.

رغم فظاعة هذه الظاهرة، فإنها لا تشكل سوى رأس جبل الجليد، فالحال أسوأ بكثير. قبل أيام قليلة، قضت طفلة في عمر الورود (5 أعوام) في منطقة المنية شمال لبنان، بسبب نزيف ناجم عن تعرضها للاغتصاب لأكثر من مرة من قبل جدّها لأمها حسبما خلصت اليه التحقيقات في القضية.

Getty Images

 

قبلها بنحو عام تقريبا، كشفت قوى الأمن اللبنانية عن حالات اغتصاب لأطفال في بلدة القاع الحدودية شرق لبنان قام بها شاب من القرية نفسها وعلى مدى أشهر. وما بينهما كُشفت حوادث أخرى في عدة مناطق.

 

رحلة الدم

تستوجب دراسة أي ظاهرة تحدث في مجتمع ما، الرجوع إلى السنوات التي سبقت انفجارها، ذلك أن الظواهر السلبية والمخيفة مثل الأمراض أو الفيروسات التي تستقر تحت الجلد، تنتظر ردحا من الزمن حتى تظهر علانية، بعد أن تكون قد أنهكت الجسد وأوهنته، وعطلّت قدراته المناعية.

لا ريب أن أغلب الظواهر السلبية التي يعاني منها لبنان في السنوات الأخيرة حديثة العهد، وتعدّ من روافد الأزمة الاقتصادية التي تفجّرت في خريف عام 2019، وتولدت منها سلسلة أزمات مالية ومعيشية واجتماعية وتربوية وثقافية، وإن كانت نذرها بدأت قبل ذلك بسنوات. سلسلة الأزمات هذه ما كانت لتتطور بهذا الشكل المخيف لو كانت النخب السياسية في لبنان تريد حلا حقا، وبمرور الوقت تعمقت أكثر، وأدخلت منظومة القيم المجتمعية في حال غيبوبة.

بيد أن التدقيق في تاريخ لبنان المعاصر، وتاريخ المدن والمناطق التي صارت لبنانا فيما بعد، في القرن الذي سبق ولادة الكيان، يشير الى ظاهرة أكثر قدما ورسوخا. ظاهرة تحولت الى ثقافة وهي ظاهرة القتل التي هي أقرب الى عقدة لبنانية نمت وكبرت على وقع كراهية الآخر، أيا كانت هوية هذا الآخر الاجتماعية. القتل لأسباب محلية سواء كانت عشائرية أم مجتمعية، القتل اغتيالا لأسباب محض سياسية، والقتل لأجل القتل فقط، على طريقة الفن من أجل الفن. ومن هذه الثقافة انطلقت منذ أمد بعيد رحلة دم لما تصل بعد الى محطتها الأخيرة.

آخر الشواهد على هذه الظاهرة أو الرحلة، وأكثرها إثارة للجدل والانقسامات الطائفية والمناطقية في بلد تترسّخ فيه الطائفية في كل شيء، حتى في الهواء الذي يدخل الى الغرف الخانقة، هي مقتل شابين في نزاع عمره عقود بين بلدتين شمال لبنان، واحدة سنية والثانية مارونية، على ملكية قمة القرنة السوداء، أعلى القمم الجبلية في الشرق الأوسط.

ومعها وقبلها، نزاعات وصراعات لا تنتهي بين أبناء مدينة وأخرى، وبين أبناء المدينة الواحدة، والقرية الواحدة، والحي الواحد، والعائلة الواحدة. نزاعات قليلها ينزف دما، وكثيرها يستولد كراهية وأحقادا تتناسل من أجيال لأخرى. رحلة الدم هذه تخفت أحيانا وتبرز أطوارا، وها نحن ذا في طور بروزها مرة جديدة. وعلى هامش هذه الرحلة وفي محطاتها العديدة نمت ظواهر مثل الاغتصاب والاتجار بالبشر والهجرة غير النظامية عبر قوارب الموت والتخلص من الأبناء وغيرها. وكلها ظواهر قاتلة، فإن لم تقتل بالمعني المادي، فإنها تقتل المجتمع معنويا وثقافيا وقيميا.

 

جرائم 

خلال سنوات الأزمة منذ خريف عام 2019، لم يُسجّل في لبنان ارتفاع كبير في معدلات الجريمة. بل على العكس، تشير إحصاءات قوى الأمن الداخلي الى انخفاض بعض أشكال الجريمة. 

ومع أن هذه الأرقام لا تعبر عن الواقع بدقة، نظرا لاستنكاف الكثير من اللبنانيين عن الإبلاغ وتسجيل المحاضر لارتفاع التكلفة وانعدام الأمل في الوصول الى نتيجة، إلا أن المشكلة ليست في العدد أو الكم بل في النوعية، وأكثر منها في مدى تأثيرها على المجتمع.

أن يطلق ابن النار على والده، والعكس أيضا، أو أن تقوم إمرأة باستئجار قاتل للتخلص من زوجها، أو أن يقتل شاب حبيبته وأمها وشقيقاتها بدم بارد، ليست جرائم عادية أبدا، أو رقما عابرا في إحصاء. في الشهر الماضي حصلت جريمة أودت بحياة شاب في إحدى القرى كادت تنشب بسببها فتنة دموية بين قريتين ليتبيّن بعدها أن عم الضحية قتله بالخطأ، وأخفى جريمته.

وفي أكتوبر/ تشرين الأول 2021، قتل 5 أشخاص من عائلة واحدة في إحدى قرى شمال لبنان، في ردّ ثأري على حادثة قتل سابقة بسبب خلاف على أفضلية مرور. استمرّ مسلسل الثأر بقيام شقيقة واحد من القتلى الخمسة باستدراج أحد الفاعلين وتصفيته في فبراير/ شباط الماضي.

كذلك الحال ليس عاديا أبدا أن تحدث خلال شهر واحد فقط عدة اشتباكات مسلحة في أكثر من منطقة ومدينة لأسباب واهية جدا. فبين الحين والآخر، تندلع اشتباكات تستخدم فيها الأسلحة الثقيلة بين عائلات في الضاحية الجنوبية لبيروت، واشتباكات مماثلة بين عشائر في البقاع، وأغلب هذه الاشتباكات لا يرد ذكر سببها في الإعلام نظرا إلى سخافته.

نزاعات وصراعات لا تنتهي بين أبناء مدينة وأخرى، وبين أبناء المدينة الواحدة، والقرية الواحدة، والحي الواحد، والعائلة الواحدة. نزاعات قليلها ينزف دما، وكثيرها يستولد كراهية وأحقادا تتناسل من أجيال لأخرى

في كتاب "أيام القتل العادي من اغتيال رياض الصلح الى اغتيال رفيق الحريري" للكاتب اللبناني وضاح شرارة (صادر عن دار النهار عام 2007) تروي الأيام التسعة الواردة فيه أخبار حوادث قتل كبيرة أو صغيرة، وقع بعضها على جماعات وبعضها الآخر على أفراد، واستهل بعضها انعطافات تاريخية وأذن بها أو ختمها. يقول شرارة إن "ذرية الحوادث، شأن أصحابها وأهلها لا تزال حية ترزق. والمسائل التي اتصل عليها الخلاف لم ينقطع الخلاف عليها وعلى صورها وصيغها المتناسلة".

وفي هذا يضع شرارة إصبعه موضع العقدة اللبنانية العصية على الحل حتى الآن على الأقل "ذرية الجرائم". وهي غير مقصورة على الجرائم التي تحدث عنها في كتابه، بل إنها تشمل المجتمع اللبناني بجماعاته المتنافرة.

ذلك أن لكل جماعة لبنانية وكل مدينة وقرية، شهداؤها وذاكرتها المريرة والدموية. وفي أغلب المدن والمناطق اللبنانية تنتشر صور لشبان شهداء القتل الفردي، وبعضها يوضع على زجاج السيارات. مع ذلك فإن القتل المقصود يتجاوز الفعل المادي الى القتل المعنوي وهو المترجم الفعلي لثقافة الكراهية.

 

ذرية التاريخ اللبناني

عام 1860 حصلت في جبل لبنان فتنة دموية عرفت بـ"فتنة عام 1860" عم تأثيرها عددا من المدن، ووصل الى دمشق حيث حصلت وقتها ما يعرف تاريخيا بـ"طوشة النصارى" التي أدت الى مقتل نحو 11 ألف مسيحي في يوم واحد بتواطؤ من والي دمشق العثماني خورشيد باشا. تنبع أهمية هذه الحادثة من كونها مهدت لقيام متصرفية جبل لبنان، ومن ثم دولة لبنان بشكلها الحالي وتوازناتها الطائفية والمذهبية الهشة والقلقة.

في الرواية الرسمية للتاريخ اللبناني، والتي تدرس في المدارس، يعود سبب فتنة عام 1860 الى نزاع نشب بين طفلين من بلدة دير القمر في جبل لبنان، واحد ماروني والآخر درزي، حول لعبة كان يلعبها الأطفال في ذلك الحين، فتدخلت عائلتيهما ثم طائفتيهما، واشتعلت خلافات تحولت الى أعمال عنف دموية.

يمكن اعتبار هذه الفتنة نقطة انطلاق رحلة الدم، ومنها تذرّرت العقدة اللبنانية. تتباين المصادر التاريخية في تقدير عدد ضحايا هذه المجزرة ما بين 7 آلاف الى 20 ألفا، فضلا عن تدمير عشرات القرى ودور العبادة.

Getty Images
الجيش الاسرائيلي في منطقة الشوف اللبنانية أثناء الاجتياح عام 1983

يقول الباحث اللبناني أسامة المقدسي في كتابه "ثقافة الطائفية: الطائفة والتاريخ والعنف في لبنان القرن التاسع عشر تحت الحكم العثماني" أن "العنف بين الدروز والموارنة والذي توّج بمجازر عام 1860 كان تعبيرا مركبا ومتعدّد الطبقات عن التحديث لا رد فعل بدائيا له. ففي القرن المذكور جرت إعادة ابتكار جبل لبنان بحسب طوائفه، بمعنى إن هوية طائفية عامة وسياسية حلت محل سياسات الوجاهة غير الطائفية التي كانت السمة المميزة لمجتمع ما قبل الإصلاح".

لذا فإن ذرية فتنة عام 1860 هي المؤسّسة لعقدة العنف اللبناني المتنقل الساخن والبارد، والذي يترجم بحروب وفتن، ونزاعات محلية لا تنتهي، وظواهر عديدة. يمكن تلمّس ذرية فتنة عام 1860 في الجرح النازف بين الموارنة والدروز في العديد من الحوادث.

لكن ذروتها على الإطلاق تمثلت فيما عرف بحرب الجبل (1983) بين الميليشيات المارونية والدرزية، والتي تركت آثارا عميقة على العلاقة بين الطائفتين حتى يومنا هذا. في تلك الحرب التي انتهت بانتصار الميليشيات الدرزية، قام زعيمها وليد جنبلاط بفتح ضريح الأمير بشير شهاب الذي كان أميرا على جبل لبنان (1788-1840)، وأخرج ما تبقى من رفاته وألقى بها في الوادي، في ردّ فعل ثأري على قيام الأمير بشير شهاب بتحريض والي عكار على شنق جدّه بشير جنبلاط عام 1825.

تبقى العقدة اللبنانية قائمة ما دامت ذرية الجرائم والتاريخ تتناسل حقدا وكراهية، وتستخدم النخب سواد الذاكرة الجماعية للقبائل اللبنانية من أجل تعبئة محطات رحلة الدم


يقول الباحث اللبناني مكرم رباح في كتابه "النزاع على جبل لبنان: الذاكرة الجماعية وحرب الجبل" إن "السلاح الأخطر على الإطلاق في لبنان هو سلاح الذاكرة الجماعية، وذلك نتاج تعمد مراكز القوى على اختلاف الطيف الطائفي الى الحفاظ على الذاكرة الجماعية واستخدامها لتعبئة قواعدها الشعبية". وهو ما يحصل في الفترة الأخيرة بكثافة وتركيز متعمد.

بالطبع فإن ذرية الجرائم ليست قاصرة على الموارنة والدروز، بل تشمل كل الملل والجماعات والمناطق اللبنانية. هذه الذاكرة الجماعية المثقلة والمتعبة لا تستخدم طائفيا ومذهبيا فقط، بل كذلك مناطقيا وعشائريا وعائليا.

 

العقدة اللبنانية الممزوجة بـ"أوديب" و"رستم"

لعل أشهر العقد التاريخية هي عقدة قتل الأب، التي تحولت إلى ثيمة حضرت بأشكال متعدّدة في مختلف ميادين الميثولوجيا والتاريخ، حيث سيتكرر مشهد قتال الأب والابن في العديد من الأساطير والملاحم الشعبية، بالإضافة الى بعض الحالات التاريخية الشهيرة والموثقة. ومثلها وإن بدرجة أقل، عقدة قتل الأب. بيد أن أحدا لم يفرد مساحة للحديث عن عقدة تشبه العقدة اللبنانية في كراهية الآخر وذرية الجرائم التي لا تنتهي.

وتعد أسطورة أوديب في الميثولوجيا اليونانية القديمة الأشهر في عقدة الأب حولها عالم النفس النمساوي الشهير سيغموند فرويد نظرية تحليل نفسي أسماها "عقدة أوديب". أوديب كان الطفل المنتظر للملك لايوس ملك مدينة طيبة "ثيفا" اليونانية وزوجته الملكة جوكوستا، بعد أن ظلا لفترة طويلة بلا إنجاب. وعندما ولد الطفل، ذهب الملك لايوس الى العرّافة التي اشتهرت بنبوءاتها في معبد "أبولو" لمعرفة مستقبله وطالعه، فصدمته الأخيرة عندما أخبرته أن هذا الطفل سيكون قاتله، وأنه سيتزوج من والدته.

فقرر لايوس التخلص من الطفل، وطلب من أحد الرعاة أن يلقيه من فوق الجبل. لكن الراعي رقّ  قلبه للطفل، وسلمه الى راع آخر لتربيته. ويدور الزمان دورته فيعود أوديب بعد أن شبّ الى مدينة طيبا بحثا عن عائلته، فيشتبك في الطريق مع رجل طاعن في السن حول من يحق لمركبته المرور، فيقتل الشيخ الذي لم يكن سوى والده الملك، ويدخل بعدها المدينة ويصبح ملكا عليها، ويتزوج من والدته كما أنبأت العرّافة والده تماما. وعندما عرفت الحقيقة شنقت الملكة نفسها، وفقأ أوديب عينيه وهام على وجهه.

Getty Images

يقابلها في عقدة الابن ملحمة شرقية فارسية هي "الشاهنامة" لأبي القاسم الفردوسي في القرن الرابع الهجري، والتي تعد أشهر أشهر الملاحم في الهضبة الإيرانية وجوارها في آسيا الوسطى حتى يومنا هذا. فهذه الملحمة المكونة من 60 ألف بيت، قضى الفردوسي في تأليفها ما يزيد على ربع قرن، وحكى فيها قصة الأمة الفارسية وسير ملوكها وبطولاتهم وتاريخهم. لذلك فهي تعتبر أعظم أثر أدبي فارسي في جميع العصور.

الجزء الأشهر من الملحمة يرتبط بشخصية البطل الأسطوري رستم بن دستان، الذي خاض رحلة ملحمية على ظهر حصانه "رخش"، الذي يعني اسمه رعد. فحارب البطل التركماني أفراسياب، والوحوش والجن، وقتل السبع الهارب. يتزوج رستم من ابنة ملك سنجمان، لكنه يقفل عائدا الى دياره دون أن يعرف أنها حملت منه بابنه سهراب.

يعرف الابن الحقيقة ويقود جيشا كبيرا يريد من خلاله ضم قوته الى قوة أبيه للسيطرة على جميع الأراضي الإيرانية، لكن تحدث العديد من المواقف الدرامية التي تفضي الى وقوف رستم ومصارعته لسهراب دون أن يعرفا أنهما الأب والابن. وينتهي ذلك المشهد الملحمي برستم وهو يقتل ابنه في اللحظة نفسها التي سيعرف بها حقيقة شخصيته.

ثمة رابط خفي بين العقدة اللبنانية وهاتين الملحمتين. ذلك أن رستم كان محاربا عظيما لكنه في النهاية قتل ابنه، تماما مثل العشرات، بل الآلاف من اللبنانيين الذين يفاخرون بقوتهم وجبروتهم، لكنهم يسخرونها من أجل أهداف ضيقة جدا، ولا يتورعون في سبيل تحقيقها عن محاربة أبنائهم وأبناء جلدتهم. وكما أن لايوس أراد التخلص من ابنه لترسيخ ملكه، وكما أن أوديب أصبح ملكا على دماء أبيه، وفي النهاية خلص إلى فضيحة أتلفت عقله ونقضت ملكه، فإن بحث اللبنانيين الدائم عن السلطة مهما كان نوعها وحجمها، حتى ولو كانت معنوية، يفضي بهم في النهاية الى خسران السلطة وأنفسهم ومكانتهم التي عرفوا بها سابقا، وصولا الى تحول دولتهم الى مثل يحتذى عالميا وعربيا في الفساد والفشل والظواهر السلبية والكارثية.

وتبقى العقدة اللبنانية قائمة ما دامت ذرية الجرائم والتاريخ تتناسل حقدا وكراهية، وتستخدم النخب سواد الذاكرة الجماعية للقبائل اللبنانية من أجل تعبئة محطات رحلة الدم.

font change

مقالات ذات صلة