منع "باربي" في لبنان: رهاب المرأة والعنف المؤسّس

قرار تعسفي يصدر عن سلطة ذكورية تمجّد السواد

Getty Images
Getty Images
ناشطة تشارك في مظاهرة ضد التحرش الجنسي والاغتصاب والعنف الأسري في العاصمة اللبنانية بيروت، 7 ديسمبر/ كانون الأول 2019.

منع "باربي" في لبنان: رهاب المرأة والعنف المؤسّس

بيروت: يندرج قرار وزير الثقافة اللبناني محمد المرتضى بمنع عر.ض فيلم "باربي" في سياق الواقع العبثي الذي يعيشه اللبنانيون، ولا يدل على سطوة بقدر ما يعكس بؤسا عميقا وأصيلا. لا يختلف اثنان في أن المنع بات بضاعة فاسدة وغير صالحة للاستعمال في زمن التكنولوجيا الفائقة والمنصات والإنترنت، بل لا يعدو كونه ترويجا وحضا على اكتشاف الممنوع ومنحه جدارة قد يكون عاجزا عن اكتسابها في ما لو عرض بشكل طبيعي وعادي.

يحول وزير الثقافة فيلما يمكن أن يثير نقاشا تتنوع فيه الآراء وتختلف إلى منتج ثوري بالكامل ينطق بلسان الاعتراض على كل ما يمثله.

أبرز ما يلاحظ في بيان المنع هو لغته التي تحاكي لغة النظام الإيراني وتنهل من المعجم اللغوي الذي اشتهر به. لم ينجح مع تياره السياسي اللبناني الممانع في توليد لغة تنبع من سياق لبناني أو تستمد نهجها منه، أو حتى تضيف إلى المرجعيات الإيرانية المستوردة نكهة محلية ما، توحي بأن المنع يصدر من لبنان. بدا الوزير شاشة تعرض خطابا مكتوبا سلفا وتقتصر مهمته على تظهيره، وذلك الخطاب، على غرار خطاب الحرس الثوري الذي شاهده العالم يمعن تنكيلا بالنساء، إذ يرى في المرأة وفي ما تمثله خطرا داهما يهدّد شبكات العنف المفتوح التي عمّمها وأطلقها وحولها إلى مصدر للثقافة والسياسة والخطاب.

جاء في خطاب المنع "لدى التدقيق تبيّن أن فيلم "باربي" المزمع عرضه قريبا في دور السينما اللبنانية يتعارض مع القيم الأخلاقية والإيمانية ومع المبادئ الراسخة في لبنان، إذ يروّج للشذوذ والتحول الجنسي، ويسوّق فكرة بشعة مؤدّاها رفض وصاية الأب وتوهين دور الأم وتسخيفه والتشكيك بضرورة الزواج وبناء الأسرة، وتصويرهما عائقا أمام التطور الذاتي للفرد لا سيما للمرأة".

أبرز ما يلاحظ في بيان المنع هو لغته التي تحاكي لغة النظام الإيراني وتنهل من المعجم اللغوي الذي اشتهر به، والذي يرى في المرأة وفي ما تمثله خطرا داهما يهدّد شبكات العنف المفتوح التي عمّمها

منطق بناء البيان يوحي بوجود سلطات ثقافية عليا تمتلك خبرات واسعة تمكنها من سبر أعماق المنتجات الفنية وفرز محتوياتها وكشف مراميها وأهدافها، وما تخفيه من رسائل وما  تنطوي عليه من معان. المشهد كما يراد لنا أن نتخيله  هو اجتماع جدّي لنخبة من كبار المثقفين والمختصّين في شؤون الأدب والفن والسينما والاجتماع وعلم النفس، يشاهدون بتمعن نسخة من الفيلم ويسجلون ملاحظات  ويعمدون بعد ذلك إلى تحليلها فيخرجون بخلاصات دقيقة ومنطقية تقول ما جاء في بيان الوزير الذي شاء أن يوحي بأن كلامه ليس سوى ترجمة لتقارير العارفين والخبراء.

مفردات يروّج، يسوّق، توهين، وصاية، تشكيك، مستلة جميعها من معجم السوق والتطرف، واجتماعها في نص قصير يعطيه صبغة حربية، إما إذا انتقلنا إلى التهم التي تطال الفيلم وتبرر منعه لوجدنا عناوين لا أطر واضحة لها في السياقات اللبنانية.

AFP
الممثلة الأسترالية مارغو روبي تقف على السجادة الوردية عند وصولها لحضور العرض الأول لفيلم "باربي" في وسط لندن في 12 يوليو/ تموز 2023

 لا وجود لقيم إيمانية واخلاقية موحّدة، ولا أحد يمكنه العثور على تعريف للمبادئ الراسخة، أما عناوين الترويج للشذوذ الجنسي وتوهين دور الأم وتسخيف فكرة الزواج فقد استنسخها الوزير من خطابات اليمين المتشدد الذي يجتاح أماكن كثيرة في العالم.

 

رجعيتان

 ولم يجد الوزير نفسه مضطرا إلى استخدام أي نوع من الخيال، وكأنه يعتقد أن دفعه بمثل هذه العناوين التي تتماهى مع خطاب شائع في وسط غربي إنما يوسع الزقاق اللبناني الضيق الذي ينطلق منه، ويجعله متصلا بشبكات بث الخطاب نفسه عالميا. المفارقة أنه ينطلق أساسا من خطاب يعادي الغرب، ولكنه كذلك لا يمانع التماهي مع خطاب اليمين الغربي المتطرف.

ولكن الفرق بين ما يحدث هنا وما يحدث هناك شاسع ومرير. ما زال العالم ينتج خطابات رجعية ومتطرفة ومعادية للمرأة وحقوقها ولكنه في الآن نفسه ينتج وسائل مقاومة فاعلة ومؤثرة في القوانين وفي حريات الممارسة وتشكيل الخطابات وأشكال الحياة والتعبير. 

الأمور في لبنان مقفلة ومغلقة. الخطاب البائس والمعادي للمرأة يتكرّس ويتمكن ويكتسب كل يوم صلابة ميدانية مع غياب البنى الأخلاقية والقانونية الرادعة، وعدم القدرة على تشكيل خطاب اعتراض فاعل، ولعل جثث النساء المقتولات والتي تتكاثر يوميا ومنظومات سلب حقوق المرأة التي تحظى بشبه إجماع بين كل أنواع السلطات تجعل من مشروع المنع وما جاء فيه فعلا ينسجم مع حالة تعميم العنف وإعلان الحرب على المرأة وعلى المجتمع التي يقودها الحزب الذي يمثل وزير الثقافة أحد إفرازاته.

 

المرأة المرعبة

لن نعمد إلى تسفيه ما نسب إلى الفيلم والتأكيد على أنه افتراء. ولكن ما يخيف فيه وزير الثقافة اللبنانية، هو دفاعه عن استقلالية المرأة وعن عالم تحلّ فيه الصراعات بالرقص والغناء، إذ يسجل له أنه قد يكون من الأفلام القليلة التي تسحب روح العنف بالكامل من النزاع والتوترات الصراعية وتذهب في اتجاه تذويبها في المرح والرقص والغناء، حيث لا يحضر العنف لا مباشرة ولا في الخلفية.

هنا تحديدا تكمن مشكلة الوزير وحزبه مع هذا الفيلم، وهذا ما لاحظه والتقطه الناس وعبروا عنه على وسائل التواصل الاجتماعي وفي تغريدات على موقع "إكس" حيث تمكن قراءة حشد من التعليقات التي يجمع أصحابها أن سبب منع الفيلم هو أنه لا ينطوي على عنف واغتصاب وتغطية على قتلة النساء ومجازر وتعذيب. 

لا يستطيع الوزير أن يخدع أحدا وكذلك لا يمكنه أن يخاطب أحدا. الجمهور الذي يخالفه الرأي سيجد وسيلة لمشاهدة الفيلم، وأساسا فإن نسخا مقرصنة منه قد باتت متوفرة في أرجاء الإنترنت.

 واللافت ان شركة "وارنر براذرز" التي تمتلك حقوق فيلمي "باربي" و"أوبنهايمر" لا تبالي بالسوق اللبناني ولا تبذل جهودا لمحاربة قرصنة أفلامها فيه وفي المواقع التي تسمح بتحميل نسخ منه بجودة مختلفة، وذلك لأنها تعتبره سوقا شديد الهامشية ولا يمكن أن يؤثر بأي شكل من الأشكال لا ماديا ولا معنويا.

  فيلم "باربي" الذي تجاوز عتبة المليار دولار في 17 يوما من العرض لا يهمه إن عرض في لبنان أو لم يعرض. المتضررون يقتصرون بشكل خاص على أصحاب صالات السينما الذين كانوا ينتظرون عودة الروح إلى هذا القطاع المريض عبر أفلام من بطولة نجوم يملكون شعبية عالمية على غرار مارغو روبي بطلة "باربي".

إذا كان السؤال عن الأخلاق والاحتجاج باسمها فلماذا ليس لدى لبنان سياسة لمكافحة فتح المواقع الإباحية وتلك التي تحتوي على مشاهد عنيفة على الإنترنت

من ناحية أخرى فإن جمهور الوزير ومؤيديه ومعتنقي أفكاره لا يشاهدون الأفلام أساسا. وتاليا لا نفهم على من يخاف ولماذا لا يترك من يراهم فاسدين يتمتعون بالمزيد من الأمر نفسه، فهل يريد مثلا ان يقول إنه سيحمي الناس من أنفسهم؟ نعم، لا شك أنه يريد أن يفعل ذلك، هذا هو مشروع  الوصاية الذكوري المهدّد، والذي تقوم وصاية حزبه المسلح على البلد على أساسه.

Getty Images
وقفة احتجاجية بالشموع لمناهضة العنف ضد المرأة ورفعت خلالها صور لضحايا العنف الأسري، أمام متحف بيروت الوطني. في 23 ديسمبر/ كانون الأول 2017

في مرحلة سابقة كان هذا الحزب يريد حماية اللبنانيين من الأعداء والآن يريد حمايتهم من شرّ أنفسهم، ومن وعيهم المائع والمخدوع والذي بدا في لحظة تخل ناتجة عن الدعاية الكبيرة التي رافقت إنتاج فيلم "باربي"، ميالا إلى الانحياز إلى اللون الوردي الحالم والخروج من عباءة الأسود الصارم. لقد باتت هناك مشكلة في العالم في إنتاج اللون الوردي الرقيق والحالم مع إطلاق فيلم "باربي"، أما في لبنان فالناس غير معنيين بلون البهجة  المخدر، لأن تيارا مهيمنا بالقوة قرّر أنهم يحبّون العيش في السواد.

 

حرب ضد النساء

منذ فترة ليست بالقليلة والسلطات التي يمثلها وزير الثقافة، والتي نجحت في اجتياح البنى الثقافية في البلد تشن حربا شعواء ضد النساء، وذلك لأنها تعي قوة الاحتجاج الأنثوي وقدرته على اختراق جدار العسكرة السميك الذي نصبه في وجه الجميع. خطابات الرفض الأكثر جدّية كان أبطالها من النساء، واللافت فيها انطلاقها من البسيط واليومي والعادي وموازاته مع العريض والثقافي والسياسي، وتأسيس خطاب رفض عميق وراديكالي يطال البنى التي قام عليها خطاب تعميم العنف عموما، وضدّ النساء خصوصا.

 كل التحليلات التي التقطت لحظة المنع وحللتها أكّدت هذا البعد. لا يقلق الوزير على المرأة والأسرة إلا لأن وظيفتها في "باربي" وفي أي منتج فني تغاير ما وضعه لها. الزواج وتكوين الأسرة في العالم يعكس خيار الوقوع في الحب والرغبة في استكماله والبحث عن الهناء والسعادة، في حين أن معنى الأسرة عنده يقتصر على كونها معمل تفريخ انتحاريين ومقاتلين.

تخشى هذه البنية الثقافية المرأة الحرة كما تخشى الرجل الحر، لأن الأسرة التي يمكن أن تنتج عن لقاء أحرار لن تجد فيها أمهات ينذرن أولادهن للموت ويطلقن خطابات تشتهي عودتهم في الأكفان، ولا آباء يعلمون أبناءهم احتقار المرأة وتعنيفها. ليس في هذه الثقافة أساسا آباء وأمهات، ليس فيها سوى مصانع حرب. والأمومة والأبوة ليسا سوى أدوار محددة داخل هذه المنظومة المتعسكرة والمغلقة والمتطرفة.

EPA
مواطنون يحملون لافتة كتب عليها "المقاومة ضد الاحتلال الإيراني" في بلدة الكحالة جبل لبنان، 9 أغسطس/ آب 2023.

سؤال الأخلاق

 تتطلب هذه الأدوار أن يكون العنف هو المشهد، كل المشهد. إذا كان السؤال عن الأخلاق والاحتجاج باسمها فلماذا ليس لدى لبنان سياسة لمكافحة فتح المواقع الإباحية وتلك التي تحتوي على مشاهد عنيفة على الإنترنت، حيث يمكن لأي طفل لديه اتصال بالإنترنت مشاهدة ما لا حصر له من المواد الإباحية والعنيفة. العديد من الدول العربية يمتلك سياسات حكومية صارمة في هذا الصدد، لا يمكن فتح مواقع إباحية في الإمارات والسعودية على سبيل المثال لا الحصر، والمفارقة أن هاتين الدولتين لم تجدا مشكلة في فيلم "باربي" ولا تهديدا، وحين حاول البعض المطالبة بمنعه في السعودية تحت حجج شبيهة بتلك التي جاهر بها وزير الثقافة اللبناني، فإن ردود الفعل المستنكرة والغاضبة جاءت من المثقفين ومن الجمهور، وكانت موجة الرفض عارمة وعريضة ومتماسكة. 

في اللحظة التي كان فيها خطاب المنع يتبلور، كان الكثير من الدم يراق على الأرض في لبنان وتتلقفه الشاشات بحبور. لقد عرض مشهد انتحار شخص سوري بمسدس حربي بشكل فظ، وكذلك كانت شاحنات السلاح المتنقلة في دروب البلاد قد تعثرت عند مفترق طرق قرية "الكحالة" وتسببت بإشكالات مسلحة سقط فيها قتيلان أمام عدسات البث المباشر.

ذلك العنف مشتهى ومطلوب ولكن فيلم "باربي" ممنوع لأنه يصور امرأة تسعى إلى امتلاك حياتها وقرارها ورجلا يعبر رحلة التعبير عن المشاعر بأمان، ولأنه يطلق رسالة نبذ العنف الذي يحل في لبنان في مقام الأب المؤسّس. 

font change

مقالات ذات صلة