زلزال سوريا... ترددات الكارثة بالأرقام

6392 ضحية داخل سوريا و4267 سورياً من المقيمين في تركيا و5,85 مليارات دولار خسائر اقتصادية

زلزال سوريا... ترددات الكارثة بالأرقام

بعد مرور سبعة أشهر على الزلزال الذي ضرب جنوب تركيا وشمال غرب سوريا، تتكشف طبيعة الآثار الكارثية التي حلت بالسوريين. فخسارة آلاف الأرواح وإصابة عشرات الآلاف ودمار البنى التحتية والمنازل والمنشآت لا تشكل إلا جزءاً محدوداً من المعاناة والأضرار التي سيعاني منها السوريون لسنوات مقبلة نتيجة تداعيات الزلزال. يعود ذلك إلى إرث الحرب المدمرة التي شكلت نظماً وقوى تستبيح الإنسان والمجتمع والسلطة والاقتصاد والبيئة لصالح ترسيخ الهيمنة والاستغلال. وقد استغلت هذه النظم كارثة الزلزال لتعمق ديناميكيات الاستبداد والتشظي، ومقومات العنف، واستباحة الحقوق والحريات.

عكف "المركز السوري لبحوث السياسات" منذ أشهر على إعداد تقرير شامل وموثق بعنوان "آثار الزلزال في سوريا - المقاربة التنموية المفقودة في ظل النزاع"، حلل في 60 صفحة معززة بالجداول والرسوم البيانية، نتائج الكارثة وآثارها المباشرة وغير المباشرة، تحت وطأة النزاع في البلاد، وقدم تقديراً للخسائر وتقييماً للاستجابة المشوهة للكارثة من قبل القوى الفاعلة محليا ودوليا.

ضرب الزلزال شمال غرب سوريا، وهي المنطقة التي تعد بين الأكثر معاناة من سياسات التهميش قبل اندلاع النزاع، كما عانت خلال الحرب من المعارك الدموية التي استخدمت فيها الأسلحة الثقيلة والمحرمة دولياً لاستهداف المدنيين والمقومات الاقتصادية والاجتماعية، وتعرضت لعقوبات جماعية بما في ذلك الحصار والتهجير والاعتقال والتعذيب والاختفاء القسري والعنف على أساس الجنس، وتمزق المجتمعات بفعل تسييس الهويات المناطقية والإثنية والدينية.

كما رزحت تحت منظومات اقتصادات النزاع بما في ذلك النهب وفرض الأتاوات. تحول شمال غرب سوريا على إثر ذلك إلى منطقة منكوبة تعاني من غياب الأمان ومن الحرمان والفقر والنزوح وتخضع لثلاثة أنظمة سياسية، أهمها النظام السوري الذي يعد المسؤول الأول عن معظم الانتهاكات، والمتبني لاستراتيجيا العنف في اخضاع المجتمع والمستند إلى الدعم الروسي والإيراني. لكن قوى الأمر الواقع التي تشكلت، مارست بدورها انتهاكات واسعة النطاق واستخدمت العنف مستغلة الدعم التركي والخليجي.

ديانا استيفانا روبيو

أدت كارثة الزلزال إلى وفاة 6392 فردا داخل سوريا، إضافة إلى نحو 4267 ضحية سورية من المقيمين في تركيا، مما يعكس المعاناة المزدوجة للسوريين المقيمين في الداخل السوري واللاجئين إلى دول الجوار. وتركز الأثر الأكبر للزلزال في مناطق شمال غرب سوريا، خصوصا في محافظة إدلب، حيث بلغ عدد الوفيات 2985 ضحية. كما نزح نتيجة للزلزال، حتى الأسبوع الأول من شهر مارس/آذار، أكثر من 170 ألف شخص.

انضم جزء كبير من نازحي الزلزال إلى مخيمات الإيواء، التي كانت قائمة أصلاً، وأنشئت مخيمات جديدة لاستيعاب الأعداد الكبيرة من النازحين الجدد. وبلغ عدد الأبنية المتضررة من الزلزال كلياً أو جزئياً، في جميع أنحاء سوريا، 12796 بناء، منها 2691 تعرضت لدمار كلي. وعانت محافظة إدلب الخسارة الكبرى في الأبنية المتضررة (ما يقارب 46,6 في المئة)، تلتها مناطق ريف حلب الشمالي (نحو 34 في المئة).

وعجز القطاع الصحي، المتهالك أصلاً، عن تلبية الاحتياجات المتزايدة لإنقاذ المصابين في مختلف المناطق، وتعرضت عشرات المنشآت الصحية للدمار الكلي أو الجزئي. وتأثرت عملية التعليم في المناطق التي ضربها الزلزال نتيجة تعرض عدد من المدارس للدمار أو الضرر المادي أو تحولها إلى مراكز لإيواء المتضررين.

استغل النظام كارثة الزلزال لتعميق ديناميكيات الاستبداد والتشظي، وممارسة العنف، واستباحة الحقوق والحريات

بلغت الخسائر الاقتصادية الإجمالية نتيجة للزلزال، وفق تقرير المركز، نحو 5,85 مليارات دولار تمتد تداعياتها على المدى المتوسط، وتشمل خسائر الناتج المحلي الإجمالي بنحو 3,62 مليارات دولار، وخسائر في رأس المال التراكمي بنحو 2,23 مليار دولار. وتقدر هذه الخسائر بنحو ثلث الناتج المحلي الإجمالي لسوريا لعام 2022، لكن هذه الخسائر تركزت في شمال غرب سوريا، أي أن الزلزال فاقم بشكل حاد التفاوت بين المناطق المتضررة وبقية المناطق. ففي وقت يقدر تراجع الناتج المحلي الإجمالي نتيجة الزلزال بنحو 2,2 في المئة في 2023 على المستوى الوطني، يتراجع الناتج المحلي في إدلب بنحو 16 في المئة، وفي عفرين بنحو 24 في المئة. أدى الزلزال الى خسارة أكثر من 90 ألف فرصة عمل، مما تسبب بارتفاع معدلات البطالة في إدلب بنحو 14 نقطة مئوية لتصل إلى 59 في المئة، كما ارتفعت معدلات البطالة في حلب بنحو 1,9 نقطة مئوية لتصل إلى 47 في المئة.

أ.ف.ب.
سوري يبكي فوق أنقاض مبنى منهار في 7 فبراير/شباط 2023 في بلدة جنديرس

وارتفعت معدلات التضخم الشهري نتيجة الزلزال في محافظة إدلب بنسبة 4,2 في المئة وفي ريف حلب بنسبة 2,2 في المئة. في حين أدى الزلزال إلى تدهور جديد في الدخل الحقيقي للأسر، وارتفاع معدل الفقر المدقع بنحو 10,5 و3,8 و0,4 و0,1 نقطة مئوية في كل من إدلب وحلب وحماة واللاذقية، كما اتسعت فجوة الفقر العام بين متوسط إنفاق الأسر الفقيرة وخطوط الفقر.

النزاع بعدسة الزلزال 

بدءا بكارثة الجفاف "الطبيعية" وجائحة كوفيد-19 وليس انتهاءً بالزلزال، يتوقف حجم الأضرار الناجمة على بنية النظم السياسية والاجتماعية والاقتصادية القائمة واستراتيجيات الاستجابة لها. حيث تتفاقم في حالة سوريا الخسائر المذكورة آنفاً نتيجة آليات النزاع القائمة على مأسسة العنف والاقصاء. في هذا الإطار قدم تقرير "المركز السوري لبحوث السياسات" قراءة للكارثة، في سياق النزاع السوري وأدوار الفاعلين وطبيعة الأنظمة السياسية والاقتصادية القائمة. 

ولفت التقرير الى فشل القوى السياسية المحلية في الاستجابة الفاعلة للكارثة؛ بل على العكس، قامت باستغلالها، لتحقيق مصالحها السياسية الضيقة. فقد اتسمت استجابة الحكومة السورية بالتمييز والتسييس والتهرب من المسؤولية وضعف الفاعلية. وتجاهلت الاستجابة المباشرة في المناطق الواقعة خارج سيطرتها أو طلب إنفاذ آليات الدعم الدولية في تلك المناطق. ولم تتمكن الحكومة الموقتة وحكومة الإنقاذ من القيام بوظائفها، بصفتها سلطات حاكمة؛ فلم تتبنَّ استراتيجيا واضحة لمواجهة الكارثة، وأظهرت ضعف القدرة على التنسيق أو حشد الجهود، وحملت الأعباء للمجتمع المدني والمنظمات الدولية. واستخدمت الكارثة لتعميق الانقسام بين المناطق.

تقدر الخسائر بنحو ثلث الناتج المحلي الإجمالي لسوريا لعام 2022، لكن هذه الخسائر تركزت في شمال غرب سوريا، أي أن الزلزال فاقم بشكل حاد التفاوت بين المناطق المتضررة وبقية المناطق

أما الاستجابة الدولية، فكانت محبطة؛ إذ تمايز تدخل الأمم المتحدة والدول المانحة بصورة فاضحة بين تركيا وسوريا من جهة، وبين مناطق السيطرة داخل سوريا من جهة أخرى. فلم تقم الأمم المتحدة بالاستجابة المباشرة للزلزال في المناطق المنكوبة، ولم ترسل معدات وفرق إنقاذ، بحجة إغلاق المعابر. وتطلَّب التدخل أكثر من أسبوع على وقوع الزلزال لدخول أول قافلة مساعدات أممية الى سوريا.

وكشف التباين، في تدفق المساعدات العينية، بين مناطق شمال غرب سوريا ومناطق سيطرة الحكومة السورية، واحداً من أسوأ مظاهر التشظي السياسي والانقسام العمودي. كما تستمر مقاربة المنظمات الإنسانية الدولية القائمة على الاستجابة الإغاثية دون الاستثمار في الاستجابة التنموية التي تركز على تطوير بنى الحوكمة والتضامن الاجتماعي والتنمية المستدامة.

أ.ف.ب.
طفلة سورية في خيمة موقته للمواطنين الذين شردوا في فبراير/شباط المنصرم

في المقابل كانت استجابة المجتمع المدني هي الأكثر فاعلية وحيوية؛ فقد ساهمت المنظمات والمبادرات المدنية خاصة في شمال غرب سوريا في حشد المتطوعين وإنقاذ آلاف الأرواح، على الرغم من النقص الحاد في الموارد والتجهيزات. وكانت التنظيمات المدنية تعمل في مساحة ضيقة جداً تُقيّدها قوى الأمر الواقع، بسياسات تعسفية وإجراءات بيروقراطية، وبتشديد الرقابة الأمنية عليها بما يتماهى مع الأجندات السياسية لهذه القوى. وأظهر كل من المجتمع المدني والمبادرات الأهلية استجابة عالية؛ بما يعبّر عن ثقافة التكافل الاجتماعي في مواجهة المحن، ويقدم نموذجاً لتجاوز الاستقطاب السياسي والجغرافي والثقافي، الذي استثمرت فيه قوى التسلط. ويُعدُّ هذا التضامن عاملاً مهماً من عوامل تجاوز التصدع الاجتماعي، الذي لحق بالسوريين، منذ نشوب النزاع.

التضامن والمقاربة البديلة 

أثبتت تداعيات الزلزال أهمية تبني مقاربة تنموية بديلة لمواجهة آثاره، ترتكز على الدفع في اتجاه حل سياسي عادل ودائم، مع دور مركزي للقوى المجتمعية السورية. فالمقاربة البديلة تتطلب الربط بين العمل السياسي والاجتماعي والاقتصادي، لتتمكن القوى المجتمعية من التأثير في مسار تجاوز النزاع وآثار الزلزال. وتتطلب المقاربة توسيع مساحة العمل المشترك بين القوى المجتمعية للوصول إلى توافقات أوسع وللضغط على المنخرطين في النزاع بصورة مباشرة أو غير مباشرة للتحول نحو العمل التنموي.

كانت الاستجابة الدولية محبطة؛ إذ تمايز تدخل الأمم المتحدة والدول المانحة بصورة فاضحة بين تركيا وسوريا من جهة، وبين مناطق السيطرة داخل سوريا من جهة أخرى

والمقاربة مبنية على التشارك من دون الاستغراق في العنصر المحلي، فالعمل مع المجتمعات المحلية يجب أن لا ينفصل عن العمل العابر للمناطق والقطاعات. بل إن العمل التكاملي سيكون دافعاً لتقليص الانقسامات والتشظي. ويمكن للمساعدات الإنسانية أن تكون قوة محركة للتنمية المستدامة إذا استثمرت في إعادة بناء المؤسسات المدنية على أساس الكفاءة والمساواة، وفي ترسيخ العلاقات الاجتماعية العابرة للانقسامات. ويتطلب ذلك تغيير منظومة المساعدات الإنسانية الحالية التي تخضع في العديد من جوانبها لقوى التسلط، وتقدم معالجة مبتورة للتنمية من خلال التركيز على الإغاثة والاعتماد على "وسطاء المساعدات" من المنظمات الوسيطة والمنظمات الإنسانية الدولية والشركات الخاصة التي تعمل في مجال المساعدات الإنسانية.

كما تؤكد المقاربة الاستثمار في تعزيز التضامن الاجتماعي وإعادة الاعتبار الى المجتمع في الداخل والخارج، والتحول من الدور الخدمي للمجتمع المدني إلى دور سياسي وتنموي فاعل والتمكن من مساءلة قوى النزاع السياسية والعسكرية، وتطوير دور المنظمات والمبادرات المدنية في إنشاء أطر الحوكمة المناهضة للنزاع والاستبداد. فتجاوز آثار الزلزال لا ينفصل عن تجاوز مقومات النزاع.  

font change

مقالات ذات صلة