المحادثات السعودية الأميركية... ومسألة التطبيع مع إسرائيل

الرياض تتمتع بموقف قوي لتحقيق أهدافها الاستراتيجية

Mona Eing/Michael Meissner
Mona Eing/Michael Meissner

المحادثات السعودية الأميركية... ومسألة التطبيع مع إسرائيل

ليس خافيا أن الرئيس بايدن بدأ عهده بعلاقة فاترة مع المملكة العربية السعودية، ودفع بالصراع الفلسطيني الإسرائيلي إلى أسفل سلم أولوياته، فيما تصدر ذلك السلم موضوعان كبيران هما مواجهة الصين وتنشيط الاتفاق النووي مع إيران. ومع ذلك، في محاولة لخفض أسعار النفط في أعقاب حرب أوكرانيا، حطّ رحاله في زيارة إلى المملكة العربية السعودية في يوليو/تموز 2022 وتبادل مع ولي العهد الأمير محمد بن سلمان ملامسة القبضات بدل المصافحة. ولكن الزيارة كما يبدو لم تسفر عن نجاح كبير، ففي أكتوبر/تشرين الأول 2022، خفضت المملكة العربية السعودية إنتاجها اليومي من النفط بمقدار مليوني برميل بالتنسيق مع "أوبك+" للحفاظ على سعر برميل النفط فوق 90 دولارا، ما حدا بالرئيس بايدن إلى إعلان أنه "سيعيد تقييم العلاقة بأكملها مع المملكة العربية السعودية". ثم زادت الرياض على ذلك باستقبالها الرئيس الصيني في ديسمبر/كانون الأول 2022، في زيارة عززت شراكة استراتيجية شاملة بين البلدين. ولم يحل شهر مارس/آذار 2023، حتى كانت الصين قد توسطت في صفقة بين المملكة العربية السعودية وإيران، كان من نتائجها استئناف العلاقات الدبلوماسية بين الرياض وطهران.

وعلى الرغم من كل شيء، كثف كبار المسؤولين الأميركيين- الذين خشوا من أن يفقدوا دعم المملكة فيسهم ذلك في تقويض استراتيجية الولايات المتحدة لمواجهة كل من الصين وروسيا- من زياراتهم إلى الرياض وجدة من أجل إرساء أرضية مشتركة لحل الإشكالات التي تعيق علاقاتهم الاستراتيجية.

إن مراجعة متأنية لما يطلق عليه الآن اسم "الصفقة الكبرى"، يبين أن المملكة العربية السعودية تتمتع بموقف قوي لتحقيق أهدافها دون الاضطرار إلى تقديم جميع التنازلات التي تسلط التقارير الإعلامية الضوء عليها.

وتشير تسريبات في وسائل الإعلام الأميركية الكبرى مثل "نيويورك تايمز"، و"وول ستريت جورنال"، و"واشنطن بوست"، إلى أن ثمّة مفاوضات للتوصل إلى اتفاق شامل بين الطرفين. يتضمن هذا الاتفاق المفترض ضمانات أمنية للمملكة العربية السعودية شبيهة بالضمانات التي يقدمها حلف "الناتو"، وتمنح السعوديين الوصول إلى أنظمة دفاع أميركية متطورة، وتسهّل إنشاء محطة نووية سلمية قادرة على تخصيب اليورانيوم داخل المملكة. وفي مقابل ذلك، كما تشير التسريبات نفسها، فإن الولايات المتحدة تطالب السعودية بتطبيع علاقاتها مع إسرائيل والامتناع عن تعزيز علاقاتها مع الصين وروسيا وإنهاء الصراع في اليمن.

وامتنع المسؤولون السعوديون عن التعليق على هذه التسريبات امتناعا تاما، تاركين وسائل الإعلام والمحللين السياسيين يتكهنون بموقف المملكة من كل ذلك. ولكن مراجعة متأنية لما يطلق عليه الآن اسم "الصفقة الكبرى" تبين أن المملكة العربية السعودية تتمتع بموقف قوي لتحقيق أهدافها دون الاضطرار إلى تقديم جميع التنازلات التي تسلط التقارير الإعلامية الضوء عليها.

تخصيب اليورانيوم

والحقّ أن المملكة تسعى لبناء محطات طاقة نووية قادرة على تخصيب اليورانيوم للأغراض السلمية. في عام 2010، كلفت المملكة العربية السعودية مدينة الملك عبدالله للطاقة النووية والمتجددة بصياغة الخطط للتقليل من الاعتماد على النفط والغاز لإنتاج الكهرباء. وكان من نتائج ذلك أن أبرمت المدينة اتفاقات تعاون نووي مع عدد من الدول، بينها الولايات المتحدة وفرنسا وروسيا والصين وكوريا الجنوبية والأرجنتين.

بيد أن هدف المملكة يتجاوز مجرد بناء منشآت نووية سلمية؛ فهي تسعى أيضا إلى ضمان قدرتها على إنتاج اليورانيوم المخصب لتزويد هذه المحطات بالوقود، وبينما تخلت الإمارات عن هذا الحق عند إنشاء بنيتها التحتية للطاقة النووية عام 2009، فإن المملكة العربية السعودية لا تزال تصرّ على الاحتفاظ بهذا الامتياز، يدفعها إلى ذلك هواجس شرعية بخصوص أمنها الوطني.

Mona Eing/Michael Meissner

موقف المملكة العربية السعودية لا يأتي من فراغ، لأن المادة الرابعة من معاهدة عدم انتشار الأسلحة النووية (NPT) والتي تمنح الدول الموقعة الحق في تخصيب اليورانيوم للتطبيقات السلمية، تمنحها أيضا مثل هذا الحق. وتنص المادة على ما يلي: "يحظر تفسير أي حكم من أحكام هذه المعاهدة بما يفيد إخلاله بالحقوق غير القابلة للتصرف التي تملكها جميع الدول الأطراف في المعاهدة في إنماء بحث وإنتاج واستخدام الطاقة النووية للأغراض السلمية دون أي تمييز".

ولن تكون المملكة العربية السعودية سباقة في هذا المسعى، فوفقا للرابطة النووية العالمية (WNA)، تقوم كثير من الدول التي لا تمتلك أسلحة نووية، بما في ذلك ألمانيا واليابان والبرازيل والأرجنتين، بتشغيل مرافق تخصيب اليورانيوم لأغراض سلمية. وبالتالي، فإن المملكة العربية السعودية لا تنتهك أحكام معاهدة عدم انتشار الأسلحة النووية ولا تنشئ سابقة بالتعبير عن نيتها تشغيل محطة نووية قادرة على تخصيب اليورانيوم، تكون تحت إشراف الوكالة الدولية للطاقة الذرية.

لا شك في أن تفضيل المملكة العربية السعودية التعاون مع الولايات المتحدة في بناء المنشآت النووية يؤكد التزامها بإظهار الطبيعة السلمية لبرنامجها النووي للدول الغربية. ومع ذلك، لا يوجد في هذا الموقف ما يمنع من التعاون مع الدول الأخرى في حالة رفض الولايات المتحدة تقديم تكنولوجيا تخصيب اليورانيوم إلى المملكة

وهذا ما أكده وزير الخارجية السعودي الأمير فيصل بن فرحان، خلال مؤتمر صحافي مع نظيره الأميركي، أنطوني بلينكن، في 8 يونيو/حزيران 2023، حين قال: "إننا نعمل على تطوير برنامجنا النووي المحلي، وقد أعربت كل من واشنطن ودول أخرى عن اهتمامها بالمساهمة في تطويره".

ولا شك في أن تفضيل المملكة العربية السعودية التعاون مع الولايات المتحدة في بناء هذه المنشآت النووية يؤكد التزامها بإظهار الطبيعة السلمية لبرنامجها النووي للدول الغربية. ومع ذلك، لا يوجد في هذا الموقف ما يمنع من التعاون مع الدول الأخرى في حالة رفضت الولايات المتحدة تقديم تكنولوجيا تخصيب اليورانيوم إلى المملكة.

معاهدة على غرار حلف "الناتو"

ثمة أمر آخر يعرفه القاصي والداني وهو رغبة المملكة العربية السعودية في عقد معاهدة دفاع مع الولايات المتحدة شبيهة بمعاهدة حلف شمال الأطلسي (الناتو)، إضافة إلى طموحها في الحصول على أنظمة الدفاع الأكثر تقدما في العالم. لقد كانت المملكة العربية السعودية لردح طويل من الزمن تعتقد أن وجود كثير من القواعد العسكرية الأميركية في منطقة الخليج، إلى جانب علاقتها الخاصة الطويلة الأمد مع الولايات المتحدة، والتي ترجع إلى أيام الرئيس فرانكلين دي روزفلت، ستكون كافية لصد أي عدوان.

ولكن هذه التوقعات تجاه القدرة والنية الأميركية فشلت في الامتحان عندما وقعت المملكة ضحية لهجمات بالصواريخ والطائرات دون طيار على منشآتها النفطية الشرقية عام 2019، ما تسبب في انخفاض إنتاج النفط لمدة شهر تقريبا، ناهيك عن استهداف لا هوادة فيه لبنيتها التحتية، بما في ذلك الهجوم على مستودع نفط أرامكو في جدة عام 2022.

من حق المملكة العربية السعودية تطوير برنامج نووي سلمي قادر على تخصيب اليورانيوم، ومن مصلحة الاستقرار الاقتصادي العالمي تمكينها من تعزيز أنظمتها وتحالفاتها الدفاعية. وفي حال قصّرت الولايات المتحدة عن التصدي لهاتين المسألتين الحرجتين، فقد تضطر المملكة العربية السعودية إلى البحث عن طرق بديلة لتحقيقهما

لقد أدركت المملكة أن عدم قدرة الولايات المتحدة على الوفاء بمتطلبات أساسية لازمة لتطوير التقنيات والأنظمة المرتبطة بالقدرات الدفاعية والأمنية الضرورية لمساعدة المملكة العربية السعودية على حماية نفسها والمنطقة من الصواريخ أو غيرها من الهجمات المحمولة جوا، والذي من شأنه- إن تم- تعزيز قدرات المملكة العربية السعودية بشكل كبير على ردع التهديدات الإقليمية بشكل فعال. وهذا يفرض عليها ضرورة إضفاء الطابع الرسمي على علاقاتها الدفاعية مع الولايات المتحدة بالنظر إلى الدور الحاسم للمملكة العربية السعودية في الاقتصاد العالمي– وهي التي أسهمت بنسبة 12.2 في المئة من إنتاج النفط الخام العالمي عام 2021 وتمتلك 17 في المئة من الاحتياطيات العالمية المؤكدة– والذي يفترض تمكين المملكة من الدفاع عن نفسها، من أجل استقرار اقتصاد العالم.

ثمة من يقول إن الولايات المتحدة لا تقوم عادة بعقد معاهدات دفاع على غرار حلف شمال الأطلسي مع أنظمة حكم تخالف نظامها، ولكن هذا الادعاء ليس صحيحا تماما، فثمة سابقة تاريخية واحدة على الأقل تتعارض مع هذا القول، وهي معاهدة الدفاع الشبيهة بحلف الناتو التي جمعت بين الولايات المتحدة وكوريا الجنوبية منذ عام 1953، أي قبل أن تتحول كوريا إلى الديمقراطية بزمن طويل.

من المرجح أن تكون الجهود الأميركية الكبيرة لدمج كل القضايا في سلة واحدة مدفوعة بتكتيك استراتيجي أميركي لدفع المملكة العربية السعودية لتقديم تنازلات تعكس الأهداف الخاصة للولايات المتحدة. ومع ذلك فنحن لا نعرف إلى الآن مدى استجابة المملكة العربية السعودية لمصالح واشنطن الاستراتيجية

باختصار، من حق المملكة العربية السعودية تطوير برنامج نووي سلمي قادر على تخصيب اليورانيوم، ومن مصلحة الاستقرار الاقتصادي العالمي تمكينها من تعزيز أنظمتها وتحالفاتها الدفاعية. وفي حال قصّرت الولايات المتحدة عن التصدي لهاتين المسألتين الحرجتين، ستضطر المملكة العربية السعودية إلى البحث عن طرق بديلة لتحقيقهما.

ومن المهم أن نذكر هنا أنه لا ينبغي لهذه الأمور أن تتداخل مع مسألة التطبيع مع إسرائيل، ولا مع علاقات السعودية مع الصين وروسيا. ومن المرجح أن تكون الجهود الأميركية الكبيرة لدمج هذه القضايا في سلة واحدة مدفوعة بتكتيك استراتيجي أميركي لدفع المملكة العربية السعودية لتقديم تنازلات تعكس الأهداف الخاصة للولايات المتحدة. ومع ذلك فنحن لا نعرف إلى الآن مدى استجابة المملكة العربية السعودية لمصالح واشنطن الاستراتيجية.

مسألة التطبيع مع إسرائيل

خلال الفترة التي كان العالم خلالها مستغرقا في معالجة الدمار الهائل الذي أحدثته الحرب العالمية الثانية، كان العالم يغدق تعاطفه مع اليهود بسبب الهولوكوست، ولكن الغرب لم يُعرْ اهتماما كبيرا للمعاناة المأساوية لقرابة 750 ألف فلسطيني أُجبروا بالقوة على النزوح من أرضهم وتحولوا إلى لاجئين. حدث هذا عام 1948، عندما أقرت الأمم المتحدة إقامة دولة إسرائيل على الأرض التي كانت حتى ذلك الحين ملكا للشعب الفلسطيني.

بالنسبة للفلسطينيين والعرب، باتت أحداث عام 1948 تُعرف منذ ذلك الحين بـ"النكبة". وقد شكلت المجازرُ التي حاقت بالفلسطينيين في قرى مثل دير ياسين والطنطورة والصالحة والدوايمة وغيرها، شكلت وعي الشعوب العربية بشكل جماعي وحددت مشاعرهم تجاه إسرائيل، وكان السعوديون بالطبع جزءا من ذلك. وساهم تدمير إسرائيل لأكثر من 400 قرية فلسطينية وقيام 58 مخيما للاجئين الفلسطينيين في الأردن وسوريا ولبنان والضفة الغربية وقطاع غزة، وأخيرا لجوء عدد كبير منهم إلى دول الخليج، وفشل العالم في ضمان حمايتهم أو إعادتهم إلى وطنهم، على تعزيز هذه المشاعر.

بالنسبة للفلسطينيين والعرب، باتت أحداث عام 1948 تُعرف منذ ذلك الحين بـ"النكبة"، وقد شكلت المجازرُ التي حاقت بالفلسطينيين في قرى مثل دير ياسين والطنطورة والصالحة والدوايمة وغيرها وعي الشعوب العربية بشكل جماعي وحددت مشاعرهم تجاه إسرائيل، وكان السعوديون بالطبع جزءا من ذلك

ولا شك في أن القادة الفلسطينيين ارتكبوا أخطاء عديدة، بعضها لا يزال قائما حتى يومنا هذا، مثل انقساماتهم السياسية المستمرة. ومع ذلك، فإن أوجه القصور هذه لا تغير الحقيقة الأساسية القائلة بأن القضية الفلسطينية قضية عادلة. ومثل جميع الشعوب في جميع أنحاء العالم، يمتلك الفلسطينيون الحق في تقرير المصير، ناهيك بالطبع عن الإجماع الدولي الذي يدعم إقامة دولة فلسطينية على الأراضي التي احتلتها إسرائيل عام 1967، بما في ذلك القدس الشرقية.

Mona Eing/Michael Meissner

وهكذا، فإن تعاطف المملكة العربية السعودية ودعمها للقضية الفلسطينية ينبع طبعا من الهوية العربية والإسلامية التي تجمع بين الشعبين، ولكن الموقع الفريد للفلسطينيين باعتبارهم الشعب الوحيد الذي لا يزال يعاني من الاحتلال يزيد إلى هذا التعاطف بعدا آخر. ويتعاظم هذا الموقف السعودي بتأثير تطبيق ما يسمى المجتمع الدولي للمعايير المزدوجة.

كانت المملكة العربية السعودية تبدي دعمها على طول الخط وبهمة عالية لجهود السلام الفلسطينية، فعلى سبيل المثال، دعمت المملكة الفلسطينيين عندما اختاروا المشاركة في مؤتمر مدريد للسلام عام 1991 وكذلك عندما انخرطوا في مفاوضات سرية بشأن اتفاقية أوسلو لعام 1993- 1994. وامتنعت سابقا وعلى مر التاريخ عن التفاوض نيابة عن الفلسطينيين، وهي لا تزال ملتزمة بالحفاظ على هذا الموقف التزاما كاملا

ومع هذا وذاك، دعونا نتناول بعضا من الجوانب الحاسمة المحيطة بمسألة التطبيع المحتمل بين المملكة العربية السعودية وإسرائيل. من الضروري بداية أن نوضح أن المملكة العربية السعودية لم تَدعُ أبدا إلى تدمير إسرائيل، ولا هي رفضت من حيث المبدأ تطبيع العلاقات معها، بل إن المملكة هي التي قادت الدول العربية في اقتراح مبادرة السلام العربية خلال قمة بيروت العربية عام 2002، والتي رفضتها إسرائيل، ولا تزال حتى الآن.

وكانت المملكة العربية السعودية تبدي دعمها على طول الخط وبهمة عالية لجهود السلام الفلسطينية، فعلى سبيل المثال، دعمت المملكة الفلسطينيين عندما اختاروا المشاركة في مؤتمر مدريد للسلام عام 1991 وكذلك عندما انخرطوا في مفاوضات سرية بشأن اتفاقية أوسلو لعام 1993-1994. وامتنعت سابقا وعلى مر التاريخ عن التفاوض نيابة عن الفلسطينيين، وهي لا تزال ملتزمة بالحفاظ على هذا الموقف التزاما كاملا.

ويبقى القول إن إقامة علاقات دبلوماسية بين المملكة وإسرائيل قبل التزامها بتنازلات كبيرة للفلسطينيين لا يوفر قيمة مضافة للأمن والمصالح الوطنية السعودية، على الرغم من التقدم التكنولوجي والعسكري لإسرائيل، بل هي توجب جملة من المصاعب سيتعين على المملكة مواجهتها والتعامل معها، وتتراوح من معارضة الرأي العام في الدول العربية، إلى المخاوف الأمنية النابعة من العلاقات العدائية لإسرائيل مع مختلف الفاعلين الإقليميين.

لا بدّ لأي اتفاق سلام محتمل بين المملكة العربية السعودية وإسرائيل من أن يعكس مكانة المملكة وأن يعزز من نفوذها الإقليمي لا أن يضعفه، ويمكن القول ببساطة إنه ليس لدى السعودية أي نية لدعم القوى الإقليمية الأخرى على حساب موقعها في الصراع الفلسطيني الإسرائيلي

وثمّة مسألة مهمة أخرى، وهي أن المملكة العربية السعودية تختلف عن دول أخرى، مثل الإمارات العربية المتحدة أو البحرين، في المكانة المتميزة التي تتمتع بها كقوة إقليمية، وتنبع أهمية المملكة من دورها كحامية للحرمين الشريفين، وعضويتها في مجموعة العشرين، وتأثيرها الكبير على الاقتصاد العالمي، ودورها الأساسي كبوابة ضرورية لإسرائيل لتطبيع العلاقات فعليا مع دول عربية وإسلامية أخرى.

ولا بدّ لأي اتفاق سلام محتمل بين المملكة العربية السعودية وإسرائيل من أن يعترف بهذه الصفات الجوهرية وأن يعكس هذه المكانة للمملكة وأن يعزز من نفوذها الإقليمي لا أن يضعفه ويمكن القول ببساطة إنه ليس لدى السعودية أي نية لدعم القوى الإقليمية الأخرى على حساب موقعها في الصراع الفلسطيني الإسرائيلي.

في الوقت الحالي، لا تساعد إسرائيل نفسها بالنظر إلى الأفعال التي تقوم بها ضد الفلسطينيين منذ 1948، وتصعب عملية الانفتاح عليها بسبب إصرارها على سلب حقوق الشعب الفلسطيني، وعدم احترامها للاتفاقات والمبادرات الدولية في هذا الصدد

أخيرا، يروج بعض المحللين والسياسيين الغربيين رأيا يقول إن القادة السعوديين يمكنهم أن يتجاهلوا مشاعر مواطنيهم وآراءهم. وهذا الرأي يفتقر في الحقيقة إلى أساس متين. لقد اتخذ ولي العهد خطوات فعالة لإصلاح البلاد من خلال جملة من الأمور بينها تفكيك الشرطة الدينية وتمكين المرأة وتعزيز دورها، وتعزيز صناعة الترفيه والفنون، واتخاذ تدابير رادعة لمكافحة الفساد. وواقع الحال أن هذه الإجراءات حظيت بدعم كبير من غالبية السعوديين. وفي الوقت الحالي، لا تساعد إسرائيل نفسها بالنظر إلى الأفعال التي تقوم بها ضد الفلسطينيين منذ 1948، وتصعب عملية الانفتاح عليها بسبب إصرارها على سلب حقوق الشعب الفلسطيني، وعدم احترامها للاتفاقات والمبادرات الدولية في هذا الصدد.

ووفقا لتقارير من الأمم المتحدة ومصادر أوروبية ومنشورات إسرائيلية، تورطت إسرائيل في مقتل الفلسطينيين منذ انهيار اتفاقات أوسلو عام 2000، وتصاعدت نسبة المستوطنات في الضفة الغربية والقدس الشرقية بشكل كبير؛ فعلى سبيل المثال، بنت إسرائيل في عام 2022 فقط 23861 وحدة سكنية في القدس الشرقية و4427 وحدة في الضفة الغربية، بينما هدمت في مقابل ذلك عشرات الآلاف من المنازل، وتشير سجلات عام 2020 إلى 2586 عملية هدم في جميع أنحاء الضفة الغربية والقدس الشرقية وغزة.

واتبعت الحكومات الإسرائيلية المتعاقبة سياسات تشمل القضم التدريجي للضفة الغربية وتحرم الفلسطينيين من حق تقرير المصير. وقد بدأت تظهر اعتراضات صريحة على الاحتلال من داخل الولايات المتحدة، بمن في ذلك أعضاء بارزون في الكونغرس.

بل حتى في داخل إسرائيل نفسها، وقع مئات الأكاديميين والشخصيات العامة، بمن في ذلك علماء إسرائيليون بارزون مثل إيلان بابي، وبيني موريس، ورئيس الكنيست السابق أفروم بورغ، على خطاب مفتوح يصف إسرائيل بأنها "دولة فصل عنصري"، ويؤكد أن الإصلاح القضائي الأخير في إسرائيل يهدف إلى تجريد الفلسطينيين من حقوقهم والاستيلاء على المزيد من الأراضي والانخراط في "التطهير العرقي" للفلسطينيين في الأراضي الخاضعة للسلطات الإسرائيلية. ودعا الخطاب قادة الولايات المتحدة إلى اتخاذ إجراءات "تضع حدا لإفلات إسرائيل من العقاب في الأمم المتحدة والمنظمات الدولية الأخرى".

تدرك المملكة العربية السعودية أن إسرائيل تفتقر حاليا إلى الاستعداد لاتخاذ خطوات جوهرية نحو السلام مع الفلسطينيين، ولذلك فهي غير مستعجلة للسير في طريق التطبيع مع إسرائيل. وهذا يثير، تاليا، جملة من الأسئلة التي لم تجد حلا لها بعد، والتي تزيد عددا على الإجابات النهائية حول كيف تلبي المملكة العربية السعودية المطلب الأميركي لتطبيع العلاقات مع إسرائيل دون المساس بمصالحها الخاصة

وامتنع الرئيس بايدن نفسه عن لقاء رئيس الوزراء الإسرائيلي نتنياهو، ووصف– في مقابلة مع "CNN"– الحكومة الإسرائيلية الحالية بأنها "واحدة من أكثر الحكومات التي عرفها تطرفا على الإطلاق". والحقيقة أن الأحزاب السياسية الإسرائيلية الرئيسة، العلمانية والدينية على حد سواء، مجمعة على استبعاد القدس الشرقية وغور الأردن ومستوطنات الضفة الغربية واللاجئين الفلسطينيين من أي صفقة محتملة مع الفلسطينيين، بينما لا يتبنى أي من هذه الأطراف علانية فكرة حل الدولتين كحل نهائي للصراع المستمر.

وتدرك المملكة العربية السعودية أن في حالة عدم اتخاذ إسرائيل خطوات جوهرية نحو السلام مع الفلسطينيين، فهي، أي السعودية، غير مستعجلة للسير في طريق التطبيع مع إسرائيل. وهذا يثير، تاليا، جملة من الأسئلة التي لم تجد حلا لها بعد، والتي تزيد عددا على الإجابات النهائية حول كيف تلبي المملكة العربية السعودية المطلب الأميركي لتطبيع العلاقات مع إسرائيل دون المساس بمصالحها الخاصة.

يدعي توماس فريدمان، ربما بجهل إن لم يكن بسوء نية، أن "القيادة السعودية لا تأبه للفلسطينيين، وليس لديها دراية بتعقيدات عملية السلام". لقد قدم فريدمان اقتراحا بأنه "على الأقل يجب على السعوديين والأميركيين أن يطلبوا من نتنياهو تحقيق أربعة شروط مقابل حصوله على مكافأة كبيرة مثل التطبيع والتجارة مع أهم دولة عربية إسلامية"

خذ مثلا توماس فريدمان، الذي يدعي، ربما بجهل إن لم يكن بسوء نية، أن "القيادة السعودية لا تأبه للفلسطينيين وليس لديها دراية بتعقيدات عملية السلام". لقد قدم فريدمان اقتراحا بأنه "على الأقل يجب على السعوديين والأميركيين أن يطلبوا من نتنياهو تحقيق أربعة شروط مقابل حصوله على مكافأة كبيرة مثل التطبيع والتجارة مع أهم دولة عربية إسلامية"، وتشمل هذه الشروط:

1.       تقديم تعهد رسمي بعدم ضمّ الضفة الغربية.

2.       الامتناع عن إنشاء مستوطنات جديدة أو توسيع المستوطنات القائمة إلا لغايات النمو الطبيعي.

3.       منع إضفاء الشرعية على البؤر الاستيطانية اليهودية غير المصرح بها.

4.       نقل مناطق معينة مأهولة بالفلسطينيين من المنطقة "جيم" في الضفة الغربية إلى المنطقتين "ألف" و"باء" كما هو محدد في اتفاقات أوسلو.

في مقابل هذه الشروط، اقترح فريدمان أن يوافق الفلسطينيون على اتفاقية السلام المقترحة بين المملكة العربية السعودية وإسرائيل.

تهدف اقتراحات فريدمان على ما يبدو إلى تقويض الحكومة الإسرائيلية الحالية من أجل إنشاء حكومة جديدة تستبعد الأحزاب الدينية الإسرائيلية، وبالتالي وقف أو إبطاء التدهور المستمر لصورة إسرائيل ودعمها في الولايات المتحدة. ولكن هذه الأفكار لا تهدف إلى تعزيز نفوذ المملكة العربية السعودية في المنطقة، بل هي تنتقص من مكانتها وترفع من قوة منافسيها الإقليميين على حسابها

وتهدف اقتراحات فريدمان على ما يبدو إلى تقويض الحكومة الإسرائيلية الحالية من أجل إنشاء حكومة جديدة تستبعد الأحزاب الدينية الإسرائيلية، وبالتالي وقف أو إبطاء التدهور المستمر لصورة إسرائيل ودعمها في الولايات المتحدة. ولكن هذه الأفكار لا تهدف إلى تعزيز نفوذ المملكة العربية السعودية في المنطقة، بل هي تنتقص من مكانتها وترفع من قوة منافسيها الإقليميين على حسابها.

الحال أنه إذا كانت معاهدة السلام مع المملكة العربية السعودية بالفعل "جائزة ضخمة" لإسرائيل، كما يقول فريدمان بحق، فإن أي معاهدة سلام يجب أن تتناسب مع هذه المكافأة المهمة التي ستحصل عليها إسرائيل

والحال أنه إذا كانت معاهدة السلام مع المملكة العربية السعودية بالفعل "جائزة ضخمة" لإسرائيل، كما يقول فريدمان بحق، فإن أي معاهدة سلام يجب أن تتناسب مع هذه المكافأة المهمة التي ستحصل عليها إسرائيل. ويقر فريدمان نفسه بوجود نواة قوية داخل الحزب الديمقراطي من شأنها أن تقاوم أي اتفاق لا ينسجم و"مطلب الرئيس بايدن بأن ينال الفلسطينيون والإسرائيليون تدابير متساوية من الحرية والكرامة".

ومن حق المرء، في ضوء ذلك، أن يتساءل: لماذا يجب على المملكة العربية السعودية أن تفكر في قبول معاهدة سلام مع إسرائيل لا ترقى حتى إلى مستوى الإجماع العالمي على إقامة دولة فلسطينية على الأراضي التي احتلتها إسرائيل عام 1967.

Mona Eing/Michael Meissner

طبعا لا يمكن لأحد التحدث نيابة عن الحكومة السعودية غير مسؤوليها، ولكن المؤشرات الصادرة من إسرائيل بشأن صفقة محتملة مع المملكة العربية السعودية لا تبعث على التفاؤل. وتدور المحادثات الإسرائيلية حول مفهوم السلام الاقتصادي، متجنبة القضايا الجوهرية الكامنة في صلب الصراع الفلسطيني- الإسرائيلي. الإسرائيليون غير مستعدين للالتزام بمبدأ حل الدولتين ووقف التوسع الاستيطاني في الضفة الغربية والقدس الشرقية ووضع إطار زمني محدد لحل الجوانب المختلفة للصراع على النحو الذي حددته قرارات مجلس الأمن والقانون الدولي.

لا تُظهر أفعال الحكومة الإسرائيلية وتصريحاتها أي استعداد للتحرك نحو السلام مع الفلسطينيين مقابل إقامة علاقات طبيعية مع السعودية. يبقى أن نرى إلى أي مدى يمكن للولايات المتحدة أن تضغط عليهم للقيام بذلك

بل إن بيانا صادرا عن مسؤول إسرائيلي يعبر صراحة عن المزاج والذهنية الإسرائيلية في تعاطيها مع مسألة التطبيع من أنه "ليس لدينا ما نعطيه للفلسطينيين... لن نجمد المستوطنات ولو لثانية واحدة... وفي النهاية سيتعين على السعوديين [وليس الإسرائيليين] أن يعطوا [الفلسطينيين] شيئا ما لكي يتبنوا معاهدة السلام المقترحة بين المملكة العربية السعودية وإسرائيل".

باختصار، لا تُظهر أفعال الحكومة الإسرائيلية وتصريحاتها أي استعداد للتحرك نحو السلام مع الفلسطينيين مقابل إقامة علاقات طبيعية مع السعودية. ويبقى أن نرى إلى أي مدى يمكن للولايات المتحدة أن تضغط عليهم للقيام بذلك.

الصين وروسيا

وطدت المملكة العربية السعودية على مدار السنوات علاقات متينة مع الصين، وإلى حد أقل مع روسيا. ويمكن أن تُعزى أهمية الصين بالنسبة للمملكة العربية السعودية إلى عوامل مختلفة، منها التجارة ونقل التكنولوجيا العلمية والعسكرية، فضلا عن علاقة سياسية مميزة واتفاق في أمور حيوية عدة بين البلدين.

ومن الناحية التجارية، تعتبر الصين الشريك التجاري الأول للمملكة العربية السعودية؛ ففي عام 2021، بلغ حجم التبادل التجاري بينهما 87.3 مليار دولار. وعلى نحو أدق، بلغ إجمالي الصادرات الصينية إلى السعودية 30.3 مليار دولار، بينما بلغت واردات الصين من المملكة 57 مليار دولار. وإذا أردنا المقارنة، فقد بلغت قيمة التبادل التجاري بين المملكة العربية السعودية والولايات المتحدة خلال العام نفسه 24.5 مليار دولار، حيث بلغت الصادرات الأميركية إلى السعودية 11.6 مليار دولار وواردات أميركا من المملكة 12.9 مليار دولار.

Mona Eing/Michael Meissner

ويمكن بوضوح أن نرى أن الميزان التجاري بين الصين والمملكة يميل على نحو كبير لصالح المملكة العربية السعودية بمقدار 26.7 مليار دولار، بينما ميله مع الولايات المتحدة لا يتعدى 1.3 مليار دولار فقط. يؤكد هذا الوضع أهمية الصين كأحد أهم المصادر لتدفق العملة الصعبة إلى المملكة العربية السعودية، وهذا يؤدي دورا محوريا في الرفاه الاقتصادي للبلاد، بما في ذلك تحقيق رؤية 2030.

بما أن المملكة العربية السعودية تتمتع بنفوذ كبير على الصين بسبب تجارة النفط، فقد تميل الأخيرة إلى ممارسة نفوذها على إيران حسب ما تقتضيه الظروف

وفوق ذلك، تتميز المملكة العربية السعودية بأنها المورّد الرئيس للنفط الخام للصين، إذ تورد 18 في المئة من إجمالي مشتريات بكين من النفط الخام. وهذا يعني أن الصين تعتمد بشكل كبير على المملكة العربية السعودية لتغذية اقتصادها الواسع. وإذا أخذنا بالحسبان أمرا مثل العقوبات المفروضة على إيران وبنيتها التحتية النفطية المتخلفة، تبرز المملكة العربية السعودية بوصفها المنافس الأول في سوق النفط الصينية، حيث تؤدي روسيا دورا ثانويا (تساهم بنسبة 17.8 في المئة من احتياجات الصين النفطية)، ولا ننسَ أن الصين تشكل شريانا حيويا هاما لاقتصاد إيران. وبما أن المملكة العربية السعودية تتمتع بنفوذ كبير على الصين بسبب تجارة النفط، فقد تميل الأخيرة إلى ممارسة نفوذها على إيران حسب ما تقتضيه الظروف.

وتبدي الصين، بخلاف الولايات المتحدة، درجة أعلى في تقبلها لنقل التكنولوجيا العلمية وتسهيل توطين الصناعة العسكرية داخل المملكة العربية السعودية. وحسب تقرير لـ"CNN"، انخرطت المملكة العربية السعودية بفاعلية في الإنتاج المستقل لصواريخها البالستية منذ عام 2021، مع أداء الصين دورا مهما في هذا المسعى. كما سلط هذا التقرير الضوء على حدوث "عمليات نقل عديدة واسعة النطاق لتكنولوجيا الصواريخ البالستية الحساسة بين البلدين".

لأن الولايات المتحدة ودولا غريبة أخرى ملتزمة بالإبقاء على إسرائيل القوة المهيمنة في الشرق الأوسط، وبحجة ادعاءات انتهاكات حقوق الإنسان، والمخاوف من سباق تسلح في المنطقة، فقد عرقلت هذه الدول على نحو متكرر تصدير صواريخ بالستية دقيقة إلى المملكة العربية السعودية. كما أحجمت هذه الدول عن تأييد توطين هذه الصناعة داخل المملكة

وفي عام 2022، وقعت الشركة السعودية لأنظمة الاتصالات والإلكترونيات المتقدمة اتفاقية مع "مجموعة تكنولوجيا الإلكترونيات الصينية" لبناء طائرات مسيرة. وتلتزم الشركة الصينية، التي سميت باسم الحلول الجوية، بموجب الاتفاقية بـ"إنشاء مركز بحث وتطوير وتشكيل فريق [في المملكة] يعمل على صناعة أنواع مختلفة من أنظمة الطائرات المسيرة"، مع "نظام اتصالات كامل ونظام تحكم بالطيران، وأنظمة الكاميرا والرادار والكشف اللاسلكي".

ولأن الولايات المتحدة ودولا غريبة أخرى ملتزمة بالإبقاء على إسرائيل القوة المهيمنة في الشرق الأوسط، بحجة ادعاءات انتهاكات حقوق الإنسان، والمخاوف من سباق تسلح في المنطقة، عرقلت هذه الدول على نحو متكرر تصدير صواريخ بالستية دقيقة إلى المملكة العربية السعودية. كما أحجمت هذه الدول عن تأييد توطين هذه الصناعة داخل المملكة.

تتباعد بعض جوانب السياسة الخارجية للمملكة العربية السعودية عن تلك التي للولايات المتحدة على نحو صارخ. ويتضح هذا الفرق على الأخص في حالة مبادئ مثل "النظام الدولي القائم على القواعد الليبرالية"، و"الديمقراطية"، و"حقوق الإنسان"، وهي مبادئ وظفت في الماضي لإضفاء الشرعية على التدخل في شؤون دول ذات سيادة

وما يتسم بأهمية قصوى أن مبادئ السياسة الخارجية الدائمة للصين تتماشى بسلاسة مع مبادئ المملكة العربية السعودية، القائمة على مبادئ مثل "احترام سيادة الدول ووحدة أراضيها، وعدم الاعتداء على الغير، وعدم التدخل في الشؤون الداخلية للدول، والمنفعة المتبادلة، والتعايش السلمي. بينما تتباعد بعض جوانب السياسة الخارجية للمملكة العربية السعودية عن تلك التي للولايات المتحدة على نحو صارخ. ويتضح هذا الفرق على الأخص في حالة مبادئ مثل "النظام الدولي القائم على القواعد الليبرالية"، و"الديمقراطية"، و"حقوق الإنسان"، وهي مبادئ وظفت في الماضي لإضفاء الشرعية على التدخل في شؤون دول ذات سيادة.

على نحو مغاير للصين، تتمحور أهمية روسيا للمملكة حول مجالين رئيسين. أولهما أن روسيا كعضو في "أوبك+" تساعد المملكة العربية السعودية في الحفاظ على سعر مناسب للنفط، كما لوحظ في الآونة الأخيرة، وثانيهما أن روسيا مصدر محتمل للأسلحة المتقدمة على المدى الطويل

وعلى نحو مغاير للصين، تتمحور أهمية روسيا للمملكة حول مجالين رئيسين. أولهما أن روسيا كعضو في "أوبك+" تساعد المملكة العربية السعودية في الحفاظ على سعر مناسب للنفط، كما لوحظ في الآونة الأخيرة، وثانيهما أن روسيا مصدر محتمل للأسلحة المتقدمة على المدى الطويل. وبينما تنسجم مساعي روسيا لتعزيز نظام عالمي متعدد الأقطاب مع مصالح المملكة العربية السعودية، فإن التحول نحو عالم متعدد الأقطاب هو عملية طويلة ومعقدة.

هل يمكن للسعودية، في هذا السياق، أن تتكيف على نحو عملي مع الطلبات الأميركية بتقييد علاقاتها مع الصين وروسيا؟

حتى الآن، تشير التقارير المسربة عن المناقشات بين واشنطن والرياض إلى مطالب معتدلة نسبيا؛ إذ تشمل هذه المطالب على الأخص الامتناع عن إشراك شركة "هواوي" العملاقة الصينية في المشاريع السعودية، والامتناع عن منح الصين حق إقامة قواعد عسكرية في المملكة، والامتناع عن استخدام العملة الصينية في التجارة. أما روسيا فيتركز الطلب الأميركي على وقف التنسيق معها في أسعار النفط، بحجة الغزو الروسي لأوكرانيا.

ويبدو أمرا معقولا أن توافق السعودية على جميع الشروط الأميركية حيال الصين وروسيا؛ وعلى الرغم من كل شيء، فإن مواصلة التجارة مع الصين بالدولار الأميركي، تنسجم تماما مع المصالح السعودية وتعزز بالتالي من مدخراتها من العملة الصعبة. يضاف إلى ذلك أن الصين لم تبدِ أي نية، أقله في الوقت الحالي، لإقامة قواعد عسكرية في المنطقة. أما شركة "هواوي" فيمكن استبدالها في حال توفر بدائل عملية من الشركات الأميركية، شريطة أن تكون ببراعة التكنولوجيا الصينية وبسعر مناسب. أما روسيا، فيمكن للسعودية أن تعتبرها منافسا لها في السوق وتسعى لتقويض نفوذها.

قد تفهم الصين خطأ أن امتثال المملكة العربية السعودية للشروط، هو اصطفاف إلى جانب الولايات المتحدة ضدها. وبينما قد لا تتخذ الصين تدابير مضادة فورية بسرعة، إلا أنها قد تعزز بمرور الوقت علاقاتها مع دول أخرى مثل إيران على حساب المملكة العربية السعودية

ومع ذلك، فإن الاستجابة لمطالب الولايات المتحدة يحمل معه ثلاثة تحديات كبيرة للمملكة، وهذه تطرح بدورها معضلات معقدة:

أولا، قد تفهم الصين خطأ أن امتثال المملكة العربية السعودية للشروط، هو اصطفاف إلى جانب الولايات المتحدة ضدها. وبينما قد لا تتخذ الصين تدابير مضادة فورية بسرعة، إلا أنها قد تعزز بمرور الوقت علاقاتها مع دول أخرى مثل إيران على حساب المملكة العربية السعودية.

مع أن الولايات المتحدة لا تطلب حاليا من المملكة العربية السعودية تقليص إمداداتها من النفط إلى الصين، فقد يبرز مثل هذا الطلب أثناء المواجهات مع الصين، إذا تحركت الأخيرة مثلا لضم تايوان. وسيكون هذا وثيق الصلة على الأخص إذا أقيم تحالف شبيه بحلف شمال الأطلسي مع المملكة، كما شهدنا عندما أوقفت أوروبا مشترياتها من النفط من روسيا بناء على طلب الولايات المتحدة. ولا تستطيع المملكة العربية السعودية أن تتحمل اتخاذ مثل هذا الإجراء

ثانيا، مع أن الولايات المتحدة لا تطلب حاليا من المملكة العربية السعودية تقليص إمداداتها من النفط إلى الصين، فقد يبرز مثل هذا الطلب أثناء المواجهات مع بكين، إذا تحركت الأخيرة مثلا لضم تايوان. وسيكون هذا وثيق الصلة على الأخص إذا أقيم تحالف شبيه بحلف شمال الأطلسي مع المملكة، كما شهدنا عندما أوقفت أوروبا مشترياتها من النفط من روسيا بناء على طلب الولايات المتحدة. ولا تستطيع المملكة العربية السعودية أن تتحمل اتخاذ مثل هذا الإجراء.

يمكن أن تؤدي معاملة روسيا كمنافس في سوق النفط إلى انخفاض أسعار النفط عن غير قصد، وبالتالي تقليل الإيرادات المالية للمملكة التي تحتاجها لتحقيق أهداف رؤية 2030

ثالثا، يمكن أن تؤدي معاملة روسيا كمنافس في سوق النفط إلى انخفاض أسعار النفط عن غير قصد، وبالتالي تقليل الإيرادات المالية للمملكة التي تحتاجها لتحقيق أهداف رؤية 2030.

خاتمة

يُظهر التنافس المستمر بين القوى العالمية الكبرى، ولا سيما الولايات المتحدة والصين، وبدرجة أقل روسيا إلى حد ما، مجموعة من التحديات والإمكانيات. وقد أبدت المملكة العربية السعودية براعة بشكل ملحوظ في الاستفادة من هذه الديناميكية والحفاظ بشكل فعال على علاقات إيجابية مع الجهات الفاعلة العالمية الرئيسة مع الاستفادة القصوى من الفرص المتاحة، ونجحت في المناورة وهي تسير بمهارة عبر الانقسام بين القوى الغربية وروسيا لضمان أسعار نفط مناسبة وتعزيز علاقاتها الاقتصادية والتكنولوجية مع الصين، ثم شرعت في بذل جهود لتطوير الصناعات العسكرية المتقدمة.

تهدف "الصفقة الكبرى" المقترحة من قبل الولايات المتحدة في المقام الأول إلى تقليص النفوذ المتنامي للصين، وبدرجة أقل، روسيا، داخل منطقة الخليج

لعلّ الميزة الأساسية للمملكة تكمن في احتمال عقدها معاهدة دفاع مع الولايات المتحدة على غرار معاهدة حلف شمال الأطلسي، سوى أن هذه الميزة قد تأتي على حساب توتر علاقاتها الاقتصادية مع لاعبين عالميين رئيسين آخرين، مما قد يعرض أمنها على المدى الطويل للخطر. على سبيل المثال، قد تضحي المملكة العربية السعودية بنفوذها الاقتصادي مع الصين لتستفيد منه إيران

ولعلّ الميزة الأساسية للمملكة تكمن في احتمال عقدها معاهدة دفاع مع الولايات المتحدة على غرار معاهدة حلف شمال الأطلسي، سوى أن هذه الميزة قد تأتي على حساب توتر علاقاتها الاقتصادية مع لاعبين عالميين رئيسين آخرين، مما قد يعرض أمنها على المدى الطويل للخطر. على سبيل المثال، قد تضحي المملكة العربية السعودية بنفوذها الاقتصادي مع الصين لتستفيد منه إيران.

قد يشوب الدخول في اتفاقية دفاع مع الولايات المتحدة بعض القيود، فمن شبه المؤكد أن المملكة لن تُمنح أسلحة متطورة على قدم المساواة مع ما يقدَّم لإسرائيل

وفوق ذلك، قد يشوب الدخول في اتفاقية دفاع مع الولايات المتحدة بعض القيود، فمن شبه المؤكد أن المملكة لن تُمنح أسلحة متطورة على قدم المساواة مع ما يقدَّم لإسرائيل.

الطريق إلى تطبيع العلاقات بين المملكة العربية السعودية وإسرائيل مليء بالتحديات المعقدة. ولا شكّ أن المملكة العربية السعودية ستدرس بعناية الفوائد المحتملة القائمة على مصالحها الخاصة، بينما تفكر في الوقت نفسه في كيفية تلبية الطلب الأميركي للتطبيع مع إسرائيل. وفي النهاية، ستتبنى المملكة نهجا فاحصا ودقيقا وحذرا ومحسوبا تجاه هذا الأمر، دون التخلي عن مراعاة الديناميكيات الإقليمية والمبادئ الدولية

ختاما، نقول إن الطريق إلى تطبيع العلاقات بين المملكة العربية السعودية وإسرائيل مليء بالتحديات المعقدة. ولا شكّ أن المملكة العربية السعودية ستدرس بعناية الفوائد المحتملة القائمة على مصالحها الخاصة، بينما تفكر في الوقت نفسه في كيفية تلبية الطلب الأميركي للتطبيع مع إسرائيل، وفي النهاية، ستتبنى المملكة نهجا فاحصا ودقيقا وحذرا ومحسوبا تجاه هذا الأمر، دون التخلي عن مراعاة الديناميكيات الإقليمية والمبادئ الدولية

font change

مقالات ذات صلة