سوريا الألمانية الحرة والعاملة... في طور التبلور؟

يقترب شطر كبير من سوريي ألمانيا من "التوطين" على الرغم من التباسات "هويتهم" الجديدة

لاجئون سوريون يصلون إلى مخيم للاجئين والمهاجرين في فريدلاند بألمانيا يوم 4 أبريل 2016

سوريا الألمانية الحرة والعاملة... في طور التبلور؟

تصعب الإحاطة بأوضاع وأحوال السوريين في ألمانيا. فعددهم تجاوز اليوم مليون نسمة، موزعين أو وُزِّعوا على مناطق (ولايات) ومدن وبلدات ألمانية كثيرة، بينها مسافات شاسعة. وتشير تقارير وتحقيقات إلى أنهم أوسع جاليات اللاجئين والمهاجرين انتشارا، ليس في ألمانيا وحدها، بل في أوروبا كلها. وشبكات اتصالهم وتواصلهم أوروبيا هي الأقوى نشاطا وحيوية بين جاليات الشرق الأوسط المهاجرة والهاربة من بلدانها. وقد يكون هذان النشاط والحيوية ناجمين عن جدّة لجوئهم الجماعي المليوني في مدة زمنية وجيزة، وربما يهدآن ويضعفان أو يتخذان شكلا جديدا بعد حين، عندما تميل حياتهم في ألمانيا إلى "الاستقرار" والتبلور، وتتبلور صلتهم بماضيهم التعس والبائس في سوريا المدمرة، المتشظية أشلاء والمحتلة. والأرجح أنها كانت محتلة احتلالا أمنيا داخليا، وعاشوا فيهاعقودا مكتومين كأنهم في سجن كبير، قبل أن يتجرأوا وبنشدوا في سنة 2011:

"هاي هاي ياسجاني

هاي هاي ياعتم الزنزاني

عتمك رايح ظلمك رايح

نسمة بكرا ما بتنساني"

وإلى تزايد أعدادهم في ألمانيا وسواها من الديار الأوروبية، من طريق الولادات وقانون "لمّ شمل" الأزواج والأبناء، لا يزال البحر المتوسط والبر البلقاني طريقي جلجلة السوريين وسواهم الفارين من بلاد الحروب والقتل والفقر والجفاف والتصحّر، ومن شتى أشكال التمييز والعنصرية التي يتعرض لها السوريون في لبنان وتركيا، فتستمر جلجلتهم للوصول إلى برّ "الأمان" الأوروبي والألماني. وهذا على الرغم من أن أوروبا كلها تنام وتصحو كل يوم على قلق وخوف وتحولات سياسية غير مسبوقة، في طليعتها توسّع التيارات والأحزاب الشعبوية واليمينية المتطرفة وشبه العنصرية الناقمة على المهاجرين واللاجئين إليها بعد تكاثف موجاتهم في السنوات القليلة الأخيرة، وتواصلها اليومي، لاسيما السورية التي صارت ألمانيا وجهتها الأولى منذ العام 2015.

ومنذ هذا التاريخ يتزايد عدد السوريين الذين حازوا الجنسية الألمانية، وصاروا يجيدون نسبيا وبتفاوت اللغة الألمانية، وانخرط شطر كبير منهم في سوق الأعمال، وأنشأ لحياته مسارا ومصيرا جديدين. فلم تعد تنطبق على هذا الشطر صفة اللاجئين، لأنهم يقتربون من "التوطين" على الرغم من عدم تبلوره بعد، ومن التباسات "هويتهم" الجديدة و"انتماءاتهم" وذاكرتهم.

سوابق الهجرة السورية

الأبحاث والدراسات التي تتناول اللجوء السوري الكبير في ألمانيا، غالبا ما تقارنه بما سبقه إليها من هجرات غير أوروبية. وفي طليعتها هجرة العمالة التركية والكردية منذ ستينات القرن العشرين. ويليها اللجوء من لبنان الحروب الأهلية - الإقليمية (لبنانيون شيعة غالبا، وفلسطينيون وأكراد) ما بين النصف الثاني من الثمانينات ومطلع الألفية الثالثة. وعلى الرغم من شيوع لازمة ألمانية متكررة تقول: "ألمانيا لم تكن بلد/دولة هجرة ولجوء" طوال تلك العقود، اتسعت فيها الهجرات إليها وكوّن مهاجروها ولاجئوها جاليات منكفئة في تجمعات أو متحدات سكنية خاصة، "قومية" (الأتراك والكرد) و"طائفية" (اللبنانيون الشيعة) في مدن ألمانية عدة، وخصوصا في العاصمة برلين. فأنشأوا ما يسمى "مافيات" تهريب وترويج مخدرات وتبييض أموال وجريمة منظمة.

وتهدف المقارنة بين اللجوء السوري المستجد وجاليات المهاجرين الأقدم إلى القول إن الحكومة الألمانية (عهد أنغيلا ميركل) في العشرية الثانية من الألفية الثالثة التي شهدت "الربيع العربي"، استفادت من أخطاء الحكومات السابقة في إدارتها "ملف" الهجرة واللجوء السابقين. وذلك عندما شرعت في الستينات باستقدام أيدٍ عاملة "رخيصة" من تركيا وكردها "المكتومي القومية"، لتقوم بأعمال عضلية مجهدة في ورش وإنشاءات البنية التحتية في ألمانيا التي دمرتها الحرب العالمية الثانية. واقتصر تنظيم تلك العمالة على عقود محددة الأجل، كي يعود العمال الأتراك والكرد إلى بلادهم فور انتهائها. لكن ما قررته الحكومة الألمانية آنذاك حصل خلافه وعكسه في السبعينات والثمانينات: مكث أولئك العمال في ألمانيا، واستقدموا عائلاتهم، ثم لحقتهم موجات من مواطنيهم، فاتسعت الجاليتان التركية والكردية في ألمانيا، بلا قوانين وإجراءات وبرامج ناظمة للهجرة واللجوء والإقامة والاندماج. وتشير الإحصاءات إلى أن تعداد الجالية التركية في ألمانيا- ومثلها الكردية- يتراوح ما بين 2.5 و4 ملايين نسمة.

أوروبا كلها تنام وتصحو كل يوم على قلق وخوف وتحولات سياسية غير مسبوقة، في طليعتها توسّع التيارات والأحزاب الشعبوية واليمينية المتطرفة وشبه العنصرية الناقمة على المهاجرين واللاجئين إليها

وشهدت ألمانيا موجة لجوء من لبنان الحروب الأهلية الداخلية والإقليمية في النصف الثاني من الثمانينات ومطالع التسعينات، فتصدّرها الشيعة والفلسطينيون والكرد. لكن موجة اللجوء هذه شاعت تسميتها في ألمانيا بالموجة اللبنانية، لأن مصدرها لبنان، والشطر الشيعي اللبناني منها هو قطبها الأبرز والمهيمن في نشاطه وأعماله "السوداء": تجارة السيارات المستعملة في أوروبا، والتهريب وتبييض الأموال. وكانت شبكات هذه الأعمال متصلة وثيقا بالمهجر الشيعي الأفريقي وبتصاعد النفوذ العسكري الشيعي في لبنان.
وكانت السلطات الألمانية قد استقبلت تلك الموجة من لاجئي الحرب في لبنان في مخيمات لجوء من دون أن تضع برامج لاستقبالهم ودمجهم في المجتمع الألماني، على أمل إعادتهم إلى لبنان. وهذا ما حاولته الحكومة الألمانية مع الحكومة اللبنانية في أواخر التسعينات ومطلع الألفية الثالثة، لكن من دون جدوى. فتزايدت أعداد موجة اللجوء هذه وشبكاتها التي استقدمت من لبنان أعدادا جديدة، فتكونت بذلك جالية معروفة باللبنانية في ألمانيا. وكان محور نشاطها "الأسود" في شارع "زونن آليه" (طريق الشمس) المعروف في برلين بـ"شارع العرب" الذي شهد ويشهد اليوم منافسة وتوترات بين أصحاب متاجره ومطاعمه اللبنانيين الشيعة والسوريين.
في منتصف شهر يوليو/تموز الماضي، كان ركاب الطائرة التي أقلعت من بيروت إلى مطار مدينة دوسلدوف جنوب ألمانيا، من اللبنانيين في معظمهم. وفي الأحاديث التي دارت بيني وبين من أقلني في سيارته من ذاك المطار إلى منزل الإقامة الأدبية في منزل الكاتب الألماني هينريش بول (1917- 1985) القريب من دوسلدوف، قال المشرف على تلك الإقامة إن "سوريي ألمانيا يختلفون اختلافا بيّنا عن لبنانييها. ففي مقابل إقبال السوريين على العمل والانتظام في برامج تعلُّم اللغة والتأهيل المهني، ومن ثم الاندماج الاجتماعي، ما يزال اللبنانيون يثيرون المشاكل والمتاعب في شبكات أنشطتهم الخارجة على القانون".

Reuters
لاجئون سوريون يصطفون في أحد الشوارع لدخول المجمع خارج مكتب برلين للشؤون الصحية والاجتماعية لتسجيلهم، 9 ديسمبر 2015

لكن هذه الملاحظة أو المعلومة تظل مبتورة إذا لم تُستكمل بمعلومات عن سياسات الحكومات الألمانية المتعاقبة منذ الستينات حيال موجات الهجرة واللجوء. فعندما أعلنت المستشارة ورئيسة الحكومة الألمانية أنغيلا ميركل عن فتحها حدود ألمانيا للجوء السوري الكبير سنة 2015، قالت أيضا أنها لن تكرر أخطاء الحكومات السابقة. فسياسة الحدود المفتوحة للسوريين، سرعان ما أُعدت لها برامج ضخمة ومكلفة ماليا ويستغرق إنجازها سنوات، تبدأ بإنشاء مخيمات استقبال وإغاثة، ويليها الحصول على إقامة وسكن وضمان صحي ومساعدات مالية. ومن ثم الإنخراط في دورات إلزامية لتعلُّم اللغة الألمانية (الكلفة الشهرية 300 يورو لكل منتسب إلى هذه الدورات الإلزامية في مسار الحصول على إقامة وعمل وجنسية). وهذا إلى جانب الانتساب إلى معاهد التأهيل المهني، لدخول سوق العمل. والبرامج هذه كلها لم يكن لها إي وجود في ما سبق من موجات اللجوء والهجرة.

لغة وتدريب مهني


في محطة القطار بمدينة دورين الصغيرة (حيث تقيم جالية تركية وكردية لا يستهان بحضورها ونشاطها التجاري)، التقيتُ شابا مصريا قال إنه حصل على عقد عمل كطبيب أسنان في ألمانيا، تاركا عمله في قطر حيث يستحيل حصوله على جنسيتها، في مقابل إمكان حصوله على الجنسية في ألمانيا. وقال إنه في دورين للتقدم إلى امتحان في اللغة الألمانية، وهو إلزامي لانخراطه في العمل. وسرعان ما جلس إلى جانبنا على مقعد في المحطة شاب شرع في الحديث بلهجة سورية مع الشاب المصري عن الامتحان عينه.
 

تكونت جالية معروفة باللبنانية في ألمانيا. وكان محور نشاطها "الأسود" في شارع "زونن آليه" (طريق الشمس) المعروف في برلين بـ"شارع العرب" الذي شهد ويشهد اليوم منافسة وتوترات بين أصحاب متاجره ومطاعمه اللبنانيين الشيعة والسوريين

وفيما بدا المصري متعبا - إذ أخذته غفوة في القطار المتجه إلى مدينة كولن القريبة من دورين - كان الشاب السوري منطلقا وحيويا في الحديث. وسرعان ما فاجأني كلامه عن أنه ذاهب إلى كولن (كولونيا) لحضور خطبة الجمعة وأداء صلاتها في مسجد المدينة الكبير. وهو يداوم على ذلك غالبا في كل أسبوع. لم يكن في سلوكه ومظهره وقيافته وحديثه أي ملمح يشي بأنه متديّن. وفكرت أنه قد يكون مؤمنا إيمانا شخصيا غير دعوي ولا رسالي، وأن تردّده إلى المسجد والصلاة وحضور خطب الجمعة فيه، شيء من ذاك الإيمان الشخصي، إضافة إلى شيء من حاجته إلى دفء اجتماعي تبعثه فيه شعائر الصلاة والحضور الجمعي في مسجد المدينة الكبير الذي شيدته الجالية التركية سنة 2017 في كولن، وقامت بتظاهرات لتشييده، ويديره اليوم "الاتحاد الإسلامي التركي للشؤون الدينية".
وفي بحث أعدّته ليلى هندي (طالبة دكتوراه في التاريخ بجامعة كاليفورنيا الأميركية) عن اللاجئين السوريين في ألمانيا تنقل الباحثة عن شبان سوريين قولهم إنهم ما عادوا قادرين على لقاء أصدقائهم السوريين: إلا في مناسبات الحزن والعزاء والأفراح المتباعدة، بعد سنوات قليلة على إقامتهم في ألمانيا. ويقول أحد أولئك الشبان: "لقد أصبحنا نضطر إلى تحديد مواعيد مسبقة للاتفاق على لقاء ما يجمعنا". وهذا قد يؤكد أن عادة ذاك الشاب السوري - محدثي في القطار عن ذهابه إلى كولن لحضور صلاة الجمعة وخطبتها - محاولة منه لـ "لمّ الشمل" مع معارفه وأصدقائه مرة في الأسبوع. وربما تنطوي عادته تلك على رغبته في التعرّف إلى أصدقاء جدد.

Reuters
لاجئون سوريون يصلون إلى أحد مراكز اللجوء في ألمانيا

وروى شاب سوري (رغب في عدم ذكر اسمه، عمره 25 سنة، ومضت سنتان على وصوله برا بواسطة شبكات التهريب إلى ألمانيا من تركيا وإقامته في برلين) أنه اجتاز مرحلة تعلّم اللغة الألمانية، وبدأ يتلقى دورة تأهيل مهني في ميكانيك السيارات، تستمر سنة كاملة على الأقل. ومن ملاحظاته أن أصحاب هذه المهنة في سوريا يعتمدون على عمل يدوي وعضلي وأدوات يدوية وعلى تدريب مباشر في ورشة إصلاح السيارات. وغالبا ما يحمل العامل مطرقة ينهال بها بضربات عنيفة على حديد عجلة السيارة لتقويم اعوجاجها. هنا في دورة التأهيل المهني بألمانيا على المتدرب أن يجيد استخدام جهاز الكمبيوتر لتحليل ماذا حدث للمحرك جراء اعوجاج العجلة، قبل الشروع في استخدام وسائل تقنية دقيقة لتقويم الاعوجاج، إذا كان خفيفا، وإلا يجب استبدال العجلة بأخرى جديدة. 

وسيارة التاكسي التي أقلتني مرة من دورين إلى البلدة الريفية الصغيرة المجاورة حيث منزل هنريش بول، كان يقودها شاب عراقي (26 سنة، من البصرة). وقال إنه وصل إلى ألمانيا قبل 5 سنوات من طريق شبكات التهريب بحرا من تركيا، فمكث 5 أشهر في مخيم لجوء، قبل حصوله على إقامة وتلقيه دورات لغة وتأهيل مهني في الطباعة. لكنه فضّل العمل سائقا في شركة سيارات تاكسي، بعد تدربه على القيادة، واجتيازه امتحانين لقيادة السيارات الخاصة والعمومية وحصوله على رخصتي سوق. وقال أيضا إنه يعد نفسه "ناجيا من ويلات العراق". وفي دورين حيث يقيم تزوج من قريبته العراقية. وحول المدينة الصغيرة مخيمان لاستقبال اللاجئين، وهناك مخيم ثالث قرب بلدة كروزاو المجاورة لدورن، ومعظم النازلين في هذه المخيمات من السوريين.

وحسب إيدن أوزوز (مفوض الهجرة واللاجئين والاندماج في ألمانيا) في تصريح صحافي له، أن الحكومة الألمانية أنفقت سنة 2016، عشرين مليار يورو على اللاجئين، شطر منها على تعليمهم اللغة ودورات التأهيل المهني. وأضاف أن دخول المتدربين الفعلي إلى سوق العمل يستغرق أقله سنة بعد إنهاء التدريب. ونظام التدريب المهني الألماني مشهور عالميا، وغالبا ما يوصف بأنه محرك النجاح الاقتصادي الألماني. وهو، إلى جانب اللغة، حجر الزاوية في نظام الاندماج. 
وفي شهادات صحافية كثيرة يُنظر إلى برامج التدريب بوصفها مفتاح جذب اللاجئين إلى قوة العمل الألمانية. أما اللاجئ السوري فغالبا ما يحتاج إلى سنتين أو ثلاث لتجاوز حاجز اللغة، قبل انخراطه في التدريب المهني، طريق الحصول على عمل دائم. وما من مهنة في ألمانيا، للألماني والمهاجر واللاجئ فيها، إلا وتحتاج دورات تدريبية، من الخياطة إلى النجارة والحلاقة والطهي ورعاية المسنين...إلخ.

فيض من المتدربين السوريين


تشير الإحصاءات إلى أن توافر دورات التدريب المهني سنة 2010 كان يفوق بكثير عدد المنخرطين فيها والطلب عليها في إلمانيا. لكن في سنة 2016 انقلبت الآية تماما: فاق الطلب على التدريب أضعافا مضاعفة مقارنة بالدورات المتوافرة. ووصل رقم طالبي التدريب إلى 140 ألف شخص، نصفهم من السوريين الذين فتحت لهم المستشارة ميركل حدود ألمانيا في العام 2015.
 

عندما أعلنت المستشارة ورئيسة الحكومة الألمانية أنغيلا ميركل عن فتحها حدود ألمانيا للجوء السوري الكبير سنة 2015، قالت أيضا أنها لن تكرر أخطاء الحكومات السابقة

وفي شهادة المتدرّب السوري على ميكانيك السيارات في برلين، نقلاً عن صديقه السوري المتدرّب في مدينة بافارية جنوب ألمانيا، أن مقاطعة بافاريا تمتلك ثاني أكبر اقتصاد بين المقاطعات الألمانية. وينظر إليها السوريون وسواهم من اللاجئين كفرصة ناجعة للحصول على عمل. وفي مدرسة تدريب في المدينة البافارية، حيث يتدرّب صديق السوري البرليني، هناك 160 طالب من اللاجئين الوافدين من 41 بلدا معظمهم من سوريا وأفغانستان. وبما أن مبنى المدرسة صغير وُضعت قربها حاويات لتدريب العدد الفائض من الطلاب. وهناك طلاب بلا وثائق عن أعمارهم وتعلّمهم السابق. وكثرة من الأفغان وقلة من السوريين غادروا الدورة بصمت، بسبب عجزهم عن متابعتها. هذا فيما أشاد بعض المدرّبين بمهارات السوريين وشجاعتهم وإرادتهم في التدريب وتعلُّم اللغة الألمانية.
وتشير الإحصاءات الألمانية الرسمية إلى أن تعليم السوريين أفضل من جماعات اللاجئين الأخرى: 71 في المئة منهم لديهم شهادات مدرسية، و32 في المئة أنهوا مرحلة التعليم الأساسي والمهني، و8 في المئة لم يذهبوا إلى المدارس، و30 في المئة تعلّموا خارج سوريا، أي في تركيا ولبنان والأردن وسواها من بلاد اللجوء في الشرق الأوسط، و44 في المئة من المتعلمين يجيدون اللغة الإنكليزية، و56 في المئة بدأوا يتكلمون الألمانية.

AFP
لاجئون يحضرون دورة لتعلم اللغة الألمانية في أحد الفصول الدراسية في منزل مؤقت يقدم المساعدة للاجئين في منطقة جاتو في برلين في 6 أغسطس 2015

هذا فيما أدى تسجيل عشرات الألوف منهم في المدارس المهنية الألمانية إلى خفض بطالة اللاجئين 10 في المئة في ألمانيا. لكن حاجز اللغة يظل عائقا يحول دون دخول نسبة عالية منهم إلى الجامعات الألمانية.
إلى عائق اللغة، هنالك العوائق البيروقراطية واللوجستية التي يعاني منها الألمان، وليس السوريون وسواهم من اللاجئين وحدهم. 

اندماج ومواهب مكبوتة؟


لكن الألمان، أو الرأي العام الألماني غالبا ما يردد على مسامع السوريين كلمة: الاندماج، الاندماج، كما لو أنها كلمة "سحرية" في شهادة أكثر من سوري التقتهم "المجلة" في برلين. لذا يشعر بعضهم بالإحباط حيال هذه الكلمة، وأحيانا بالنفور، ولا سيما من تعالي بعض الألمان الذين يرون أن ليس ما يتعلمونه من السوريين. وهذا ما يعتبره سوريون وألمان منافيا للواقع والحقيقة.
هناك مثلاً منظمة أسّستها سنة 2015 مجموعة من صحافيين وفنانين ألمان. تعنى هذه المنظمة بدعم اللاجئين، وهي متخصصة في الفن والتسويق، ومن برامجها مشروع اسمه "تذوق الطعام". والمقصود طعام المطابخ والمطاعم التي تكاثرت وأسّسها لاجئون أو مهاجرون، وخصوصا في شارع زونن آليه (شارع العرب) البرليني، حيث وجدت كثرة من السوريين فرص عمل، فاتحد بعضهم في شبكات وروابط عائلية وقرابية استثمارية، فأنشأوا مطاعم ومقاهي ومحال حلويات، وشرعوا في منافسة جاليات المهاجرين السابقين، من أتراك ولبنانيين. وهذا ما يثير أحيانا شيئا من التوتر والمشاكل في الشارع الذي تنشط فيها شبكات الإتجار بالمخدرات.
وربما هذا ما دفع جمعية دعم اللاجئين صاحبة مشروع "تذوق الطعام"، إلى أن تنشر على موقعها على الإنترنت الجملة الآتية: "لا نريد مجتمعا موازيا. نحن نبحث عن الإثراء الذي يجب أن يقدّمه كل شخص يصل إلى ألمانيا ويندمج" في مجتمعها. والسوريون غالبا ما يعلمون أنهم يحظون بعناية جمعيات المجتمع المدني الألمانية، أكثر من سواهم من الأفغان والأفارقة. لكن هناك من يردد منهم أن الألمان يريدون إعادة تكوينهم كأفراد جدد تماما على مثال وصورة محددين. وهذا بدل اعترافهم بمهاراتهم وخبراتهم التي قد تفيد المجتمع الألماني وتبعث فيه حيوية متجددة.
وفي هذا السياق قال الشاب السوري البرليني المتدرب في مدرسة مهنية: "غالبا ما يطلب منك الرأي العام الألماني أن تكون على صورة محددة، وأن تفعل هذا الشيء وتمتنع عن ذاك. وأن تذهب إلى مدرسة اللغة والتدريب المهني، كي تتمكن من النجاح والاندماج. وهذا من دون أن تُسأل: ماذا لديك ويمكنك تقديمه؟".

السوريون غالبا ما يعلمون أنهم يحظون بعناية جمعيات المجتمع المدني الألمانية، أكثر من سواهم من الأفغان والأفارقة. لكن هناك من يردد منهم أن الألمان يريدون إعادة تكوينهم كأفراد جدد تماما على مثال وصورة محددين

وتنقل الباحثة ليلى هندي عن مديرة تنفيذية إلمانية تُعنى بشؤون اللاجئين قولها إن اللاجئين غالبا ما يمتنع عليهم إظهار مهاراتهم ومواهبهم. فما أن يقدّم شخص منهم طلب لجوء، حتى يحصل على بعض المال وسرير وخدمات إقامة في مخيم. ثم تُضرب له عشرات مواعيد لمقابلات إدارية. لكنه يعيش مع أقرانه في عزلة تحول دون تطوير ما لديه، ولا يُسأل أصلا عما لديه. كأنما لا يجوز له العطاء. وهذا خطير عليه وعلى المجتمع الألماني الذي يساوره شيء من غضب لأنه يقدّم للاجئين كل شيء، ولا يضع برنامجا يمكّنهم من تطوير ما لديهم وتقديمه. وتستنتج الباحثة هندي أن الصورة التي يرسمها الألماني للاجئ، تحمله على القول: أنا لست كذلك، إذ يشعر أن شخصيته وثقافته تُنتزعان منه.

هجرة بلا إرث وثأر استعماريين


لا تزال تجربة الهجرة واللجوء السوريين الكبيرين في ألمانيا قصيرة الأمد. وحضورهم الجديد في هذه البلاد - الصقيعية الطقس والمناخ، والرائدة اقتصاديا وصناعيا وفي مجالات العمل والانتاج، والحريات السياسية والاجتماعية والشخصية - لا يزال مفتوحا على تزايدهم وتكاثرهم، وعلى احتمالات تبلوره في اتجاهات يصعب التكهن بها بعد. 
لكن الأكيد أن سوريي ألمانيا يختبرون للمرة الأولى - حسب شهادات كثيرة منهم -  طعم الحريات، أقله الشخصية والاجتماعية، والسياسية تاليا. 
فهنا في ألمانيا التي يختبرون فيها حياة جديدة عليهم، ليست الحياة بخسة الثمن كما في سوريا التي فروا منها. وليس من أجهزة أمنية تخنق أنفاسهم وتروعهم. وليس من سوري واحد إلا وعرف سجونها سنوات وسنوات في "سوريا الأسد" الأول. أما الثاني فما أن رفعوا صوتهم مطالبين بشيئ من حرية وكرامة، حتى دمر سوريا كلها على رؤؤسهم. ثم رمى من ظلوا أحياء من مجازره في المخيمات والعراء واللجوء.
ومقارنة بهجرة الجزائريين التاريخية والمريرة إلى فرنسا، يخلو اللجوء السوري المرحب به حتى اليوم في ألمانيا من ذاك الإرث والثأر الاستعماريين اللذين يلابسان علاقة الجزائر بفرنسا. ثم أن مجتمعا سوريا بفئاته كافة ومن أجياله كافة حلّ في ألمانيا، وأُعدت برامج ضخمة وواعدة لاستيعابه في المجتمع وسوق العمل وفي جميع مناحي الحياة الألمانية. 

وهناك شهادات وتجارب كثيرة تشير إلى أن الشعب السوري عموما يقبل على العمل والنشاط والكد بلا تشاوف. وهذا ما يعرفه واختبره، أقله اللبنانيون، منذ ستينات الانقلابات العسكرية المدمرة في سوريا. وذلك حينما توافد إلى لبنان على مدى عقود وأجيال عمال سوريون عاشوا مكتومين في البؤس والشقاء، وساهموا في إعالة إهلهم في سوريا التي أفقرتها تلك الانقلابات وجمدت مجتمعها في الزمن، وسلطت عليه أجهزتها الأمنية المتوحشة. 

مقارنة بهجرة الجزائريين التاريخية والمريرة إلى فرنسا، يخلو اللجوء السوري المرحب به حتى اليوم في ألمانيا من ذاك الإرث والثأر الاستعماريين اللذين يلابسان علاقة الجزائر بفرنسا

فما بالك إذا توافرت للسورين بلاد تقرن الحرية بالعمل والكرامة الإنسانية، وبحقوق الإنسان وضمانات اجتماعية وصحية ومجانية تعليم وبرامج تأهيل مهني حديثة... وجنسية أوروبية؟
إنها سوريا الألمانية التي لا تزال تتكون وتتشكل. وليس هذا التحقيق إلا بداية لأخرى تستطلع فيها "المجلة" أوضاع سوريا الجديدة.

font change

مقالات ذات صلة