وفيما كان الزائر الفرنسي يتناول طعام عشائه وحيدا في الفندق، صادف أشخاصا أوروبيين جالسين إلى طاولة قريبة. تخيل أنهم ربما من أنصار الجبهة الشعبية الديمقراطية لتحرير فلسطين، التي كانت تربطها علاقة وطيدة بـ"الرفاق" اليمنيين الجنوبيين، وجاء أولئك الأوروبيون الشبان إلى عدن مدفوعين بحماستهم الثورية، ربما للانخراط في دورة تدريب عسكري تمكنهم من المشاركة في تحرير فلسطين أو مقاتلة الاستعمار والرأسمالية في بلادهم.
كل شيء كان يبدو غريبا، بل غرائبي، لمرمييه في أيامه العدنية القليلة. التقى في نادي البحارة ببحارٍ هندي، فحكى له كيف نجا من غرق سفينته في المحيط الهندي. وفي يوم آخر خلال تناوله الغداء في مطعم، اقترب منه رجل قال إنه من جهاز الأمن السياسي، واقترح عليه أن يصرف له عملة صعبة.
على خلاف نساء عدن السافرات، كانت النساء سافرات وغير سافرات تتخالطن في صنعاء. وبعض الرجال العدنيين كانوا يحتسون البيرة والكحول في العلن، لكن كان يمتنع عليهم تخزين القات إلا في عطلة نهاية الأسبوع، على خلاف الحال في الشمال: امتناع تناول الكحول إلا في السر والخفاء، شيوع تخزين القات في أيام الأسبوع كلها.
وفيما كانت مدن الشمال تكثر فيها السيارات والسلع الاستهلاكية على أنواعها، ويظهر شيء من الحيوية في مشهد حياتها اليومية العامة، كان التقشف وندرة السلع وقلة السيارات عنوان مشاهد حياة عدن اليومية شبه الخامدة. لذا شعر مرمييه أن الشطرين المتجاورين اللذين لا يُسمح باجتياز حدودهما، مختلفين جدا رغم اشتراكهما في ذكر اليمن باسميهما، والصلات المتعددة التي كانت تربطهما مثل الروابط العائلية والتاريخية.
حروب الأمس في شمال اليمن وجنوبه
وروى مرمييه أن الحرب الأهلية التي نشبت في اليمن الشمالي (دامت سنوات بين 1962 و1970، نتيجة ثورة الجمهوريين على نظام الإمامية الملكية المغلقة، الذي كان موالوه من أحفاد الحوثيين في صعدة وصنعاء اليوم) نجمت عنها تغيرات كبرى، اجتماعية وثقافية وسياسية وديموغرافية، أدت أخيرا إلى إرساء نظام جمهوري في اليمن الشمالي.
أما في اليمن الجنوبي فنشأت سنة 1962 جبهة ضمت قوميين عربا ويساريين لتحريره من الاستعمار البريطاني. وبعد انسحاب القوات البريطانية منه سنة 7196، نشأ لحكمه مجلس رئاسي متباين الاتجاهات السياسية والعقائدية. وأخيرا تمكن يساريون ماركسيون لينينيون في عدن من إرساء نظام اشتراكي موالٍ للاتحاد السوفياتي، فاعتمد نظام التأميم والحزب الواحد المغلق والمسيطر على الدولة والمجتمع الذي لم يخل ولا خلا الحزب القائد من ولاءات مناطقية وقبلية.
وفي العام 1986 انفجر الصراع دمويا بين قادة حزب "الرفاق"، فحصد ألوف القتلى في حرب أهلية خاطفة، وفر من اليمن الجنوبي إلى شماله حوالي 20 ألفا من أنصار "الرفيق" القائد علي ناصر محمد، ما أدى إلى بداية انهيار نظام "رفاق" الحزب الاشتركي الحاكم.
صنعاء: قبلية ملجومة وجاليات مناطقية
أمضى فرانك مرمييه 9 سنوات في صنعاء بين 1983 و7199. درس تاريخ المدينة، تطورها، تحولاتها، توسعها العمراني والسكاني، ومجتمعها الحضري. كانت الدراسات اليمنية الأوروبية آنذاك تنصب على دراسة النظام القبلي الذي كان سائدا خارج صنعاء العاصمة. ذلك لأن الدولة الإمامية السابقة على الجمهورية والنظام الجمهوري كانت تعتمد على العصبيات القبلية، وحاول النظام الجمهوري الحد من نفوذ السادة الزيديين الذين كانوا يتمتعون بمرتبة اجتماعية عالية خلال الحكم الإمامي. وأوجد النظام الجديد نوعا من "إسلام مشترك" لم يتمكن من إلغاء معرفة الناس بمن هو زيدي ومن هو شافعي. وهذا من طريق اللهجة وشعائر الصلاة وسواهما من العلامات، على الرغم من أن اليمنيين الشماليين، بعد تكريس النظام الجمهوري، أخذوا يعيبون التمييز المذهبي في حياتهم وعلاقاتهم اليومية.
مسلحون حوثيون في أحد شوارع صنعاء بعد سقوطها عام 2014
وإذا كان التمييز المناطقي- دائما حسب مرمييه- هو الأبرز في الديار اليمنية كلها، شمالا وجنوبا، فإن القبلية ظلت حاضرة وقوية في الشمال. فالجمهوريون الذين انتفضوا على الإمامية بعد معاناة طويلة منها، وأدت انتفاضتهم إلى حرب أهلية (1962- 1970) كان بعضهم من شيوخ القبائل، مثل عبدالله الأحمر شيخ قبيلة حاشد، إلى جانب قوى قومية ويسارية. وعندما حاول الرئيس إبراهيم الحمدي (1943-1977)- كان رئيس أركان الجيش عندما نفذ انقلابا عسكريا سنة 1974 سماه "حركة تصحيحية" وتسلم رئاسة الجمهورية- مجابهة نفوذ شيوخ القبائل في مؤسسات الدولة والجيش، والاقتراب من الجنوب لإقامة نظام وحدوي، جرى اغتياله، لأن خطواته هددت مصالح شيوخ القبائل في الشمال. وسرعان ما آلت رئاسة الجمهورية إلى علي عبدالله صالح.
وفي كتابه "شيخ الليل" يستقرئ مرمييه تكوّن المدينة العربية الإسلامية وتوسعها انطلاقا من السوق والمسجد ومقر السلطة. هذه المكونات تخترقها البنية القبلية في صنعاء. فبعد انتهاء الحرب الأهلية في اليمن الشمالي سنة 1970، شيد عدد كبير من زعماء القبائل دارات لإقامتهم في صنعاء. وراح يحرسها مسلحون يرافقون الزعماء أثناء تنقلاتهم في المدينة. ثم إن الشيخ عبدالله الأحمر، رئيس البرلمان، وشيخ مشايخ قبائل حاشد، شيد سجنا خاصا قرب دارته، وأقام فيه العدالة وفقا للأعراف القبلية التقليدية.
ويرى مرمييه أن صنعاء كانت تحوطها القبائل، لكنها تتميز بتاريخ داخلي وتركيب اجتماعي حضري خاص بها وطورته على نحو بطيء. أما العصبيات القبلية في المجتمع الحضري الصنعاني فكانت ضعيفة وتوشك على الانمحاء. قد يقول الصنعاني أنا من أصل قبلي ما قديم، لكنه لا يعول على نسبه القبلي. وهذا في مقابل حضور التمايزات المناطقية بحيوية لافتة. فصنعاء- كونها عاصمة الشمال وعاصمة دولة الوحدة بعد سنة 1990- كانت مرآة تنوع الانتماءات المناطقية في اليمن. فإلى الصنعانيين، هناك الوافدون من تعز وإب، ومن الجنوب وعدن وحضرموت، إضافة إلى الآتين من صعدة، وسواها من المحافظات التي تظل أسماؤها على كل شفة ولسان بين اليمنيين، على نحو لا يقاس بخفوت الإعلان الصريح عن النسب القبلي.
ولاحظ مرمييه أن الانتماءات المناطقية ظلت بارزة بوضوح، لذا لم يظهر في المجتمع المديني الصنعاني خلال أكثر من نصف قرن نموذج ثقافي عام، بل ظل سكان المدينة موزعين وفقا لنماذج ثقافية متباينة.