معرضان للكتاب في بغداد: انقسام ثقافي إزاء تحديات الاقتصاد

تشتت الزوار وشحّ الموارد

معرضان للكتاب في بغداد: انقسام ثقافي إزاء تحديات الاقتصاد

بغداد: في دورته الرابعة والعشرين، التي امتدت على مدار عشرة أيام (18 سبتمبر/ أيلول-27 سبتمبر)، حمل معرض بغداد الدوليّ للكتاب معه السؤالَ المتكررَ ذاتَهُ، كل سنة، عن دور معارض الكتاب في صناعة فعل القراءة، في ظل انقسام إدارة النشر في البلاد وتحديات الواقع الاقتصادي الراهن.

وشارك في دورة هذا العام التي أقيمت على أرض المعارض بحي المنصور، مركز العاصمة بغداد، 350 دار نشر توزّعت على 14 دولة عربية ودولتين أجنبيتين هما تركيا وإيران، في ما اختيرت المملكة المغربية ضيفة شرف لهذا العام، وضمّ جناحها مشاركة فعّالة مع استضافة كتّاب مغاربة بارزين مثل سعيد بنكراد وسعيد ناشيد.

وحفلت أيام المعرض ببرنامج موسّع للندوات الثقافيّة والمحاضرات والأماسي التي أحيتها مجموعة كبيرة من الأسماء العراقية في الفكر والاقتصاد والسياسة والفن والإعلام نظّمها البرنامج الثقافيّ في المعرض بالتعاون مع جامعات حكومية وأهلية ومنظمات مجتمع مدني. وحاول المنظمون إضفاء زخم على المعرض باستقدام أسماء عربية معروفة لتشجيع الجمهور على زيارة المعرض فكانت لقاءات مباشرة مع الفنان أحمد أمين والإعلامي محمود سعد، والكاتب زهران القاسمي، والكاتب عمر طاهر، والسيناريست أحمد عاطف، والمغنية فايا يونان.

وشهدت دورة المعرض مبادرات تنشيطية تهدف إلى تحريك سوق الكتاب الذي شهد تراجعا جرّاء الأزمة الاقتصادية وارتفاع سعر الدولار والتحديات المعيشية مع بدء موسم الدراسة، فقدّمت اللجنة المنظمة أجنحة مجانية في المعرض للكتّاب العراقيين ممن طبعوا كتبهم على حسابهم الخاصّ في مطابع أهلية من دون دار نشر. فضلا عن تقديم مساحات مجانية لعرض أعمال تشكيلية لفنانين عراقيين دعما وتعزيزا لثقافة الاقتناء والعرض أمام الجمهور.

تقف المدة القصيرة بين المعرضين عائقا أمام مشاركة عربية فعّالة، فدور النشر لا تستطيع أن تشحن كتبها وتدفع رسوم الجمرك وبدلات تأجير الجناح الى الدولة ذاتِها، والجمهور ذاتِه من القرّاء، مرتين في السنة

وقدّمت وزارة الشباب والرياضة العراقية مبادرة "اقرأ" التي تضمّنت توزيع قسائم مجانية بقيمة (25000) دينار عراقي (19 دولارا) لجمهور المعرض من أعمار (12-35) سنة. ولاقت المبادرة إقبالا واسعا من الزوّار وترحيبا من الناشرين، كما أعلن رئيس الوزراء العراقي عن دعمها حتى اليوم الأخير من المعرض.

 

منافسة أم تشتّت؟

وتباينت آراء رواد المعرض ممّن التقتهم "المجلة" حول دورة هذا العام، فبعضهم اشتكى من ارتفاع الأسعار الواضح، وغياب دور نشر معروفة، وضعف الخدمات العامّة. في حين رأى آخرون أن تعدّد المعارض في مدينة واحدة أمر إيجابي يخلف المنافسة بين المؤسّسات الثقافية ويوفّر للقرّاء خيارات متعدّدة. قرّاء ذهبوا إلى أن الانقسام الحاصل سبب عزوف دور النشر العربية المعروفة عن القدوم الى العراق والاكتفاء بإعطاء توكيلات محدودة، وبالتالي، خسارة الكتب النوعية.

ويمكن القول إن واقع معارض الكتاب في العراق انعكاس للواقع السياسيّ، إذ انتقلت حمى الصراع والانقسام إلى الإدارات المعنية بإقامة معارض الكتب. حتى باتت بغداد، المدينة العربية الوحيدة التي تملك معرضين دوليين للكتاب هما: "معرض بغداد الدولي"، و"معرض العراق الدولي".

 

 

والقصة باختصار أن في العراق مؤسّستين مختصتين بشؤون النشر وتنظيم معارض الكتاب هما اتحاد الناشرين العراقيين، وجمعية الناشرين والكتبيين في العراق. تُنظّمُ الأولى معرضَ بغداد الدولي للكتاب ومعارض النجف وكربلاء والسليمانية (بشكل جزئي)، وتنظّمُ الثانيةُ معرض العراق الدولي للكتاب (بغداد) ومعارض أخرى في أربيل والبصرة. والمؤسستان مختلفتان في الرؤية وفي الجهات الداعمة لهما، وقد تبادلتا غير مرة البيانات والاتهامات. هذان الانقسام والتشتت انعكسا على واقع معارض الكتاب في العراق، وبالأخص في العاصمة بغداد، التي صار لها معرضان دوليان، تفصل بينهما ستة أشهر فقط.

تقف المدة القصيرة بين المعرضين عائقا أمام مشاركة عربية فعّالة، فدور النشر لا تستطيع أن تشحن كتبها وتدفع رسوم الجمرك وبدلات تأجير الجناح الى الدولة ذاتِها، والجمهور ذاتِه من القرّاء، مرتين في السنة. فالأمر غير مُجْدٍ ماديا، فضلا عن تعذّر تقديم عناوين جديدة للجمهور في مدة قصيرة كهذه. هذا إذا استثنينا تداخل مواعيد المعرضين مع المعارض العربية في موسم المعارض (موعد معرض بغداد الحالي تداخل مع موعد معرض عمّان الدولي للكتاب). الأمر تطور إلى "تكتّلات نشريّة"، فبعض دور النشر العربية تُقاطِع منذ عامين معرض بغداد الدولي لارتباطها، مهنيا، مع "مؤسّسة المدى للثقافة والفنون" التي تنظّم معرض العراق الدولي، والعكس صحيح.

 

فرصة

سألنا الروائي والشاعر زهران القاسمي، الحائز على الجائزة العالميّة للرواية العربية (بوكر) لهذا العام عن الدور الذي تلعبه معارض الكتب في تعزيز فعل القراءة في مجتمعاتنا العربية، فقال لـ"المجلة": "واحدة من الأشياء المهمة في الفترة الأخيرة وجود معارض الكتب المتنقلة دوليا من مكان إلى آخر ومشاركة عديد دور النشر فيها، مما يعطي القراء فرصة أن يلتقوا وجها لوجه مع دور النشر، لأنني لا أعتقد أن المكتبات، في أي مكان، تستطيع أن تحتوي على جميع الكتب الموجودة في دور النشر العربية. معارض الكتب بوابة أمام القارئ لكي ينتقي الكتب التي يحبها، وقد تستهويه بعض الكتب التي لم تكن موجودة في المكتبات، وسيجدها في معارض الكتب. كما أن دور النشر في المعارض تأتي بما هو جديد على الساحة وهو أمر غير متاح إلا من خلالها".


معارض الكتب بوابة أمام القارئ لكي ينتقي الكتب التي يحبها، وقد تستهويه بعض الكتب التي لا يجدها في المكتبات، كما أن دور النشر في المعارض تأتي بما هو جديد على الساحة وهو أمر غير متاح إلا من خلالها


زهران القاسمي

وعن معرض بغداد قال القاسمي: "أزور معرض بغداد الدولي لأول مرة، ورأيت الجمهور الكبير جدا الذي يرتاد المكان، وهو دليل كبير على أهمية القراءة والكتاب، ودليل على ثقافة المجتمع. التقيت الكثير من القرّاء الذي قرأوا روايتي الأخيرة 'تغريبة القافر'، وسرّني أن الجلسة الحوارية الخاصة بمناقشة الرواية ازدحمت بمن جاء خصيصا الى المناسبة، وقد شارك بعضهم بمداخلات. أحاطني الجميع بالمحبة في كل مكان، وكانت الأجواء إيجابية وأشعرتني بامتنان كبير".

الناشر مصطفى ضعون، عن دار "المعارف الحكمية"، قال إن دورة هذه السنة جيدة، "مع اختلافات نسبية تخص المبيعات ونوعية القراءة". وأضاف ضعون: "التنظيم جيد، رغم بعض الملاحظات البسيطة حول توزيع الأجنحة وتقسيمها بين الدور المشاركة، لكنني أعتبر المشاركة إجمالا ناجحة في ظل تعاون المنظمين، كما أن دعم القراء الشباب بقسائم شراء مجانية أسهم برفع مبيعات المعرض بصورة لافتة".

ويستدرك ضعون: "ولكن على مستوى الإقبال، فهو أقلّ من الدورات السابقة، وأقل ممّا هو معتاد عن معارض الكتب في العراق. أعتقد أن الإقبال على الكتب في تراجع سنة بعد سنة هنا، كما أن نوعية القراءة بدأت تختلف. الكتب النوعية تشهد تراجعا. معروف أن الجمهور العراقي مهتم بفئات واسعة من الكتب الجادّة، وبالأخص الفكريّة والفلسفيّة والدينيّة والعلمية. إلا أنّ هذه الفئات تعاني في السنتين الأخيرتين وصارت مبيعاتها، في بغداد، تشابه مستوياتها في باقي الدول العربية".

ويختتم ضعون بالقول إن وجود معرضين في مدينة بغداد أسهم في تشتيت الجمهور، وتوزيعه عليهما، فهناك جمهور معرض بغداد وجمهور معرض العراق، ونسبة ثالثة جمهور مشترك بين المعرضين. وبغض النظر عن الروح التنافسيّة واجتهاد كل مؤسسة بتقديم التسهيلات والخدمات للمشاركين، وأيهما أنجح في ذلك، لكن، بالنتيجة، الجمهور موزّع. وجمهور القراءة في العراق اليوم لا يتحمّل التوزيع والتشتّت، وهو أمر ليس في صالح الناشر ولا المدينة ولا الفعالية ذاتها".

 

ضعف القوة الشرائية

يقول غسان حسين، من "دار غيداء" الأردنيّة للنشر والتوزيع إن معرض بغداد الدولي للكتاب "معرض ناشئ وجديد على خارطة المعارض العربيّة، وبالتالي لا يمكن مقارنته بباقي المعارض العربية التي تحظى باهتمام كبير من وزارات التربية والتعليم والثقافة في دولها، كما أنها قطعت شوطا في مجال الخبرة بالتنظيم وتجاوز الأخطاء عبر تجربتها المتراكمة. أظن أن على الحكومة العراقية والوزارات المعنية أن تدعم المعرض بحيث يكون هناك زيارات من قبلها وشراء للكتب لصالح مكتبات المدارس والجامعات، وحثّ الجامعات على اقتناء الكتب العلمية والأكاديمية".

ويضيف حسين: "ما لاحظته العام الحالي ضعف القوة الشرائية للزوار، ولا أدري إن كان ذلك بسبب انخفاض قيمة العملة العراقية في الفترة الأخيرة أمام الدولار الأميركي، خاصة أن مستوى الأسعار التي نعرضها معقول جدا وفي المتناول، وهناك تخفيضات مستمرة، كما أنني ألاحظ شح في تواصل المؤسسات الثقافية المختصة في العراق مع فعاليات المعرض". ويختم حسين قائلا: "على مستوى التنظيم هناك تطور واهتمام ومتابعة من اللجان المنظمة، كما لا يوجد عراقيل في دخول الكتب الى العراق، ولا رقابة أو منع أو حظر لعناوين".

يرى عاصم الشريف من "المكتبة العصريّة" و"الدار النموذجيّة" في لبنان أن معرض بغداد من أهم المعارض العربية "لناحية الطلب على الكتاب بكافة المجالات، الثقافيّة والعلميّة والأكاديميّة". ويضيف: "نحن من الدور التي تشترك في معرض بغداد منذ دورته الأولى، إذ تعوّدنا على الجمهور العراقيّ المميز بثقافته وحبه للكتاب. العوائل هنا تعامل المعرض وكأنه كرنفال شعبي وطقس احتفائي يُقتَنى فيه الكتاب للطفل والشاب والشيخ باهتمامات متنوعة".

واقع معارض الكتاب في العراق انعكاس للواقع السياسيّ، إذ انتقلت حمى الصراع والانقسام إلى الإدارات المعنية بإقامة معارض الكتب. حتى باتت بغداد، المدينة العربية الوحيدة التي تملك معرضين دوليين للكتاب

من جانبه، اعتبر الشاعر شبّر وجيه أن قيام أكثر من معرض للكتاب في بغداد أمر إيجابي "لإتاحته عددا أكبر من دور النشر العربية للقارئ العراقيّ الذي يفضل الدور العربية بطبيعة الحال لأن كتب الدور العراقية متوافرة طوال العام في شارع المتنبي".

ويضيف وجيه بأن دور النشر العربيّة المهمة قليلة هذه السنة، وقد اكتفت بمنح وكالات لدور عراقية وشحن عناوين محدودة بسبب المصاريف التي يخسرونها كل سنة عند مشاركتهم. كما أن أغلب الإصدارات الجديدة لم ترسل إلى العراق بسبب مشكلات ماليّة، وهنا فإن الحل الوحيد أمام القارئ طلب الكتاب عبر الإنترنت متحملا فرق الوقت والكلفة".

ويتابع وجيه بالقول: "أكثر ما أفرحني هو قيام مدارس عراقية حكوميّة وأهليّة بتنظيم زيارات لطلبتها إلى المعرض، وتجوالهم بين الكتب، ومحاولة صنع علاقة مع فعل القراءة والمعرفة، وقد لاحظت ارتفاعا نسبيا في أعداد الناشئة والشباب الذين يناقشون ويسألون النصيحة عن كتاب يناسب توجهاتهم. أما الملاحظة السلبية فهي ارتفاع أسعار الكتب التي يبررها الناشر العربي والعراقيّ بارتفاع بدلات الإيجار، ما يعني أن تكاليف الايجار سيتحملها القارئ في النهاية وهذا سبَّب تراجعَ الإقبال على الشراء فضلا عن الصعوبات المادية".

وكانت اللجنة المنظمة قد مدّدت فعاليات المعرض يومين إضافيين لمنح وقت أكبر للزوار وللإقبال الكبير بحسب بيان أصدرته.

font change

مقالات ذات صلة