عمليات جاسوسية خلّدها التاريخ… من "غضب الربّ" إلى "جوبريكر"

سلسلة وثائقية جديدة على "نتفليكس"

عمليات جاسوسية خلّدها التاريخ… من "غضب الربّ" إلى "جوبريكر"

في مسرحية "مغامرة رأس المملوك جابر" للراحل سعد الله ونوس (1941 - 1997)، ينشأ صراع حاد بين الخليفة وأحد وزرائه، فيسعى الأخير للاستعانة بملك العجم للاستحواذ على السلطة، لكن إيصال رسالة لطلب الاستنجاد دونه مخاطر جمة، في ظل إجراءات التفتيش المشدّدة على كل مداخل مدينة بغداد ومخارجها. يلجأ الوزير إلى كتابة الرسالة على رأس المملوك جابر بعد حلق شعره، ثم ينتظر فترة حتى ينمو شعره من جديد فيخرج من المدينة آمنا، ليصل إلى ملك العجم الذي يقرأ الرسالة بسهولة بعد حلق شعر المملوك من جديد.

هذه الحيلة التجسسية الماكرة لا تنتهي هنا، بل تطيح برأس المملوك الذي لم يكن يعلم أن خاتمة الرسالة الموجهة لملك العجم تتضمّن جملة قاتلة: لكي يظل الأمر سرا بيننا، اقتل حامل الرسالة من غير إطالة.

هذه المسرحية تعدّ أبرز مثال على أن التجسس، بما ينطوي عليه من مكر ودهاء وخديعة، هو نشاط قديم، قدم ظهور تلك النزعة نحو السلطة والنفوذ لدى البشر، إذ ظهر هذا النشاط منذ آلاف السنين واستُخدم في مختلف الأوقات لأغراض مثل التجارة، والاستخبارات العسكرية، والسياسة، والأمن القومي، فقد استخدم الرومان والاغريق الجواسيس لمراقبة المستعمرات والمناطق الحدودية وجمع المعلومات حول أعدائهم المحتملين، كما تميزت الصين القديمة بممارسة التجسس وجمع المعلومات السرية للمحافظة على الأمن والتجارة، ولجأ نابليون بونابرت إلى الاستعانة بالجواسيس في فترة حروبه.

ولعل الحقبة التي شهدت أنشطة تجسس مكثفة هي حقبة الحرب الباردة (1947-1991) بين الولايات المتحدة والاتحاد السوفييتي اللتين خصصتا ميزانيات ضخمة لأجل هذا النشاط، فكل طرف كان يستعد لمحاربة الآخر، فأصبحت المعلومات سلعة أساسية، وبلغ الهوس بتطوير تقنيات التجسّس حدّ استخدام الطيور والقطط والدلافين للقيام بمهمات تجسسية، ناهيك عن جيش من الجواسيس والعملاء، قد تحقق التفوّق لهذا الطرف أو ذاك في حال نشوب حرب فعلية.

في ظل التكنولوجيا المتطورة، لا يزال التجسس يتمتع بالأهمية نفسها، فلم يختلف شيء في هذا الحقل سوى الأساليب والطرق المتبعة، إذ تطوّرت أدوات هذه الممارسة من الحمام الزاجل إلى الذكاء الاصطناعي

في الوقت الراهن، وفي ظل التكنولوجيا المتطورة، لا يزال التجسس يتمتع بالأهمية نفسها، فلم يختلف شيء في هذا الحقل سوى الأساليب والطرق المتبعة، إذ تطوّرت أدوات هذه الممارسة من الحمام الزاجل إلى الذكاء الاصطناعي، فقبل أشهر قليلة دار حديث متواتر بين الصين وواشنطن حول التجسس إثر ظهور المنطاد الصيني في سماء الولايات المتحدة، فضلا عن أخبار مماثلة حول لعبة الجاسوسية بين إيران وإسرائيل مثلا أو بين موسكو والغرب. وبهذا المعنى فإن الدول لا تستطيع ان تستغني عن التجسس الذي يلعب دورا حاسما في نجاح أي مهمة، كما يظهر في السلسلة الوثائقية "عمليات جاسوسية"(spy ops) الذي تعرضه منصة "نتفليكس".

تعدّ السلسلة المؤلفة من ثماني حلقات، واحدة من بين مئات بل آلاف الأفلام والمسلسلات والروايات التي عالجت موضوعة الجاسوسية، أو استندت إلى وقائع وأحداث كان للجاسوسية الدور الأبرز فيها، وفي هذه السلسلة نتعرف على وقائع محدّدة، تظهر أن الاغتيالات والعمليات العسكرية تسبقها بفترة طويلة عمليات تجسس تهدف إلى انجاز المهمة من دون أخطاء.

كل حدث يتعلق بالجاسوسية يحمل طابعا تشويقيا، كما نلاحظ في هذه السلسلة التي تستضيف الكثير من السياسيين والضباط والخبراء والباحثين، كما تستعين بأرشيف هائل من الوثائق والمقاطع المصورة والمانشيتات الصحافية، فضلا عن مشاهد تمثيلية درامية أنجزت خصيصا للسلسلة بغرض توضيح هذه الواقعة أو تلك، على نحو يجعل من هذه السلسلة الوثائقية عملا يثير الفضول من جديد، دون أن يترك مساحة للملل، إذ تصحب المشاهد إلى عوالم أجهزة المخابرات السرية وما يجري خلف الكواليس والغرف المغلقة، وكيف تصنع قرارات الموت، فعالم الجاسوسية، بما يتضمنه من حذر وحرص ومؤامرات وخداع، تغري دائما بالمتابعة، ومعرفة المزيد من التفاصيل.

 

عملية "غضب الرب"

تخصص السلسلة حلقتين عن عملية "غضب الرب"( Wrath of God) الإسرائيلية، التي استهدفت قادة من منظمة "أيلول الأسود" الفلسطينية، والتي اتهمت بقتل 11 رياضيا اسرائيليا في 5 سبتمبر/أيلول عام 1972 خلال دورة الألعاب الأولمبية في ميونيخ بألمانيا، تلك العملية التي تناولها الكثير من الأفلام الوثائقية والروائية لعل أبرزها فيلم "ميونيخ" في عام 2005 للمخرج الأميركي ستيفن سبيلبرغ.

أطلقت رئيسة الوزراء الاسرائيلية، آنذاك، غولدا مائير هذه "العملية الانتقامية"، وأمرت بتشكيل "فرقة اغتيال" لتشرع في التصفيات التي بدأت باغتيال وائل زعيتر، ممثل منظمة التحرير الفلسطينية في روما، في أكتوبر/تشرين الأول من عام 1972، ثم استُهدف محمود الهمشري، ممثل المنظمة في باريس، في ديسمبر/كانون الأول من العام نفسه، وخلال الأشهر التالية اغتيل آخرون بينهم باسل الكبيسي وحسين البشير ومحمد بودية.

وفي أبريل/نيسان 1973، وضع رئيس الوزراء الإسرائيلي السابق إيهود باراك (كان قائد وحدة النخبة في الجيش الإسرائيلي) خطة جريئة لاستهداف قيادة منظمة التحرير الفلسطينية، تضمنت، عبر عمليات تجسس معقدة يشرحها بارك بنفسه كضيف في هذا الوثائقي، عملية إنزال برمائية لمجموعة إسرائيلية في بيروت، هاجمت أحد المقار الفلسطينية حيث قتل محمد يوسف النجار وكمال عدوان وكمال ناصر.

هذا القتل بالتسلسل، توقف في يوليو/ تموز 1973 بسبب ضغوط أوروبية عندما قتلت فرقة الاغتيالات الإسرائيلية بالخطأ رجلا مغربيا في مدينة ليلهامر بالنرويج لمجرد أن ملامحه تشبه ملامح القيادي البارز في حركة فتح علي حسن سلامة، الذي ظل على رأس قائمة المستهدفين حتى تاريخ اغتياله في يناير/كانون الثاني 1979 بسيارة مفخخة في بيروت، بعد استئناف عملية "غضب الرب".

ووفقا للوثائقي، فإن حسن سلامة كان مستهدفا بقوة من الموساد، فقد كان قياديا من طراز رفيع ومسؤولا عن الحماية الشخصية للزعيم ياسر عرفات، وكان له دور في وصول عرفات إلى الجمعية العامة للامم المتحدة في نيويورك وإلقاء كلمته الشهيرة في 1974 بعد ان فتح قنوات سرية مع وكالة الاستخبارات الأميركية التي نظمت ومولت تكاليف شهر عسل لسلامة وزوجته اللبنانية، ملكة جمال العالم، جورجينا رزق، في الولايات المتحدة.

غابت عن السلسلة حادثة اغتيال الروائي والسياسي الفلسطيني غسان كنفاني والتي سبقت عملية ميونخ بنحو شهرين فقط، وهو ما يعني ان الاغتيالات التي نفذتها إسرائيل ضد الفلسطينيين لا تقتصر على عملية "غضب الرب"


ويقدّم كل من الكاتب الفلسطيني صقر أبو فخر والسياسي والمحامي اللبناني كريم بقرادوني في هذه السلسلة الوثائقية شهادات عن حسن سلامة الذي تحلّى بالكثير من الصفات القيادية، واستطاع أن يكسر الصورة النمطية للمناضل الفلسطيني، إذ كان يتمتع بمهارات دبلوماسية ويتكلم لغات أجنبية ويستمع لفرانك سياترا ويمارس الرياضة ويحب الحفلات والسفر، وكان محبوبا من دوائر الغرب، وهو ما جعله هدفا رئيسا للموساد حتى تاريخ اغتياله.

وغابت عن السلسلة حادثة اغتيال الروائي والسياسي الفلسطيني غسان كنفاني والتي سبقت عملية ميونخ بنحو شهرين فقط، وهو ما يعني ان الاغتيالات التي نفذتها إسرائيل ضد الفلسطينيين لا تقتصر على عملية "غضب الرب" فحسب، بل سبقت ذلك وتلتها، وثمة أمثلة لا تحصى عن فلسطينيين قتلوا بيد الموساد، علما أن أبو فخر يؤكد، خلال شهادته، أن الهدف من عملية ميونخ لم يكن قتل الرياضيين الإسرائيليين على الإطلاق، بل الاكتفاء بأخذ بعضهم كرهائن من أجل الضغط على إسرائيل لإطلاق سراح المئات من العرب والفلسطينيين في سجونها.

ولا بد من إشارة أخيرة، هنا، وهي أن الإفلام الغربية التي تتناول الصراع الفلسطيني الإسرائيلي، كما الحال في هذه السلسلة، تتغاضى، غالبا، عن السياق التاريخي والسياسي المؤلم لهذا الصراع لتظهره على أنه مجرد مواجهة بين مجموعة من "المارقين الفلسطينين" وبين إسرائيل التي تدافع عن حقها في الوجود،  وهو اختزال مجحف بحق الشعب الفلسطيني، بالنظر إلى المظالم والعذابات التي تعرض لها منذ نكبة 1948 وحتى اللحظة.  

 

عملية "القضية العادلة"... اصطياد حليف سابق

من فلسطين تقودنا السلسلة إلى بنما التي غزتها الولايات المتحدة في 19 ديسمبر/كانون الأوّل 1989، بأكثر من 20 ألف جندي، بعد توتر العلاقات بينهما، من أجل اعتقال الرئيس البنمي الجنرال مانويل نورييغا في عمليةٍ أطلق عليها اسم "القضية العادلة " (Just Cause).

كان الجنرال نورييغا (1934 ـ 1917) حليفا لواشنطن ويتلقى راتبا من وكالة المخابرات المركزية الأميركية، إذ كان يساعدها في الحدّ من المد الشيوعي  في أميركا الوسطى، لكن يبدو أن نورييغا، بحسب تلميح السلسلة، لم يكن "تلميذا نجيبا" على الدوام،  فقد انخرط خلال السبعينات في تهريب المخدرات، وهو الأمر الذي جعل العلاقة بين الجنرال البنمي والمخابرات الأميركية تسوء، لكن بعد وصول الحكومة الماركسية الساندينية إلى السلطة في نيكاراغوا عام 1979، تحسّنت العلاقة مجددا بين الطرفين قبل أن تتوتر بحلول عام 1985.

تهمة المخدرات وتزوير انتخابات 1989 كانت الذريعة التي أثارت حفيظة واشنطن التي قرّرت التخلص من الحليف السابق، لكن الأرجح هو أن مهمة نورييغا انتهت، فوضعت الولايات المتحدة خططاً جدية للإطاحة به، فكانت عملية "القضية العادلة" التي حوّلت مدينة بنما إلى ساحة معركة. لجأ نورييغا إلى سفارة الفاتيكان في بلاده، وأمضى فيها 11 يوما، وسط أجواء مضطربة، قبل أن يعلن استسلامه في 3 يناير/كانون الثاني 1990، وانتهت العملية باعتقاله، ونقله للأراضي الأميركية حيث حُوكم بتهمة تجارة المخدرات، وحُكم عليه بالسجن 40 عاماً قضى منها 17 سنة خلف القضبان، ثم ذهب الى فرنسا ليعود الى بلاده مقيما رهن الإقامة الجبرية في بنما حيث توفي عام 2017، عن عمر يناهز 83 عاماً.

 

محاولة اغتيال البابا

تستعيد إحدى حلقات السلسلة تفاصيل محاولة اغتيال البابا يوحنا بولس الثاني في 13 مايو/أيار 1981 الذي أصيب بطلق ناري من قبل التركي محمد علي آغا الذي ألقي القبض عليه في الحال وحكم عليه بالسجن مدى الحياة، قبل أن تصدر إيطاليا عفوا عن آغا عام 2000 وتسلمه لتركيا حيث سجن، كذلك، بتهمة قتل صحفي عام 1979 وجرائم اخرى، وأفرج عنه عام 2010.

وكان البابا زار آغا في سجنه الإيطالي وصفح عنه في عام 1983، واللافت انه وبعد 31 عاما من الواقعة، أي في العام 2014 زار الآغا ضريح البابا ووضع الزهور على قبره، وهو ما يضفي على الواقعة بعدا "ميلودراميا" يصعب تفسيره، تماما مثلما بقيت محاولة اغتيال البابا الذي توفي عام 2005 غامضة ومحاطة بالكثير من الشكوك والتساؤلات حول الجهة الحقيقية التي أصدرت الأمر للآغا الذي يطل في هذا الوثائقي ليزيد الغموض غموضا، إذ كرر أنه اراد أن يقدم على عمل فردي يذكره التاريخ، فكل ما عرف عن الآغا أنه نشأ في بيئة تركية متواضعة وكان عضوا ذات يوم في منظمة "الذئاب الرمادية" التركية المتطرفة.

ولم تصل التحقيقات حتى يومنا هذا لفك اللغز، لكن ثمة العديد من النظريات حول محاولة الاغتيال، تقول إحداها إن الأمر صدر من موسكو، فالمخابرات السوفيتية الـ (كي جي بي) أوعزت إلى الدوائر السرية البلغارية والألمانية الشرقية للقيام بالمهمة، ولعى الرغم من أن هذه التعلميات الروسية لاغتيال البابا جاءت بسبب دعمه لحركة تضامن بولندا التي ظهرت، مطلع الثمانينات، كحركة مناوئة للشيوعية، وهو ما اعتبرته موسكو تهديدا للهيمنة السوفياتية في أوروبا الشرقية.

آغا نفسه وخلال المحاكمة وما تلاها أدلى بتصريحات متضاربة متعدّدة بشأن الاغتيال في أوقات مختلفة، وعلق أحد المحامين الإيطاليين: "لقد تلاعب بنا جميعا، وروى مئات الأكاذيب، وغير أقواله باستمرار مجبرًا إيانا على فتح عشرات التحقيقات المختلفة".

وستظل محاولة اغتيال البابا أحد أكثر الألغاز غموضا في تاريخ الجاسوسية، والعمليات الاستخبارية، وقد لا تتكشّف خيوطها قبل مرور وقت طويل، كما يلمح الوثائقي.

 

عملية أزوريان... التجسس في أعماق المحيط

مشروع أزوريان Project Azorian هو مشروع سري لوكالة المخابرات المركزية الأميركية وضع في مطلع سبعينيات القرن الماضي بهدف استخراج غواصة روسية تعرف باسم "ك-129" من قاع المحيط الهادئ، والحصول على معلومات استخباراتية من الغواصة الروسية التي كانت قد غرقت في المحيط الهادئ عام 1968 على بعد 2,600 كم تقريبا شمال غرب هاواي.

ومشروع أزوريان كان واحدا من أكثر المشاريع كلفة خلال الحرب الباردة، إذ بلغت تكلفتها 800 مليون دولار، آنذاك، بعد بناء سفينة ضخمة خاصة للقيام بهذه المهمة التي نجحت في استخراج جزء من الغواصة فقط.

لعب غورديفسكي أدوارا هامة حتى قيل إنه "الرجل الذي منع الحرب العالمية الثالثة"، بعد أن نجح في نقل حقيقة الحالة النفسية الجامحة للزعماء السوفييت، في ثمانينات القرن الماضي

كان السوفييت يراقبون الموقع الذي غرقت فيه الغواصة لذلك أجريت العملية سرا وأعلنت واشنطن أن السفينة هي للتنقيب في مياه البحر عن النفط، وهي ملك لرجل الأعمال الملياردير هاورد هيوز، لكن كان ذلك مجرد غطاء لأحد أعقد العمليات التجسسية لـ (السي آي إي) التي استعانت بشبكات السماعات المائية التابعة لنظام المراقبة الصوتية الأميركي في المحيط الهادئ، وحددت الموقع الذي غرقت فيه الغواصة، بعد عجز السوفييت عن ذلك، وأرسلت فريقا في مهمة للتصوير في أعماق المحيط.

 

وبناء على هذه الصور اقترح وزير الخارجية الأسبق هنري كيسنجر (كان مستشار الأمن القومي حينئذ) في 1970 خطة سرّية لانتشال الحطام، لتدرس الولايات المتحدة تقنيات الصواريخ النووية السوفييتية، وللحصول المحتمل على مواد التشفير، في واقعة تجسّسية حافلة بالتفاصيل عن المدى الذي يمكن أن تصل إليه الدول في سبيل الكشف عن أسرار الخصم ومناوراته.

 

غورديفسكي... التجسس لانقاذ جاسوس

قد لا يكون اسم أوليغ غورديفسكي الجاسوس الروسي الذي عمل لصالح المخابرات البريطانية معروفا كثيرا في عالم الجاسوسية، غير أن لهذه السلسلة رأي آخر في حلقة خصصت له، وأظهرت كيف أن غورديفسكي لعب أدوارا هامة حتى قيل إنه "الرجل الذي منع الحرب العالمية الثالثة"، بعد أن نجح في نقل حقيقة الحالة النفسية الجامحة للزعماء السوفييت، في ثمانينات القرن الماضي، إلى زعماء الغرب الذين تجنبوا، على ضوء تقارير غورديفسكي، التصعيد والتزموا بضبط النفس.

حامت الشكوك لدى موسكو بشأن سلوك غورديفسكي الذي كان يمارس عمله الاستخباراتي في لندن فاستدعته إلى البلاد وتعرّض لاستجواب غير رسمي تحت تأثير نوع من المخدر، لكن الاستخبارات البريطانية كانت قد وضعت خطة مسبقة لاخراج عميلها من الاتحاد السوفييتي في حال وقع المحظور، وأطلقت على الخطة اسم عملية بيمليكو (Operation Pimlico)، التي نتعرف على تفاصيلها المعقدة في حلقة تحمل اسم الخطة التي أنجزت بنجاح، إذ تمكنت المخابرات البريطانية من تهريب عميلها في الصندوق الخلفي للسيارة في يوليو/تموز من عام 1985، عبر الحدود السوفيتية الفنلندية، ونجح القائمون عليها في تشتيت انتباه الكلاب البوليسية السوفيتية على الحواجز باستخدام حفاض طفل مستعمل وعلبة من الجبن وشرائح البصل.

كان غورديفسكي معجبا بالقيم الغربية، وساهم سحق السوفييت ربيع براغ في 1968 في تغيير قناعاته كليا فراح يعرض خدماته على المخابرات الغربية، وقيل إنه رفض تلقي الأجر عن تجسسه.

وفي حين كان السوفييت يرونه خائنا، فإن الإعلام الغربي اعتبر أنه كان يخدم قضية عادلة وصائبة، وأن قراره بتسليم أسرار المخابرات الروسية إلى بريطانيا يعتبر "خيانة فاضلة"، وهو ما ينطبق على معظم الجواسيس، فلا حل وسطا في تقييم الجاسوس، فهو خائن وبطل في الآن ذاته، تماما مثل رأفت الهجان الذي وثق تجربته صالح مرسي في عمله الذي تحول الى مسلسل متقن، فهو في نظر المصريين والعرب بطل، أما من وجهة النظر الإسرائيلية فهو خائن، وكذلك الجاسوس الإسرائيلي ايلي كوهين، الذي عدّ بطلا اسرائيليا لكنه كان مخادعا وخائنا بالنسبة إلى السوريين الذين كشفوا سره، ليعدم بعد ذلك.

 

عملية جوبريكر وجواسيس طالبان

لأفغانستان وألاعيب التجسس التي مارستها وكالة الاستخبارات الأميركية في تلك البقاع البعيدة حيز في هذه السلسلة التي ترصد، خلال حلقتين، عمليتين لـ (السي آي إي) هما عملية "جوبريكر" (Jawbreaker) ، وعملية "جواسيس طالبان (Taliban Spies). الأولى هي الاسم الرمزي لعملية عسكرية أميركية "محدودة" تمت في أعقاب هجمات 11 سبتمبر/ أيلول 2001 في الولايات المتحدة، وتعتبر من المحطات الرئيسية في الحرب ضد تنظيم القاعدة والعمليات العسكرية الواسعة النطاق لاحقا، والثانية تكشف كيف أن عملاء الـ (سي آي إي) لجأوا إلى تجنيد بعض عناصر حركة طالبان من المجتمع المحلي وتسخيرهم عملاء لها.

كانت وكالة المخابرات الأميركية تعمل بدأب وتستميت عبر الكثير من الطرق والأساليب للحصول على المعلومات الاستخباراتية الحصرية، كما تشرح السلسلة، ففي تلك البيئة المجهولة بالنسبة إلى الأميركيين، كان التجسس نشاطا أساسيا لإنجاز المهمة على الوجه الأمثل، وقد نجحت المخابرات الأميركية وسط ذلك المجتمع الفقير والمتخلف في شق الصفوف واستخدام الخداع والمكر للوصول إلى مبتغاها، بعد ان غزته بنحو 60 ألف جندي خلال عهد الرئيس جورج دبليو بوش، واستمرت هذه الجهود في ما سمّي بمكافحة الارهاب لعقدين من الزمن حتى سحبت واشنطن قواتها من أفغانستان في أغسطس/ آب 2021، لتعود طالبان إلى السلطة، لكن عمليات التجسس الأميركية ستظل، على الأرجح، متواصلة في أفغانستان.

font change

مقالات ذات صلة