المرأة اللبنانية العاملة: ضريبة الأمومة ترتفع و"لا شكر على واجب"

إجحاف قانوني ونظرة اجتماعية ضيقة

Shutterstock
Shutterstock

المرأة اللبنانية العاملة: ضريبة الأمومة ترتفع و"لا شكر على واجب"

بيروت: قاسٍ ويستبطن لوما للذات، أن تختزل امرأة حياتها بكلمة "كليشيه" بسبب طبيعة عملها. ذلك كان ردّ الفعل الأول لأماني، امرأة ثلاثينية من لبنان وأم لطفلين ومعلّمة لغة فرنسية مولعة بعملها.

في هذا التفكير جانب لا يجافي الحقيقة، إن ربطنا الأفكار المسبقة بطبيعة مهنة التعليم التي تتصدّر الأعمال الخاضعة للتأنيث، التي على الرغم من محدودية مردودها وطبيعتها المتطلبة، تحتفظ بالقبول بل بالتمجيد الاجتماعي، كما أنّها تقحم المعلّمة في سلسلة من التوقعات المثالية التي تضاهي تلك المنسوبة إلى صورة الأم وأدوارها.

على الجانب المقابل من التصنيفات، تحتكر الصوابية السياسية المتعلقة بعمل المرأة العصريّة تعريفات معمّمة تقرّر أنّها ناجحة، وقوية ومستقلة: امرأة ببدلة رسمية، الشعر مرفوع أو قصير، نظرة جادّة إن لم تكن حادّة، مكتب، كومبيوتر محمول، عروض تقديمية، وحولها فريق عمل ممتنّ ومنتج. تمثّلات المرأة الإدارية والقيادية غير التقليدية تعمّمها الشاشات المحمولة في كلّ وقت، كأنها واحدة من بنود الرمز الأخلاقي للموجة الرابعة من النسوية، التي تعتمد بشكل أساسي على شبكات التواصل الاجتماعي لنشر خطابها ورفع الصوت.

 تكاد المرأة العاملة تنسى غايتها الشخصية من العمل، تلك التي تريد بلوغها بكامل إرادتها، خصوصا أنّ هذا "القمع" لخيارات نمط عيش الأمّهات والآباء أيضا، بات من أدوات صمود مئات آلاف العائلات في لبنان منذ انفجار الأزمة الاقتصادية


بين هذا القالب وذاك، تكاد المرأة العاملة تنسى غايتها الشخصية من العمل، تلك التي تريد بلوغها بكامل إرادتها، خصوصا أنّ هذا "القمع" لخيارات نمط عيش الأمّهات والآباء أيضا، بات من أدوات صمود مئات آلاف العائلات في لبنان منذ انفجار الأزمة الاقتصادية في خريف 2019. ففي نهاية المطاف، ماذا يجزي الأمّ، بفرديتها وكيانها الإنساني، بمعزل عن البيت والزوج والأولاد؟ ومَن يقيّم نجاح الأم العاملة وغير العاملة؟ وأين يشتغل تأثير الحراك النسوي الراهن في معادلات عمل الأم؟

 

تحدّي الرضى عن الذات

بعد تفكير وعلى مسافة زمنيّة من سؤالنا، لا يبدو تأثير العمل لأماني بتلك السوداويّة: "أجده متنفّسا. الخروج من المنزل ومخالطة الناس وتحقيق أثر في حياة التلامذة والمردود المادي الذي يضمن هامشا من الاستقرار في ظلّ ظروف اقتصادية مأزومة، هذه كلّها إيجابيّات لا يمكن التغاضي عنها وأعتقد أنّها تشكّل حوافز لغالبية الأمهات العاملات".

لكن الأعباء صنو حياة الأمهات، "حين يطالبني المجتمع بأن أكون قائدة ورائدة في كلّ الميادين وأنواع العلاقات، أمّا وزوجة وابنة وأختا وعاملة وصديقة، أغرق في دوّامة من السعي لتلبية التوقعات. وعوضا من الاستمتاع بتحقيق الذات، أجد نفسي في سباق مع الذات"، وفق أماني، موضحة أنّ تداعيات الضغط ثقيلة لجهة متطلبات التعليم، لأنه يحرمها من تمضية وقتٍ أطول مع أطفالها.

وسط هذه التحديات، شقّت سبيلها الى التوازن من خلال تحرير معايير الرضى عن الذات عن تلك التي يحدّدها المحيط: "حين أهنّئ نفسي على إنجاز مهما بدا صغيرا، لكنه يعني لي الكثير. وحين أؤمن أنّني بذلت كل ما في وسعي في المنزل وخارج المنزل. وحين أضع لنفسي أهدافا شخصية وأسعى إلى تحقيقها فأنجح. هذه أمور تحتاج إلى تدريب لكنها مُحرّرة وتعود عليّ بشعور متين من الرضى".

سحر رمال

من ناحيتها، تعتبر طبيبة الأسنان والأم لبنتين، سحر رمّال، أنّ الأمومة هي الحقل الذي لا يمكن أن يستعاض به عن المرأة، فـ"لو شغلت أهم المناصب، من الممكن أن يوجد بديل من هذه المرأة (أو ذاك الرجل) لملء المنصب، ولكن لا أحد يستطيع أن يحلّ مكاني خصوصا في أولى سنوات تكوين الأولاد. قد يستغرب البعض كلامي وقد أستغربه أنا عن نفسي، لكنّه حصاد تجاربي. ولنكن أكثر واقعيّة، كنت أملك هامشا من الحرية كوني أعمل في مهنة حرّة، وهذا ليس خيارا لدى جميع الأمّهات العاملات خصوصا في هذه الأزمة الاقتصادية، وهنا يتحوّل العمل إلى نوع من إنكار للذات وليس تحقيقا لها، وكم امرأة لبنانية تعيش هذا النمط القسري".

تضيف أنّ حيّزا كبيرا من الضغط النفسي تعيشه الأم العاملة في تناقضات تفكيرها بين الشائع والواقع. فثمة موروث اكتسبته من الدين، يفرض على الزوج "القوامة"، بما فيها تكفل مصاريفها على كلّ الصعد، وهذا ما يُشعر بعض النّساء العاملات خصوصا في البيئات التقليدية بنوع من العبء النفسي الاضافي، ففي اعتبارهنّ أنّ دخول معترك العمل هو دور غير ملزم للمرأة.

لكن رمّال تؤمن أنّ الاستقلالية المادية شرط ضروري لتشعر الأم بالارتياح والرضى عن الذات، خصوصا في حال وقوع الطلاق. من هنا أيضا فهمت أهميّة وجود شريك تتقاسم معه رعاية الأطفال، وهذا الأمر ليس مجانيا، فليس جميع الرجال متعاونين في الدور الرعائي، و"الأم إن أرادت أن تتفرّغ لهذا الدور، تحاصرها نظرة المجتمع الذي يستخفّ بمجهودها داخل المنزل".

 

أعمال غير مدفوعة الأجر

بالنسبة إلى الأستاذة الجامعية والباحثة في دراسات النوع الاجتماعي، ريتا باروتا، وهي لبنانية برازيلية، تبدأ المشكلة في خطاب تعريفات المرأة العصريّة وتحديدا في مسألة "من هي المرأة العاملة؟"، الذي يعتبر أنّ المرأة غير مشاركة في العجلة الاقتصادية إن كانت ربّة منزل، غير أنّ نهوضها بالدور الرعائي هو ما يسمح للزوج بالعمل في الخارج، "حين لا يُعترف بأنّ عمل المرأة داخل المنزل كاف لاعتباره عملا، ستبقى مشكلتنا كبرى في إنصاف الأمهات".

قبل نحو خمسين عاما، كانت الناشطة النسوية الإيطالية-الأميركية سيلفيا فيدريتشي قد تنبأت بمصيدة النساء داخل خطاب هيمنة السوق، وعبّرت عنها في مقال يطرح فكرة "أجور مقابل الأعمال المنزلية"، مبتدئة بإخضاع الأدوار الاجتماعيّة إلى عملية سلخ عن المعتقدات الثقافية: "يقولون إنه حب. نحن نقول هو عمل غير مدفوع الأجر"، وهو شكل من "الاحتيال المكنّى بأسماء الحب والزواج"، يوطّن العمل المنزلي كشيء طبيعيّ غير مدفوع ومخصوص لجنس واحد.

المشكلة تبدأ في خطاب تعريفات المرأة العصريّة وتحديدا في مسألة "من هي المرأة العاملة"، الذي يعتبر أنّ المرأة غير مشاركة في العجلة الاقتصادية إن كانت ربّة منزل

في اعتراف فيدريتشي، أنّ سلطة رأس المال حقّقت نجاحا باهرا في تغييب قيمة العمل المنزلي للمرأة، منكرة حقها في أجر مقابل الأعمال المنزلية عير تحويله إلى عمل نابع عن الحب، و"أصاب في كسب كمية هائلة من العمل المجاني من دون أجر تقريبا".

غير أنّ السواد الأعظم من الأمهات لا يزلن يخشين فكرة "الأجور مقابل الأعمال المنزلية" مخافة التماهي ولو للحظة مع دور ربة المنزل. فهن يعرفن أن هذا الدور هو الأكثر وهنا في عيون المجتمع، لذلك لا يردن الاعتراف بحقيقة أنهن ربات منازل أيضا. 

لا يخفى على أحد، بحسب باروتا، أنّ المسيطر على منظومة حقوق الإنسان وتحرير غير النمطيين ونمذجة المرأة العصريّة في لبنان والعالم هو نتاج الخطاب الرأسمالي، "وهو ذكوريّ في العمق"، شارحة "لأنه لم يحرّر المرأة من مشاكلها العالقة مع حقوق الميراث بما يتضمّنه امتلاك مشاعات كمجال ماديّ تشغله في الحيز العام، فتعبّر عن نفسها من خلاله وتديره باستقلاليّة، ولذلك تبقى المرأة المتزوجة وغير المتزوجة مقيّدة باعتماديّة ذكوريّة ماديّة".

 

تماهيات النيوليبرالية والنسوية

تجد باروتا أنّ قيمة العمل ممسوكة بمن يملك الخطاب، وهو مَن يعمّم تركيبة اجتماعية من المفاهيم خاصة بعمل المرأة. وهذا ما ينقل إلى تأثير "الصورة" في الموجة النسوية الرابعة، التي يمكن تسميتها بـ"نسويّة سيبرانيّة"، تعتمد على العالم الافتراضي لطرح قضاياها، فـ"هي انبعاث جديد للحركة النسوية منذ العام 2012 من طريق منصات التواصل الاجتماعي، وتعتريها ميزتان: الميزة الإلكترونية، وميزة تركيز الاهتمام بالقضاء على التحرش الجنسي والعنف ضد المرأة. وتنشط هذه الحركة خصوصا في حملات ضدّ التحرش وتنجح في فضح المغتصبين، لكنها منجزات فرديّة لا تصبّ مباشرة في مسألة عمل النساء".

ريتا باروتا

بالتوازي مع هذه الدينامية، ثمة نكوص في حضور المرأة اللبنانية وسلطتها ومكتسباتها داخل سوق العمل. كانت النساء العاملات، وفق الباحثة، حاضرات ومتعاضدات لأجل مسائل كبرى تصبّ في حقوق العمال. وتستحضر أربعينات القرن الماضي، التي شهدت غليانا في الحراك النقابي اللبناني تقدّمته فتيات ونساء عاملات، ويؤرّخ لأبرز محطاته استشهاد وردة بطرس، الشابة المناضلة لحقوق عمّال شركة التبغ "الريجي". كانت التحركات حينذاك نسائية من دون أن ترفع شعارات نسويّة. 

في المقابل، يتوطد اليوم تقاطع الخطاب النسوي مع مكاسب النيوليبيرالية المهيمنة على سوق العمل، "لأنّه يمرّ عبر قنواتها، من تويتر وفايسبوك وإنستغرام وغيرها من المنصّات، وهي مملوكة من شركات عالميّة كبرى يحقّ لها أن تحجب خطابك أو أن تحظر رأيك أو تسجنك لمجرّد تعبيرك عمّا ينافي "معايير المجتمع" التي وضعتها هذه المنظومة الحاكمة بأمر الصواب والخطأ، وهي تتحكم بصوت المرأة وتقرّش هذا الصوت".

من الضروريّ  وفق الباحثة العودة اليوم إلى غرامشي، واستحضار دور "المجتمع المدني" بأنه "يتوسط بين البنية الاقتصادية والدولة بتشريعاتها وبسلطتها في الإكراه"، فالمجتمع المدني يشكّل رحم الحراك النسويّ، ومظلّته الأكثر نشاطا اليوم في لبنان هي "منظّمات المجتمع المدني"، وقد شهدت طفرة استثنائية منذ نحو 15 عاما، ذلك أنّ هذا المجتمع يرفع خطابا موجها ضدّ مسلّمات المنظومة الاجتماعية القائمة لكنه نتاج النيوليبيرالية التي ترسي المفاصل السياسية والثقافية الموجودة في لبنان، وتعزّزت سلطتها مع ترهّل مؤسسات الدولة في غضون الأزمة المتفشية منذ أواخر 2019، لكنّها تنفّذت منذ أكثر من ثلاثة عقود مع تعزيز سلطة المصارف والاستثمارات الخاصة وعملية إعادة الإعمار بعد الحرب الأهلية (1975-1990).

 

بالأرقام- لبنان: مسلخ عمل الأمهات

في سياق كلّ ما تقدم، يشتدّ خناق ثنائية العمل/الأم اللبنانية، وبوادر الحلول غير منظورة، طالما أنّ قضايا النساء لا تزال تتذيّل سلّم الأولويّات لدى المشرّعين، والعديد من الممسكات بقضايا النساء طارئات على المسألة النسوية، تسيّرهنّ بورصة "حقوق النساء" وتكاليفها الملتحقة بالأجندة العالمية، عوضا من الحرص على محلّيّة الأولويات.

كما أن التشخيص لا ينحصر في الذكورية التي طفحت خلال الصيف الماضي، من نساء ورجال، في "قصف" كلامي ضد الأمهات العاملات وغير العاملات اللواتي يلحقن الأطفال في الحضانات، وذلك بعد افتضاح سلسلة جرائم إنسانية في حق الأطفال تمارس في بعض الحضانات.

إلى حدّ بعيد، تتقاسم ربّات المنازل اللبنانيّة أعباء قريناتهنّ حول العالم، حيث تشير إحصاءات منظمة العمل الدولية في عام 2018، إلى أن النساء في البلدان المرتفعة والمتوسطة والمنخفضة الدخل على حد سواء، يمضين ما معدّله 260 دقيقة يوميا في أعمال الرعاية غير المدفوعة الأجر. ويمكن تأويل هذا التطابق بأنّ مسار الأدوار الرعائية لم يتغيّر عبر التاريخ، ولو تخلّلته بعض التحولات الثقافية الطفيفة، واستعانة الأمهات بعاملات ومربيّات في المنزل- لمن استطاعت الوفاء بهذه المصاريف- فبحلول الأزمة الاقتصادية، يبلغ في لبنان متوسّط تكلفة رعاية الأطفال لشهر واحد نحو 89 في المئة من الحد الأدنى للأجور، بحسب "تقرير حالة المرأة في المشرق- من يقدّم الرعاية؟/أعمال الرعاية ونتائج سوق العمل للمرأة في العراق والأردن ولبنان"، الصادر عن مجموعة البنك الدولي في فبراير/شباط 2023. 

يستمر التمييز الموضوعي ضدّ النساء المتزوجات في قانون العمل اللبناني، إذ يسمح صندوق الضمان الاجتماعي للمرأة الحامل بالافادة من تقديماته بعد 10 أشهر من مزاولتها العمل، فيما يستطيع الرجل المضمون ضمان زوجته الحامل في غضون 3 أشهر

يبين التقرير أنّ أعمال الرعاية غير المدفوعة الأجر التي تؤدّيها الأمهات في البلدان الثلاثة تصل في عام واحد إلى 35 مليار دولار أميركي، ما يعادل عمل 4 ملايين شخص بدوام كامل (48 ساعة أسبوعيا) ومن دون أجر.  

وحين تدخل الأم في لبنان في دائرة القوة العاملة، فهي تعمل وفق شروط مجحفة. لنبدأ بإجازة الأمومة، التي تمتدّ إلى 10 أسابيع فقط أي 70 يوما، وهي غير كافية بمعايير منظمة العمل الدولية التي تنصّ قوانينها على منح إجازة أمومة مدفوعة الأجر من الدولة لمدة 18 أسبوعا. ويعتبر لبنان متخلفا مقارنة بجواره العربي. ففي العراق مثلا، تمنح الأم إجازة 14 أسبوعا مدفوعة الأجر بالكامل، أما في لبنان فيدفع أرباب العمل ثلثي الإجازة. وليس غريبا أن تتجنب كثير من المؤسسات توظيف المرأة المتزوجة وخصوصا الحوامل.

بصرف النظر عن انهيار قيمة العملة اللبنانية، يستمر التمييز الموضوعي ضدّ النساء المتزوجات في قانون العمل اللبناني، إذ يسمح صندوق الضمان الاجتماعي للمرأة الحامل بالافادة من تقديماته بعد 10 أشهر من مزاولتها العمل، فيما يستطيع الرجل المضمون ضمان زوجته الحامل في غضون 3 أشهر. كما أنّ الزوج العامل يفيد زوجته تلقائيا من تقديمات الضمان الاجتماعي، في حين أنّ الزوجة العاملة لا تفيد زوجها إلا في حال تجاوز الـ60 عاما أو في حال إصابته بعاهة. وقد تقدّم أحد الوزراء السابقين بمشروع قانون لإلغاء هذا التمييز ضد النساء المتزوجات العاملات، لكنه يظلّ خارج نقاشات مجلس النواب.

أخيرا وللخلاصة والتكثيف، لا مناص للمرأة اللبنانية المتزوجة من دفع ضريبة الأمومة، سواء عملت داخل المنزل أو خارجه أو في المجالين معا، فـ"لا شكر على واجب" هذه الأمومة المبذولة في أحلك الظروف. وقد تمضي عمرا لتحدّد أي دور تعتنق، وأي دور ترفض. وفي غمار رحلة رسم المسار داخل مطحنة سوق العمل، قد تستفيق رغبة هذه المرأة بأن تتزوج وتنجب الأولاد. وإذا بناقوس سنّ الأربعين يدقّ الباب، فتحضر أمامها كبريات الشركات الطبيّة والجملة السحرية: "بإمكانك تجميد بويضاتك... وبالتقسيط المريح".

font change

مقالات ذات صلة