في اعتراف فيدريتشي، أنّ سلطة رأس المال حقّقت نجاحا باهرا في تغييب قيمة العمل المنزلي للمرأة، منكرة حقها في أجر مقابل الأعمال المنزلية عير تحويله إلى عمل نابع عن الحب، و"أصاب في كسب كمية هائلة من العمل المجاني من دون أجر تقريبا".
غير أنّ السواد الأعظم من الأمهات لا يزلن يخشين فكرة "الأجور مقابل الأعمال المنزلية" مخافة التماهي ولو للحظة مع دور ربة المنزل. فهن يعرفن أن هذا الدور هو الأكثر وهنا في عيون المجتمع، لذلك لا يردن الاعتراف بحقيقة أنهن ربات منازل أيضا.
لا يخفى على أحد، بحسب باروتا، أنّ المسيطر على منظومة حقوق الإنسان وتحرير غير النمطيين ونمذجة المرأة العصريّة في لبنان والعالم هو نتاج الخطاب الرأسمالي، "وهو ذكوريّ في العمق"، شارحة "لأنه لم يحرّر المرأة من مشاكلها العالقة مع حقوق الميراث بما يتضمّنه امتلاك مشاعات كمجال ماديّ تشغله في الحيز العام، فتعبّر عن نفسها من خلاله وتديره باستقلاليّة، ولذلك تبقى المرأة المتزوجة وغير المتزوجة مقيّدة باعتماديّة ذكوريّة ماديّة".
تماهيات النيوليبرالية والنسوية
تجد باروتا أنّ قيمة العمل ممسوكة بمن يملك الخطاب، وهو مَن يعمّم تركيبة اجتماعية من المفاهيم خاصة بعمل المرأة. وهذا ما ينقل إلى تأثير "الصورة" في الموجة النسوية الرابعة، التي يمكن تسميتها بـ"نسويّة سيبرانيّة"، تعتمد على العالم الافتراضي لطرح قضاياها، فـ"هي انبعاث جديد للحركة النسوية منذ العام 2012 من طريق منصات التواصل الاجتماعي، وتعتريها ميزتان: الميزة الإلكترونية، وميزة تركيز الاهتمام بالقضاء على التحرش الجنسي والعنف ضد المرأة. وتنشط هذه الحركة خصوصا في حملات ضدّ التحرش وتنجح في فضح المغتصبين، لكنها منجزات فرديّة لا تصبّ مباشرة في مسألة عمل النساء".
ريتا باروتا
بالتوازي مع هذه الدينامية، ثمة نكوص في حضور المرأة اللبنانية وسلطتها ومكتسباتها داخل سوق العمل. كانت النساء العاملات، وفق الباحثة، حاضرات ومتعاضدات لأجل مسائل كبرى تصبّ في حقوق العمال. وتستحضر أربعينات القرن الماضي، التي شهدت غليانا في الحراك النقابي اللبناني تقدّمته فتيات ونساء عاملات، ويؤرّخ لأبرز محطاته استشهاد وردة بطرس، الشابة المناضلة لحقوق عمّال شركة التبغ "الريجي". كانت التحركات حينذاك نسائية من دون أن ترفع شعارات نسويّة.
في المقابل، يتوطد اليوم تقاطع الخطاب النسوي مع مكاسب النيوليبيرالية المهيمنة على سوق العمل، "لأنّه يمرّ عبر قنواتها، من تويتر وفايسبوك وإنستغرام وغيرها من المنصّات، وهي مملوكة من شركات عالميّة كبرى يحقّ لها أن تحجب خطابك أو أن تحظر رأيك أو تسجنك لمجرّد تعبيرك عمّا ينافي "معايير المجتمع" التي وضعتها هذه المنظومة الحاكمة بأمر الصواب والخطأ، وهي تتحكم بصوت المرأة وتقرّش هذا الصوت".
من الضروريّ وفق الباحثة العودة اليوم إلى غرامشي، واستحضار دور "المجتمع المدني" بأنه "يتوسط بين البنية الاقتصادية والدولة بتشريعاتها وبسلطتها في الإكراه"، فالمجتمع المدني يشكّل رحم الحراك النسويّ، ومظلّته الأكثر نشاطا اليوم في لبنان هي "منظّمات المجتمع المدني"، وقد شهدت طفرة استثنائية منذ نحو 15 عاما، ذلك أنّ هذا المجتمع يرفع خطابا موجها ضدّ مسلّمات المنظومة الاجتماعية القائمة لكنه نتاج النيوليبيرالية التي ترسي المفاصل السياسية والثقافية الموجودة في لبنان، وتعزّزت سلطتها مع ترهّل مؤسسات الدولة في غضون الأزمة المتفشية منذ أواخر 2019، لكنّها تنفّذت منذ أكثر من ثلاثة عقود مع تعزيز سلطة المصارف والاستثمارات الخاصة وعملية إعادة الإعمار بعد الحرب الأهلية (1975-1990).
بالأرقام- لبنان: مسلخ عمل الأمهات
في سياق كلّ ما تقدم، يشتدّ خناق ثنائية العمل/الأم اللبنانية، وبوادر الحلول غير منظورة، طالما أنّ قضايا النساء لا تزال تتذيّل سلّم الأولويّات لدى المشرّعين، والعديد من الممسكات بقضايا النساء طارئات على المسألة النسوية، تسيّرهنّ بورصة "حقوق النساء" وتكاليفها الملتحقة بالأجندة العالمية، عوضا من الحرص على محلّيّة الأولويات.
كما أن التشخيص لا ينحصر في الذكورية التي طفحت خلال الصيف الماضي، من نساء ورجال، في "قصف" كلامي ضد الأمهات العاملات وغير العاملات اللواتي يلحقن الأطفال في الحضانات، وذلك بعد افتضاح سلسلة جرائم إنسانية في حق الأطفال تمارس في بعض الحضانات.
إلى حدّ بعيد، تتقاسم ربّات المنازل اللبنانيّة أعباء قريناتهنّ حول العالم، حيث تشير إحصاءات منظمة العمل الدولية في عام 2018، إلى أن النساء في البلدان المرتفعة والمتوسطة والمنخفضة الدخل على حد سواء، يمضين ما معدّله 260 دقيقة يوميا في أعمال الرعاية غير المدفوعة الأجر. ويمكن تأويل هذا التطابق بأنّ مسار الأدوار الرعائية لم يتغيّر عبر التاريخ، ولو تخلّلته بعض التحولات الثقافية الطفيفة، واستعانة الأمهات بعاملات ومربيّات في المنزل- لمن استطاعت الوفاء بهذه المصاريف- فبحلول الأزمة الاقتصادية، يبلغ في لبنان متوسّط تكلفة رعاية الأطفال لشهر واحد نحو 89 في المئة من الحد الأدنى للأجور، بحسب "تقرير حالة المرأة في المشرق- من يقدّم الرعاية؟/أعمال الرعاية ونتائج سوق العمل للمرأة في العراق والأردن ولبنان"، الصادر عن مجموعة البنك الدولي في فبراير/شباط 2023.