متاهات راشد آل خليفة في تبليسي

معرض يجمع بين العمارة والتصميم

راشد آل خليفة

متاهات راشد آل خليفة في تبليسي

"النور الأول" انتقل من باكو في أذربيجان إلى "مركز مزما الثقافي" في تبليسي بجورجيا. لكن ذلك ليس صحيحا تماما. ففي كل معرض يقيمه الفنان البحريني راشد آل خليفة يضيف شيئا جديدا هو نوع من التجسيد لإلهام الرحلة بين مدينتين. عين الفنان لا تُخطئ هدفها، ليس إلى ما تراه من المكان فحسب، بل أيضا إلى الأبعاد البانورامية الخفية لذلك المكان. تلك هي العين الخبيرة التي تختزل ما تراه وتعيده إلى أصوله البنائية. وفي حالة آل خليفة فإن التصميم والعمارة هما الموقع الذي يصدر عنه الإلهام البصري.

غير أن الطريق إليهما (التصميم والعمارة) تظل غاصة بالصور والأفكار والرؤى، إضافة إلى ما يمكن أن يستخرج من لذة الحياة الممزوجة بالعاطفة التي يتخذ منها الفنان موقفا حذرا ويحتاط من أجل أن لا تُفسد متعته وهو يجد الطريق سالكة بين بحوثه البصرية والمعادلات الفكرية التي يقيمها. ذلك ما يجعله على بيّنة من تفاصيل الهندسة الخيالية التي يقيمها على أساس لا يُحيلنا على الواقع. كل ما فعله آل خليفة في رحلته مع اللوحة المحدّبة منذ بدايات الألف الثالث استمدّ قوته من رؤية لا تراهن على المزاج التصويري بقدر ما تسعى إلى برمجة عين المتلقي بطريقة تُزيح عنها كاهل التعريفات الجاهزة للجمال. لم يكن للأوهام البصرية ذلك الحيز الكبير في أعماله. لا لشيء إلا لأنها أضعف من أن تقوى على احتواء الحمولة الفكرية التي جهزها الفنان.

خفة الهندسة في خيالها

قبل باكو وتبليسي كان الفنان راشد آل خليفة قد أقام معارض في مدن أوروبية عديدة، آخرها ذلك الذي أقامه في لوكسمبورغ العام الماضي وقبله بثلاث سنوات أقام معرضا مهما في صالة "ساجي آند ساجي" بلندن. من المؤكد أن هناك مدنا أخرى وضعها الفنان على خريطة انتشار فنه عالميا. وهو يجد في ذلك نوعا من تأكيد هوية فنه التي تضيق بالتوصيفات ذات الطابع الجغرافي. فآل خليفة بقدر ما يضيف مصادر إلهام جديدة مستمدة من خبرته في فني التصميم والعمارة، يقيم وشائج مبتكرة بين الفنون البصرية وطرق التفكير فيها. ليست تلك الصيغة منفصلة عن الواقع بمعناه الواسع لكنها تحتمل المسعى لخلق معان مختلفة لذلك الواقع.

كلّ الأشكال التي يبتكرها الفنان هي صور لجوهر تلك المعاني، فلا هي واقعية تماما بحيث يمكن العثور عليها بمعزل عن الإيحاء الذي تنطوي عليه الأعمال الفنية ولا هي منفصلة بشكل نهائي عن الواقع، بحيث تبدو مستخرجة من العدم

كلّ الأشكال التي يبتكرها الفنان هي صور لجوهر تلك المعاني، فلا هي واقعية تماما بحيث يمكن العثور عليها بمعزل عن الإيحاء الذي تنطوي عليه الأعمال الفنية ولا هي منفصلة بشكل نهائي عن الواقع، بحيث تبدو مستخرجة من العدم. للرسام البحريني المولود عام 1952 في المنامة، القدرة على إزاحة القشرة عن الواقع ليصل إلى أبعاده المكانية ذات الارتباط بزمن لا يغير هيئتها بمروره، فهو زمن تمتزج فيه الخبرة التقنية ببراءة التجربة البصرية. وهو ما ينعكس على أعمال آل خليفة التي تظهر فيها نضارة الإنشاء وليونته لا بسبب موادها بل بسبب ما تُظهره من أشكال تنتمي إلى عالم الخفة.

مزج الفكر بالجمال

يمثل فن راشد آل خليفة ظاهرة متميّزة بفرادتها في المشهد الفني العربي المعاصر. أولا لأنها لا تجد لها جذورا في المحاولة الفنية العربية الحديثة، ولأنها ثانيا لا ترتبط بصلة بما يُحيطها من تجارب، من ضمنها تجارب الفنانين الذين لم يتبعوا الأساليبب التقليدية في التعبير الفني في محاولة منهم لاكتشاف مواهبهم في مجال الفنون المعاصرة، استنادا إلى فكر ما بعد الحداثة. فن آل خليفة هو صنيع تجربة خاصة في فهم الانعتاق من أسر الأنواع الفنية التقليدية وقد كان آل خليفة نفسه في ما مضى رساما متمكنا من أدواته، ولا أبالغ حين أقول إن تجاربه في الرسم قد وضعته في لحظة ما في مقدّمة المشهد الفني البحريني.

غير أن الفنان في لحظة تحوله كان قد أدرك أن الرسم صار يضيق بأفكاره وليس أمامه سوى الاستجابة لشغفه برؤية عالم بنائي يكون بمثابة صورة عن إلهام مجاور، لا ينبعث من التجربة التعبيرية المغمورة بالعاطفة التي كان الرسم قد انصهر بعناصرها. كانت لديه فكرة عن لقاء هو عبارة عن صدام بين خيال العمارة بالقيم الجمالية التي تنطوي عليها روح المتاهة التي تنبعث من ذلك الخيال من غير أن تنتسب إليه. لذلك حرص الفنان على أن يشيد في كل معرض يقيمه متاهة هي في حدّ ذاتها خلاصة لقيم جمالية تضعه في قائمة الفنانين الذين يمزجون الفكر بالجمال وهو ما يضع حاجزا بينه وبين الفنانين الذين اكتفوا بالفكرة متخلّين عن الجمال.

تستحق متاهات راشد آل خليفة أن تُرى غير مرة، بمعنى أن يجرب المرء العيش والمرور بها ومن ثم التفكير فيها كأنها نوع من الواقع الذي يرتقي بعناصره إلى درجة حلمية، من خلالها يكون الوجود الفيزيائي مجرد عتبة شفافة



مفاجآت الأجزاء الصغيرة المرحة

تستحق متاهات راشد آل خليفة أن تُرى غير مرة، بمعنى أن يجرب المرء العيش والمرور بها ومن ثم التفكير فيها كأنها نوع من الواقع الذي يرتقي بعناصره إلى درجة حلمية، من خلالها يكون الوجود الفيزيائي مجرد عتبة شفافة للدخول إلى عالم فضائي مترع بالصور. فهي ليست نوعا من المعالجة البصرية يستحضرها الفنان من أجل إعانته على التعبير، وهي أيضا ليست محاولة لإثارة حواس المتلقي التي يمكن أن تعينه على الخروج بسلام من حالة فقدان الطريق.

المتاهة كما يفهمها آل خليفة هي كيان تركيبي محلّق تتصل أجزاؤه في نقاط محدّدة، غير أنها تحافظ على انفصالها من خلال حركة مستمرة. في ذلك الحيز الذي يتداخل من خلاله المتصل والمنفصل ويتبادلان الأدوار ينمو مفهوم للمتاهة يتخطّى لغزية الوقوع في فخ استفهام، يكون جوابه مؤجلا دائما.

يفكك آل خليفة المكان إلى وحدات صغيرة غير ثابتة كأنها تستجيب لحركة الزمن. وهو في ذلك يضعنا في مواجهة جدال المكان مع الزمان. يعيش المرء وهو يدخل إلى قلب المتاهة نوعا من الخلخلة الروحية يستعيد من خلالها علاقته الأولى بالمكان الذي لا يأخذ هيئة ميتة. هناك حيوية كامنة تقيم في كل قطعة صغيرة ستكون المتاهة ناقصة إذا ما اختفت. لعبة توجه أفكارنا بقدر ما تتحكم بأبصارنا. وهي ما أراد راشد آل خليفة أن يستفز بها حساسيتنا الجمالية لتكون جاهزة لتلقي مفاجآت متاهاته.                        

font change

مقالات ذات صلة