إيران... جوهر الدولة ووظيفة الآيديولوجيا

تتذرع إيران بترسانة ضخمة من الحجج والتبريرات: توازن القوى، وعدم الرغبة في توسيع الحرب، و"تفكيك إسرائيل بسياسة النفس الطويل"

إيران... جوهر الدولة ووظيفة الآيديولوجيا

يقدم السلوك السياسي والميداني الإيراني أثناء حرب غزة نموذجا ودلالة أخرى عن هوية النواة الصلبة في العقل السياسي الاستراتيجي لإيران، ويعيد تذكيرنا بما تعرف به إيران نفسها، وتحدده كبذرة تكوينية لكل سياساتها وأفعالها، باعتبارها أولا ودائما دولة ذات هيكلية مؤسساتية وطيف واسع من المصالح الوطنية، متمركزة أساسا حول تشكيلة من ضوابط الأمن القومي، تأخذها في الاعتبار وتقيس الأشياء حسبها على الدوام، قبل وأثناء وبعد اتخاذ أي سلوك سياسي، استراتيجي بالذات. بينما يظهر الحدث نفسه الآيديولوجيا السياسية والخطاب المصدر من قبل النظام الإيراني كأداة هامشية الحضور والدور في الأفعال الحقيقية، مجرد وسيلة للاستخدام الوظيفي، خدمة لتلك الأسس سابقة الذكر.

فإيران التي بقي نظامها السياسي الحاكم راهنا، وطوال أربعة عقود ونصف، يستخدم "الدفاع" عن الفلسطينيين وقضيتهم كدعامة جوهرية في شرعية النظام الحاكم، لم تفعل شيئا طوال هذه الحرب، على الرغم من كل المآسي التي لحقت بالفلسطينيين، بل ضبطت وكبحت مجموع استطالاتها العسكرية والسياسية من الانخراط المباشر بأي شكل. حتى تلك الأفعال وأنواع المساهمة التي يمكن لأية دولة "معزولة" عن المسألة الإسرائيلية/الفلسطينية أن تفعلها، مثل تقديم المساعدات الطبية والمادية، لم تفعلها إيران.

لأجل ذلك، تذرعت إيران بترسانة ضخمة من الحجج والتبريرات: توازن القوى، وعدم الرغبة في توسيع الحرب، و"تفكيك إسرائيل بسياسة النفس الطويل"، وإفقاد الولايات المتحدة ذريعة محاربة إيران... إلخ. حيث بقليل من إعادة الصياغة، مع الحفاظ التام على الجوهر، يمكن وصف تلك الذرائع باعتبارها "موانع ومقومات الأمن القومي الإيراني"، القائمة على حقيقة بسيطة تقول: على النظام السياسي الحاكم أن يحافظ على الدولة الإيرانية، ككيان ذي مناعة وقدرة على حماية نفسه، والتحكم قدر المستطاع في الجماعات والقوى السياسية وحتى الدول المحيطة بها، خدمة لذلك الهدف فحسب.

لكن هل في ذلك ما هو مفاجئ بأي شكل؟ دون شك لا.

أوليس في التاريخ السياسي المعاصر لهذا النظام الحاكم مجموعة كاملة من الإثباتات على تلك الحقيقة البسيطة، الممتدة من قضائه على كافة النزعات اليسارية في البلاد منذ الأيام الأولى للحكم، استجابة لرغبات مضمرة في السياسة الغربية، على الرغم من ادعاء بمناهضة تلك السياسة الغربية، وصولا لاعتماد مبدأ "تصدير الثورة"، التي ما فعلت شيئا خلا تفكيك المنطقة وإيقاعها في مستنقع الطائفية السياسية، مع زيادة المناعة الداخلية لإيران نفسها من الوقوع في الشرك نفسه. وطبعا دون نسيان أحداث من مثل صفقة "إيران كونترا" لشراء الأسلحة من إسرائيل نفسها، وصولا لملاقاة الولايات المتحدة والتوافق معها في حربي أفغانستان والعراق، وانتهاء بصفقات "استراتيجية الرهائن" والبرنامج النووي. فكل تلك الأحداث والسلوكيات الاستراتيجية، كانت مناهضة تماما لكل طرح خطابي وآيديولوجي للنظام الإيراني.

إيران التي بقي نظامها السياسي الحاكم راهنا، وطوال أربعة عقود ونصف، يستخدم "الدفاع" عن الفلسطينيين وقضيتهم كدعامة جوهرية في شرعية النظام الحاكم، لم تفعل شيئا طوال هذه الحرب

لا يفعل حكام إيران ذلك إيمانا منهم بأهمية وضرورة ونجاعة الدولة، بل لاعتقاد رصين يرى أن الدولة بمؤسساتها ومناعة أمنها القومي وضرورة حضورها هي الضامن الوحيد لاستمرار نظام الحكم هذا، مستقرا ودائم البقاء في سدة السلطة. قدمت الشهور الأولى للحرب الإيرانية العراقية مثالا بليغا لتلك العلاقة الجدلية؛ فوقتئذ، وبينما كان النظام الإيراني الحديث هائما بتفكيك أواصر الدولة الإيرانية التي بناها النظام الشاهنشاهي، حدثت الحرب مع العراق، واكتشف الحكام الجدد أن سلطتهم ستتهاوى لو لم يستغيثوا بمؤسسات وجنرالات وأنظمة الإدارة ونخبة الجيش التي بناها الشاه لإيران، ففعلوا ذلك بسرعة فائقة، وأعادوا عقارب الحرب بالسرعة نفسها، وأخذوا درسا تاريخيا من ذلك.

لكن المفاجئ هو بقاء تشكيلة واسعة من القوى السياسية والفصائل المسلحة، وحتى بعض الطبقات الاجتماعية والمناطقية، في العالم العربي وبعض دول المنطقة، متيقنة من أن العكس تماما هو الصحيح، على الرغم من تراكم الدلائل والأفعال الإيرانية التي تثبت مرة بعد أخرى هذه الحقيقة البسيطة والعادية. فثمة من هو متيقن، ويريد إقناع غيره، بأن الآيديولوجيا والخطاب السياسي الإيراني هما جوهر محددات السياسة الإيرانية استراتيجيا.

لا تنجح الدعاية والاستراتيجية الإيرانية في تحقيق هذا الخلط من فراغ، بل من ثلاث دعامات تاريخية/ تقليدية، ما تزال شديدة الفاعلية في حواضر بلداننا ومجتمعاتنا.

تجارب القومية العربية، بمختلف نماذجها، الناصرية والبعثية والقذافية، قامت على إغراق المجتمعات وكل الحياة العامة بفيض من الخطابية السياسية

فتجارب القومية العربية، بمختلف نماذجها، الناصرية والبعثية والقذافية، ثبّتت شيئا كثيرا من ذلك، قائما على إغراق المجتمعات وكل الحياة العامة بفيض من الخطابية السياسية، التي لم تترك مجالا للتفكير وإمكانية التفريق بين نظام سياسي ما والمحددات الحقيقية لسلوكه، وبين خطابه السياسي وادعاءاته الآيديولوجية؛ فطوال عقود كثيرة، ما كان مقبولا وعاديا أن يشرع أي حديث عن الفرق الهائل بين خطاب وآيديولوجيا أي نظام قومي وأفعاله واستراتيجيته وسلوكه الحقيقي؛ فالخطابات والآيديولوجيات صارت بالتقادم تشغل مكانة الفعل نفسه، فصار كافيا لطرف مثل النظام السوري أن يعتبر نفسه ممانعا، دون أن يطلق رصاصة واحدة على الطرف الآخر من الحدود لنصف قرن كامل، وأن يصدقه ملايين البشر.

إلى جانب ذلك، تستفيد إيران من سوء الفهم العام في بعض مجتمعاتنا وبلداننا للواقع الإمبراطوري الذي ما تزال إيران قائمة عليه، ومعها تركيا إلى حدٍ بعيد. الإمبراطوريات المختلفة نوعيا عن الكيانات/ الدول الأصغر. فبينما تتطابق وتتمركز هذه الأخيرة حول عدد من الاستراتيجيات البسيطة حول الأمن القومي، فإن الكيانات الإمبراطورية، أو ذات التاريخ الطويل من ذلك، تسعى على الدوام لفعل واستخدام كل شيء، الآيديولوجيا المضخمة، والعلاقات مع الجماعات الأهلية خارج الحدود، وإدارة شبكة واسعة من العلاقات المتباينة، وأشياء كثيرة جدا، لكنها تستخدم كل تلك الاستطالات في سبيل شيء واحد، هو الحفاظ على الهيمنة الإمبراطورية، أي بنية الدولة.

تستفيد إيران من سوء الفهم العام في بعض مجتمعاتنا وبلداننا للواقع الإمبراطوري الذي ما تزال إيران قائمة عليه، ومعها تركيا إلى حدٍ بعيد.

أخيرا، إيران قادرة على فعل ذلك، لتوافر "زبائن" مستعدين لتلقف مثل هذه المخادعة؛ فبنظرة سريعة للقوى والجماعات والفصائل التي استطاعت إيران استمالتهم، ستجد ذلك عاملا مشتركا دائما فيما بينهم، ضحايا فشل الدول الوطنية، وضحايا انهيار السلام، وضحايا تراجع قيم التعليم ومستويات الدخل والحياة المدنية... إلخ.  

font change