غزة... الشرعية والتفويض والجدوى

غزة... الشرعية والتفويض والجدوى

لم يرفع الفلسطينيون جثث أطفالهم وضحاياهم من تحت الأنقاض حتى الآن. لكن هناك من رأى أن الحرب ضد غزة أسفرت عن انتصار لحركة "حماس".

كيف؟ لقد تضمن اتفاق الهدنة بين الحركة والحكومة الإسرائيلية "إذلالا" للاحتلال، وتأكيدا على فشل مخططاته. الدليل موجود في تصريحات وزير الداخلية الإسرائيلية إيتمار بن غفير وبعض المعلقين في الصحف والمواقع الإسرائيلية.

لم تبدأ الهدنة بعد، ولم يخرج أسير فلسطيني واحد بل ظهر صف طويل من "الخبراء" و"المحللين" راح يجزم على القنوات الفضائية أن ما تحقق ليس أقل من "هزيمة مدوية" لإسرائيل.

نعثر على أساس هذا الهذيان في ثقافة معممة تحتقر الإنسان وتتجاهل حقوقه وتقدم عليه كيانات متخيلة مثل "الأمة"، و"القضية"، و"المنظمة"، أو "الحزب" التي يحتاج كلها إلى نقاش عميق حول شرعية دعاواها بتمثيل هذا الجمع من البشر الذي يتحول في أسرع من إغماضة عين إلى كومة من الجثث الملقاة تحت الأنقاض. من يفوض الأحزاب والتيارات والحركات لشن الحروب أو التوصل إلى الهدنات أو إجراء تبادل للأسرى؟ من أين يأتي هذا الحق بادعاء تمثيل شعوب بأسرها بذريعة أن "القوى الطليعية" تملك وعيا أو تكليفا شرعيا يتيحان لها إدراك مصلحة الجماهير الغافلة عن المطالبة بحقوقها؟ من وضع تلك التنظيمات في الطليعة ومن منحها شرعيتها؟

دعونا من نقاش قديم وعقيم عن غياب الدولة وتلكؤ ممثلي الزعامات التقليدية التي حكمت في المشرق العربي أوائل القرن الماضي عن الارتقاء إلى مستوى مسؤولياتها التاريخية. لقد قيل في تلك الزعامات ما يكفي ويزيد لفهم تخلفها وعجزها عن مواكبة التحديات التي شكلها انحسار شكل السلطة الموروث عن السلطنة العثمانية وفهم معنى الاستعمار الغربي وما يحمله من مشاريع. المشكلة تكمن في ظهور فئات منحت لنفسها الحق في ادعاء تمثيل مجتمعاتها. لقد عاد شكل الحكم هنا إلى التسلط عبر القوة ومصادرة حقوق الأفراد في اختيار مصائرهم. الشكل الأكثر بدائية في بناء السلطة وتنفيذ سياستها.

الافتقار إلى شرعية التمثيل وغياب التفويض بمعناه السياسي لا يسمحان للقوى المتصدرة للمشهد الحالي بالاعتراف بالهزيمة ولا القبول بالمسؤولية عن الكوارث التي تجرها على من تدعي تمثيلهم

ولننحِ جانبا سرد صفات العدو الوحشي الذي لا يتورع عن شيء، لا عن قتل الأطفال ولا عن تدمير المدارس والمستشفيات ولا عن الكذب الصريح ولا عن استخدام شعور الغرب بالمسؤولية عن المحرقة النازية للدفع بجدول أعماله الذي لا يخلو من التنكيل بالصحافيين والمعارضين للمجزرة الإسرائيلية. ولنعترف بأن مقاربتنا للسياسات الغربية الحافلة بازدواج المعايير والاستعلاء العنصري، ما زالت تقوم على المشاعر والعواطف والاعتقاد بأن صور معاناتنا وصراخنا ستغير شيئا من مواقف دول العالم. 
في واقع الأمر، وهو ما استنتجه كثير من الباحثين العرب قبل الغربيين، أن تقديمنا لأنفسنا ولقضايانا غالبا ما يصب الماء في طواحين الطرف الآخر. 
غني عن البيان أن الافتقار إلى شرعية التمثيل وغياب التفويض بمعناه السياسي لا يسمحان للقوى المتصدرة للمشهد الحالي بالاعتراف بالهزيمة ولا القبول بالمسؤولية عن الكوارث التي تجرها على من تدعي تمثيلهم؛ فكل كارثة، منذ حرب 1956، هي انتصار حتى لو كانت الأطراف العربية المحاربة هي المسؤولة عنه. الحرب الوحيدة التي اعترف العرب بهزيمتهم فيها كليا هي 1948 لكن سرعان ما جاءت الجيوش لتحمّل الأنظمة السابقة تبعات النكبة ولتزعم أنها ستمحو آثارها. وبعد هزيمة 1967، حصل اعتراف جزئي وأطلق العرب كلمة "النكسة" على هزيمة كاملة الصفات، كشفت مستوى التجوف في الشعارات والانفصال عن الواقع لدى القيادات الثورية الحاكمة حينذاك. 
هنا لا مفر من طرح سؤال الجدوى. هل ستعثر القضية الفلسطينية، بعد حرب غزة التي لم تنته بعد، على طريق للسير عليه للوصول إلى الحقوق المصادرة؟ هل هناك من بين القيادات الفلسطينية من يشعر بعمق مصاب مواطنيه الذين فقدوا أحبة وأحلاما ومستقبلا جراء استفراد طرف بقرار الحرب والسلم واستمراء الطرف الفلسطيني الآخر للامتيازات التي يعيش فيها في رام الله؟ مؤسف أن الفكر السياسي العربي لا زال غارقا في هجاء الغرب وإسرائيل ومنقطعا عن النظر في الحالة المتردية التي يعيش فيها الناس جراء أنظمة تتكئ على الهيمنة الأهلية المسلحة. 
لا نحيط حتى الساعة بهول ما وقع في القطاع. لكن الاستخفاف بقيمة الحياة البشرية، كما عبر عنه متحدثون باسم "الساحات الموحدة"، لا يبشر بخير قريب.  
 

font change