أغضب كلام رئيس الوزراء اللبناني عن نهاية عصر تصدير الثورة، حلفاء إيران في لبنان. بيد أن طهران التي تدرك أين أصبح موقعها ومحورها في العالم، وتعمل على انتقال هادئ من ضفة إلى أخرى، التزمت الصمت وزار وزير خارجيتها لبنان آملا في فتح صفحة جديدة مع البلد الصغير.
إيران استثمرت كثيرا في تصدير ثورتها التي أرادت لها طابعا أمميا يجمع المستضعفين في الأرض ويرث الأمميتين الاشتراكية والشيوعية بعدما انخرطتا في النظام العالمي، وذهبت الأولى نحو الديمقراطية الليبرالية، فيما تكلست الثانية وتحولت الأنظمة العاملة بوحيها، إلى دكتاتوريات بيروقراطية.
عام انتصار الثورة، 1979، كان عاما شديد الصخب: اتفاقية كامب ديفيد، وعلامات الاستفهام الكبيرة التي رفعتها عن معنى الصراع العربي–الإسرائيلي. وعودة الإمام الخميني إلى طهران. وصراع الأجنحة الماركسية المتنافسة على السلطة في أفغانستان الذي أوصل إلى الاجتياح السوفياتي واندلاع مواجهة جديدة من الحرب الباردة. ووصول مارغريت ثاتشر إلى رئاسة الحكومة في بريطانيا معلنة بداية نهاية "دولة الرفاه" الأوروبية. وانتخاب رونالد ريغان وشروعه في خطتين كبيرتين داخلية وخارجية لإعادة رسم صورة أميركا ودورها كقطب عالمي أول بعد سلسلة الانتكاسات من فيتنام إلى إيران مرورا بنيكاراغوا... كلها عوامل أوحت بأن الساحة العالمية مهيأة لاستقبال ثورة من نمط جديد تكون الهوية وليس الطبقة هي العنصر المُقَرّر فيها، بعدما أثبتت الرأسمالية قدرتها على الالتفاف على الانقسام الطبقي وصراعه وتغيير المعطى الاجتماعي في الغرب تغييرا جذريا بعد الحرب العالمية الثانية.
"مكتب حركات التحرر الوطني" في طهران الذي تولى الاتصال والتنسيق والتمويل على المستوى العالمي، كان المولج بتصدير النموذج الإيراني للثورة العالمية. فهناك ما يجمع المستضعفين من كل الأرض في وجه الاستكبار العالمي. الأخير لا يقتصر على الغرب الرأسمالي، بل يشمل كل الطواغيت في الشرق والغرب. كان واضحا أن الشباب الإيرانيين رفضوا الدروس التي استخلصها "الكومنترن" أي الهيئة التي أنشأتها الثورة البلشفية لتصدير ثورتها إلى أنحاء العالم. الهيئة هذه تحولت إلى جهاز إداري ينفذ مصالح الدولة السوفياتية الناشئة ولو على حساب مصالح ورؤى الشيوعيين في بلادهم الأصلية. وانتهى الأمر بإصدار جوزيف ستالين أمرا بحلها بعد الكثير من المشكلات والصراعات الداخلية.
"المكتب" الإيراني كان كذلك مصدرا للاختلافات الداخلية وعنصرا لإنتاج التوتر مع باقي الدول، خصوصا القريبة من إيران. وعلى غرار "الكومنترن"، ألغى الخميني المكتب وأعدم المسؤول عنه في واحدة من الفصول الدموية العديدة للثورة الإيرانية التي انتقلت السلطة فيها إلى تيار أكثر انتباها إلى مصالح إيران كدولة. وبدا أن كتاب لينين الشهير "الدولة والثورة" قد وجد طريقه إلى أيدي المسؤولين الإيرانيين الآتي بعضهم من صفوف اليسار الإسلامي.
جلي أن الإيرانيين أخفقوا إخفاقا ذريعا في توحيد المسلمين منذ السنوات الأولى لثورتهم بإصرارهم على تصور ضيق لزعامة العالم الإسلامي يقوم على تصدرهم المشهد الإسلامي برمته
مهما يكن من أمر، ليست الثورتان الإيرانية والبلشفية الوحيدتين اللتين رغبتا في تصدير نموذجيهما ومثاليهما إلى العالم وضمه بأسره إلى فكرة التغيير الجذري القائمة على قلب السلطة في الشارع. الكاتب فيليب مانسيل، على سبيل المثال، يشرح في مؤلفه البديع "القسطنطينية.. المدينة التي اشتهاها العالم" كيف عمل أنصار الحكم الملكي المخلوع في فرنسا على الحيلولة دون وصول أصداء الثورة الفرنسية وأفكارها إلى مدارك المسؤولين في السلطنة العثمانية، مشددين- من بين مثالب أخرى رأوها في ثورة 1789- على أن الثوار الفرنسيين ارتكبوا "جريمة قتل الملك" التي كانت معصية كبرى في أذهان الملكيين في كل أنحاء أوروبا...
نهاية عصر تصدير الثورات- والإيرانية آخرها- هل يدل على تغير في العوامل الاجتماعية التي تمنع تضامن "المسلمين" في أنحاء العالم ضد "الطاغوت"؟ جلي أن الإيرانيين أخفقوا إخفاقا ذريعا في توحيد المسلمين منذ السنوات الأولى لثورتهم بإصرارهم على تصور ضيق لزعامة العالم الإسلامي يقوم على تصدرهم المشهد الإسلامي برمته وليس فقط بسبب الفوارق المذهبية بين المسلمين. وترافق ذلك مع فشل "السلفية الجهادية" في تصدير "ثورتها" أو "نهضتها" إلى العالم الإسلامي، نظرا إلى أساليبها العدمية المناقضة لروح العصر ولآمال المسلمين البسيطة في تحقيق العدالة الاجتماعية سلميا.
وعلى الإيرانيين و"ثوارهم" في لبنان وغيره ألّا يحزنوا ولا يغضبوا عندما يُحكى عن نهاية عصر تصدير الثورة، ففي ظل ثورة هائلة الأبعاد مثل التي يشهدها العالم والتي ستدخل التغيير في تفاصيل الحياة البشرية من دون استثناء، ويتقدمها الذكاء الاصطناعي والروبوت والاتصالات، تبدو ثورات القرن العشرين، غير قابلة ليس للتطبيق فحسب، بل أيضا للفهم.