هل يحدث انقلاب عسكري في إسرائيل؟

لا يُستبعد أن يزداد التباعد بين الجيش والحكومة

هل يحدث انقلاب عسكري في إسرائيل؟

كان النظام الديمقراطي التعددي أحد الأسس التي أُقيمت عليها إسرائيل، وأهم عناصر العلاقة الخاصة جدا التي تربطها بالدول الغربية التي اعتبرتها، حسب تعبير شاع لوقت طويل (واحة وسط صحراء من الديكتاتورية). ولم يكن متصورا من قبل أن يتعرض هذا النظام لخطرٍ من داخله. وكان ضربا من خيال أي حديث عن احتمال حدوث انقلاب عسكري. لكن العام الحالي ليس مثل أي وقت سبقه طوال 74 سنة منذ تأسيس الدولة العبرية؛ فقد حدث فيه تباعد غير مسبوق بين ما يُسمى فيها المستويان السياسي (السلطة التنفيذية والتشريعية)، والعسكري (الجيش والأجهزة الأمنية).

لقد بدأ هذا التباعد بسبب مخاوف ظهرت داخل الجيش من أثر سلبي مُحتمل للانقسام الكبير المترتب على سياسات الحكومة الحالية التي شُكلت في ديسمبر/كانون الأول 2022؛ إذ عبر عدد لا يستهان به من الضباط والجنود، وبخاصة في قوات الاحتياط التطوعي، عن خشيتهم من أن تؤثر خطة الحكومة المُسماة "إصلاح القضاء"، والانقسام السياسي الحاد بشأنها، على النظام الديمقراطي. وكان ما يعنيهم بالأساس هو أن يؤدي إضعافُ محتمل لهذا النظام الذي نشأوا في ظله إلى فقد الثقة في المستوى السياسي، ومن ثم في قرارات عسكرية وأمنية تصدرها الحكومة في حال ضعف الرقابة القضائية عليها؛ ففي النظام البرلماني المعمول به في إسرائيل، تقع وظيفة مراقبة أداء الحكومة على عاتق القضاء، أكثر من البرلمان الذي يدافع عنها عادة بحكم أنها مؤلفة من الأحزاب صاحبة الأغلبية فيه.

هجوم 7 أكتوبر أدى إلى إعادة توحيد الأحزاب والمجتمع، لكن العلاقة بين المستويين السياسي والعسكري لم تعد إلى طبيعتها

وهذا ما قصده المُحرّر العسكري المخضرم في صحيفة "هآرتس" عاموس صموئيل، عندما كتب في أول يوليو/تموز الماضي أن "الوضع في الجيش خطير بسبب وجود استياء تجاه خطة الحكومة التي تحمل عنوان إصلاح القضاء؛ فعدد متزايد من الضباط والجنود يخشون أن يخدموا في دولةٍ غير التي أقسموا على الدفاع عنها في حال تنفيذ هذه الخطة".

استياء الجيش

ولم يكن ما كتبه صموئيل بعيدا عن محتوى تقدير الموقف الذي حمله رئيس الأركان هرتسي هليفي إلى رئيس الوزراء نتنياهو عندما طلب موعدا عاجلا معه في آخر الشهر نفسه؛ فقد تضمن ما نُشر عن ذلك التقدير في الإعلام العبري تشخيص مستوى الاستياء الذي كانت بوادره ظاهرة في الجيش، وتحليلا لأبعاده، وتنبيها إلى أنه قد ينتقل بسرعة من قوات الاحتياط التطوعي التي تُستدعى لإجراء تدريبات لفترة محدودة كل عام، إلى ضباط وجنود الاحتياط الذين يستمرون في الجيش بأشكال مختلفة بعد فترة خدمتهم الإلزامية. ولم يستعد هليفي في تقديره أن يصبح هذا الاستياء مثل كرة ثلج تتدحرج حتى تصل إلى صفوف القوات النظامية أيضا.
ورغم أن إعلان إسرائيل الحرب، ردا على الهجوم العسكري الذي باغت مستوطنات غلاف غزة يوم 7 أكتوبر/تشرين الأول، جمَّد خطة إصلاح القضاء، وأوقف بالتالي الصراع الذي أحدثته، وأدى إلى إعادة توحيد الأحزاب والمجتمع، فلم تعد العلاقة بين المستويين السياسي والعسكري إلى طبيعتها، إذ تبين فعلا أن أزمة إصلاح القضاء خلقت شيئا من عدم الثقة بين المستويين، وبخاصة عندما تأخر قرار إطلاق الحرب البرية، وهذا ما نشرته صحيفة "يديعوت أحرونوت" يوم 23 أكتوبر/تشرين الأول، ولم يصدر نفي له من أي من الطرفين. 
والمهم أن الصحيفة المعروفة برصانتها اعتمدت على ما استنتجه مُحرّروها من أكثر من تصريحٍ للمتحدث باسم الجيش، عندما تكررت إشارته إلى انتظار موافقة الحكومة على دخول القوات البرية إلى غزة. وهذا فضلا عن أن اجتماع نتنياهو مرتين في أيام قليلة مع اللواء المتقاعد إسحق باريك، الذي دعا علنا إلى التروي في الدخول البري، لم يكن مقبولا لدى قادة الجيش.

هل يمكن أن يُقدم الجيش، على التدخل لإزاحة الحكومة، ولو تحت شعار حماية النظام الديمقراطي؟

وثمة سببان آخران للتباعد المرتبط بمسار الحرب: الأول عدم سماح نتنياهو للجيش، بناء على طلب أميركي، بشن عملية استباقية في الشمال عقب إعلان الحرب. والثاني قبول مجلس الحرب الثلاثي ومعظم وزراء الحكومة، هدنة تبادل الرهائن والأسرى. ويمكن أن نضيف سببا ثالثا هو محاولة نتنياهو التنصل من مسؤوليته عن التقصير في الاستعداد لهجوم 7 أكتوبر/تشرين الأول، وإلقائها كلها عليهم. فلم يحدث مثل ذلك بشأن المسؤولية عن التقصير في توقع الهجوم المصري والسوري في أكتوبر/تشرين الأول 1973. لم تحاول رئيسة الوزراء وقتها غولدا مائير التنصل من المسؤولية، بل بادرت بالاستقالة بعد انتهاء الحرب وقبل صدور تقرير لجنة التحقيق. ولهذا كان الخلاف بشأن المسؤولية عن التقصير محصورا بين جهازي "الموساد"، و"أمان" الاستخباريين.

تباعد مفتوح؟

ومع ذلك يُبدي قادة الجيش أقصى درجة من الانضباط وضبط النفس حتى الآن. لكن لا يبدو أن التباعد سيبقى عند هذا الحد، إذ لا يُستبعد أن يزداد في إحدى حالتين؛ الأولى إذا طال أمد الحرب، واضطر نتنياهو إلى قبول وقف إطلاق النار أو هدنة إنسانية طويلة تحت ضغط أميركي، واستطاع استصدار قرار من الحكومة في هذا الاتجاه، قبل تحقيق كل الأهداف التي يصر عليها قادة الجيش؛ فهذه الحرب بالنسبة إليهم قضية "شرف عسكري" لرد الاعتبار بعدما حدث في هجوم 7 أكتوبر/تشرين الأول، وقد لا يقبلون وقفها قبل أن يُحقّقوا ما يسعون إليه ويُعيدون تأكيد قوة الردع الإسرائيلية.
والحالة الثانية أن يماطل نتنياهو الأكثر خوفا من أي وقت مضى على مستقبله السياسي، ووزراء مُتشدّدون يبدو واضحا مدى ولعهم بالسلطة، في تقديم الاستقالة المتوقعة للحكومة عقب انتهاء الحرب. فليس ممكنا إجراء انتخابات مبكرة دون استقالة الحكومة، ومن ثم إقدام الكنيست على حل نفسه. ولا ننسى أن هذه الحكومة هي الأقل إيمانا بالديمقراطية منذ 1949، إذ يستمد الوزراء الأكثر تشددا فيها مبادئهم من التوراة وتعاليم حاخاماتهم، ويستهينون بما عداها.
والسؤال الجديد تماما في تاريخ إسرائيل هو: هل يمكن أن يُقدم الجيش، في هذه الحالة أو تلك، على التدخل لإزاحة الحكومة، ولو تحت شعار حماية النظام الديمقراطي، ويتولى السلطة بشكل مؤقت حتى إجراء انتخابات جديدة؟
السؤال منطقي رغم جدته، لأن مُستجدات الفترة الراهنة في إسرائيل داخليا وإقليميا غير مسبوقة. ولكن الجواب يبقى بالنفي كما كان قبلها فالتقاليد التي أُرسيت واستمرت لأكثر من سبعة عقود صارت راسخة. وفي مقدمتها إدارة الخلافات بالوسائل السلمية، سواء عبر الانتخابات أو الاحتجاجات في الأطر التي يُحدّدها القانون، والفصل التام بين الجيش والسياسة، وعدم تدخل العسكريين في عملية صنع القرار طول مدة خدمتهم، إلا بناء على طلب الحكومة.
ولهذا يبقى احتمال الانقلاب العسكري مستبعدا ما لم تحمل الحرب الراهنة مستجداتٍ أخرى أقوى تُزعزع التقاليد الديمقراطية في إسرائيل.

font change