"حمّى البحر المتوسط"... أزمة الهوية في زمن الاحتلال

أحلام مقصوفة وكوابيس لا تنتهي

"حمّى البحر المتوسط"... أزمة الهوية في زمن الاحتلال

يبدو الكلام عن الكتابة في زمن الحرب والقتل الغاشم الذي يصل إلى مستوى الإبادة، نوعا من الرفاهية، لكن ألا تزيد هذه الفكرة نفسها، فكرة الامتناع عن الكتابة، من صعوبة الحياة، ألا تجعلها خانقة وتقلل فرص الحديث إلى الآخر - أياكان نوع هذا الآخر وليس بالضرورة أن يكون الغرب – في حين أن الكتابة نفسها وسيلة لتسجيل اليومي وحفظ أثر الحقبة ومساءلة العالم وكذلك الحديث إلى الذات؟

في فيلم "حمّى البحر المتوسط"، حديث عن الكتابة، أو بالأحرى عن محاولة الكتابة، المحاولة التي قد تستغرق الحياة كلها وتحولها إلى محض انتظار ممض لهذا الفعل، وتحضير طويل ومشتت له. على ضوء هذا الانتظار، أو بالأحرى في ظله، ألا يتوجب إعادة النظر إلى العالم، وربما إدانته، قبل كل شيء حين يحرم الكاتب من الإلهام، ويسلبه أعز ما يملك ألا وهو الخيال؟

وليد، يؤدّي دوره عامر حليحل، هو مشروع هذا الكاتب، الذي يشتغل بدوره على مشروع رواية ما، لا نعرف عنها شيئا، ولعله هو أيضا يجهل عمّا ستكون، على الرغم من أنه، كما سنفهم لاحقا، قد غادر وظيفته الرسمية، وترك لزوجته عُلا، تؤديها عنات حديد، التصرف في الأمور المتعلقة بالحياة المادية لأنها لا ينبغي أن تشغل عادة عقول الأدباء. مع هذا، فإنه لا يكتب شيئا، "وخياله الواسع" كما كان يقول له أخوته حين يختلق الكذبات صغيرا، لا يُسعفه سوى في إنتاج الكوابيس. "حمى البحر المتوسط" يبدأ بأحدها، إذ يرى وليد نفسه في حوار هادئ وغريب مع أخ له حول احتمال أن يكون قد قتل أمه، ولا تثير تلك الفكرة لدى الأخ سوى وصلة هزلية من التبرير. من هنا تدشن المخرجة مها الحاج أسلوبها السينمائي، فبدلا من استعراض مسرح الجريمة مثلا، أو متابعة الأم المتوفاة على سرير الإسعاف، تركز الكاميرا على الثرثرة الساخرة بين الأخوين.

يمكن النظر إلى الفيلم باعتباره كابوسا ممتدا للكاتب الفلسطيني الذي يريد انتزاع الحق في الحياة والإبداع مثل كل كتّاب العالم

لهذا يمكن النظر إلى الكثير من المواقف التي سيصادفها وليد لاحقا في "الحمى" على أنها كوابيس لا تنتهي. كما يمكن النظر إلى الفيلم نفسه، في أحد مستويات التأويل باعتباره كابوسا ممتدا للكاتب الفلسطيني الذي يريد انتزاع الحق في الحياة والإبداع مثل كل كتّاب العالم، والذي من دون هذا الحق، قد لا يجد لوجوده معنى، ويفقد الرغبة في الحياة.

"حمى" الوجود

يعيش وليد حياة مستقرة وموسرة، عائلته الكريمة لا تكابد ماديا، وحتى أسرته الصغيرة لديها ما يكفي احتياجاتها، والفيلم ينزه أعيننا بين آن وآخر، في شوارع حيفا الجميلة، حيث يقع بيته. الإضاءة تعبّر عن دفء ما، وكذلك تفاصيل الديكور الداخلي في شقته، وفي حفلة عيد ميلاد الأم، التي تبدو مفارقة ساخرة من الكابوس الذي راوده في البداية، لكن وراء هذا الدفء نوع من الذبول والاصفرار سيتكشف شيئا فشيئا. أولا نشعر به، لكننا لا نستطيع أن نضع أيدينا عليه، يتجلّى ربما في اختياره اسمَي ابنيه: نور الابنة وشمس الابن. كأنها محاولة مواربة لاستدعاء الضوء إلى هذه الحياة، والكتابة في طبيعة الحال محاولة أخرى في السبيل نفسه.

نقترب للمرة الأولى من أزمة وليد، وهي ليست أزمته منفردا بالطبع، حين يمرض ابنه في المدرسة ويذهب معه لزيارة الطبيبة التي تحاصره بأسئلة إدارية باردة من قبيل: ما هي جنسيتك؟ ما هي ديانتك؟ وليد كغالبية الكتّاب يفضل أن يقول فقط إنه فلسطيني، لكن الكلمة لا تعجب الطبيبة، وترد عليه بتهديد ضمني، إن لم يُخبرها بديانته – الديانة هنا وفقا لوليد هي طريقة للتصنيف والاستبعاد – فلن تتمكن من تسجيل الاستمارة، وبالتالي لن يحصل شمس على علاج.

شمس نفسه، يلعب دوره الطفل سمير إلياس، الذي يمرض بانتظام كل يوم ثلاثاء، يمثل مرضه استعارة أخرى عن هذه الأزمة، أو الحُمّى حسب تعبير الفيلم نفسه، فمعاناته تتزامن مع الدرس الأسبوعي للجغرافيا. والمسألة ليست أن شمس يكره الجغرافيا، كما يحق لأي طفل كراهية أي مادة دراسية، لكن ببساطة أن ما عليه حفظه وترديده في هذه الحصة يتناقض مع ما يعلمه إياه والده في البيت، القدس عاصمة فلسطين، وليس إسرائيل. المعلمة تنصح الصغير بأن يقول العكس، كي لا يتسبب لنفسه وللآخرين في متاعب. ولا تستطيع أن تفهم أن درس الجغرافيا بالنسبة إلى التلميذ الصغير كابوس يهدد هويته الإنسانية المستقبلية. هذا نوع من المشاكل، لا يستطيع وليد أن يحله، لذا يعبّر جسد الطفل عن عجزه عن الاستيعاب والتلاؤم، واضطراره إلى الخنوع لمنطق القوة الذي تفرضه عليه المعلمة، بهذه الحمّى الأقرب لأن تكون حمى وجودية. لكن الطبيبة لا ترى في مواجع الطفل الفلسطيني إلا مقدار تشابه الأعراض مع مرض شائع في هذه المنطقة من العالم، وهي التي تعنون بها مها الحاج فيلمها: حمّى البحر المتوسط.

جار جديد

بالضبط حين نعتقد أننا فهمنا مأزق وليد، يظهر جلال، يؤدّي دوره أشرف فرج، وهو جار صاخب وثقيل الظل، ينتقل حديثا للسكنى قرب وليد، ويقتحم عنوة روتين انتظاره الرتيب للكتابة، يسأله في التعارف الأول: شو بتشتغل؟ فيجيبه وليد: بحاول أكتب روايات. ليعاجله مدهوشا: هي الكتابة بتطعمي خبز؟ كأنه بسؤاله يستفسر عن جدوى العملية، في ما هو أبعد من المال والطعام. كأن جلال يريد أن يقول: وهل تكفي الكتابة هوية؟ مع زوجته يصف وليد المتذمر على الدوام، جلال بالجار "الزنخ"، ويحاول باستمرار أن يتهرب من حواراته التي لا معنى لها في نظره.

غير أن جلال، في حال تجاوز عتبة الاسم، لا يُمكن اختزاله ولا اختصاره في موقف واحد. صحيح أنه أبدى انزعاجا من موقف وليد النضالي، وهو يصرّ على تسمية الأماكن للسائلين في الشارع بأسمائها الفلسطينية القديمة، وليس الإسرائيلية الحديثة والمتداولة، وتَحمّل أن يستمع من وليد الى محاضرة خطابية في الانتماء: "تعرف أنه المشكلة في الفلسطينيين الجهلة اللي زيك". إلا أنه من جانب آخر، كان يحب حصة الشعر العربي في المدرسة، من بين جميع الحصص ولا يزال يحفظ عن ظهر قلب بعض أبياته. يستمع جلال إلى أغنيات جورج وسوف بصوت مرتفع يُغيظ وليد عدا عن نباح كلابه المستمر الذي يتسلط على أوقات كتابة وليد، مع ذلك هو موجود دائما عند الحاجة، ولا يتقاعس عن استغلال مهاراته كحرفي في إصلاح مشاكل الصرف الصحي التي يعجز أمامها وليد.

المسألة ليست أن شمس يكره الجغرافيا، كما يحق لأي طفل كراهية أي مادة دراسية، لكن ببساطة أن ما عليه حفظه وترديده في هذه الحصة يتناقض مع ما يعلمه إياه والده في البيت، القدس عاصمة فلسطين، وليس إسرائيل

إلى هذا يستدعي "حمّى البحر المتوسط" إلى الذهن فيلم "ذا بانشيز أوف إنيشرين" الذي عُرض العام الماضي، يستدعيه في تأثير الحرب على صداقة رجلين على طرفي نقيض، أحدهما فنان يصمم على قطع العلاقة مع الآخر الإنسان العادي لأنه يصمّم على إهدار الوقت في أحاديثه التافهة. لكن المسألة ليست كذلك تماما في فيلم "الحمى" الفلسطينية. في مستوى آخر من التأويل يتناص الفيلم مع القصة الدينية "موسى والخضر"، لمّا يعتقد وليد أن عالم جلال الغريب والغامض قد يأخذه في رحلة تمكنه من الكتابة. على الرغم من أنه يعبّر عن فكره هذا بسذاجة تامة وهزلية: "أنا بكتب رواية عن العالم الإجرامي، وأبطالها بيشبهوا أصحابك وبيشبهوك أنت، بدي ياك تساعدني بالبحث".

في البداية لا يرى جلال في وليد صدق العزم على مرافقته في الرحلة ولا في ليونة جسمه وحسه الأخلاقي الفوقي بالصواب والخطأ ما يعينه على الصبر. وليد ينتمي إلى طبقة اجتماعية أخرى، وعالم آخر، بينما جلال يرزح تحت وطأة ديونه ويعيش مرتحلا ومتربصا بسبب تهديدات دائنيه، وفي هذا العيش يجترح من الذنوب ما لن يقبله وليد. لهذا يضع جلال شروطه: "أوعك بحياتك، بحياتك تحكم علي". على وليد أن يرى ويصمت، إن كان يريد لهذه الرحلة المشتركة أن تطول.   

جلال وشمس

الإحالة على بعض القصص الدينية، لا تتوقف في "حمّى البحر المتوسط" عند هذا. فالإشارات الإسمية أولا الابن شمس ثم الجار جلال، مع طبيعة الرفقة التي تشغل تدريجيا مساحة لافتة في حياة وليد، تجعلنا نصدق أن رابطة ما قد بدأت تنشأ بين الرجلين. كتلك مثلا التي كانت بين جلال الدين الرومي وشمس التبريزي. لكن سيناريو الفيلم، في مستوى القراءة الثالث، لا يمكن أن يتسع لفكرة القداسة، ولا حتى للحب الكبير الذي قد يربط بين رجلين متناقضين ظاهريا كأقصى ما يكون التناقض، مع أننا كدنا نصدق ذلك وتتساءل زوجة وليد وهي تراه يتحرك بحيوية فجأة وقد نسي اكتئابه المزمن: "كيف تحول جلال من شخص تحتقره إلى صديقك المفضل؟".

لكن وليد لا يجيب، ولا حتى بحجة البحث عن الإلهام – مثّل لقاء شمس التبريزي بالرومي الإلهام الأبرز وبفضله صار أشهر شعراء الصوفية – على العكس يفاجئنا ويفاجئ جلال نفسه، الذي كدنا نظن ألا شيء يفاجئه، برغبته في التواصل مع قاتل مأجور، هذه المرة ليست من أجل الإلهام ولكن من أجل أداء مهمة على الأرض.

 الكثير من مشاهد هذا الفيلم، لا يثير سوى التمني الحزين بأن يكون محض كابوس يفيق منه البطل، غير أن الحصار ليس كابوسا، ونتائجه ليست خيالية

تمسي هذه المهمة نقطة الفراق التي لا حياد عنها بين الرجلين، لكن عندها أيضا تضيع الفروق بينهما، فروق الطبقة والوضع الاجتماعي ونظافة السجل الإجرامي من دناسته، هنا فقط يتماثل  الرجلان إلى حد التطابق، بل يصبحان كأنما أحدهما إذ ينظر إلى الآخر ويحكم عليه كأنما ينظر في مرآة ويحكم على نفسه. كلاهما في حالة استلاب تام من قوى خارجية غاشمة، قوى لا يعبّر عنها الفيلم صراحة، إلا في الخلفيات العابرة لنشرة الأخبار التي تتحدث عن القتلى والجرحى الفلسطينيين وأخبار الصراع الفلسطيني الإسرائيلي، في بيت وليد المريح والدافئ.

الكثير من مشاهد هذا الفيلم، لا يثير سوى التمني الحزين بأن يكون محض كابوس يفيق منه البطل، كمشهد غسيل السيارة ونوبة الذعر التي تصيب وليد وهو محاصَر داخلها، وكذلك مشهد الصيد في الغابة. غير أن الحصار ليس كابوسا، ونتائجه للأسف ليست خيالية، بل ملموسة ومتحققة ونحن أيضا نتابعها يوميا في نشرات الأخبار.

* يمكن مشاهدة الفيلم حاليا عبر منصة "شاهد"، وكان عُرِض أخيرا في سينما زاوية القاهرة. ترشح "حمّى البحر المتوسط" ليمثل فلسطين في مسابقة الأوسكار العام الماضي، فئة الفيلم الأجنبي، وذلك بعدما عُرِض للمرة الأولى في مهرجان كان وحصدت مخرجته وكاتبته مها الحاج عنه جائزة السيناريو في قسم "نظرة ما".

font change

مقالات ذات صلة