هل أرسطو هو "مصّاص دماء المسرح الغربي"؟

سجال بين أولوية النص أو الجسد

 Sara Gironi Carnevale
Sara Gironi Carnevale

هل أرسطو هو "مصّاص دماء المسرح الغربي"؟

المسرح أبو الفنون، هكذا قيل، وهو صحيح. لكنّه، على مدار القرون والسنوات، وما أنتج من نظريّات وحركات وتجارب، تجاذبت هنا وتناقضت هناك، تقدّمت وتراجعت، لا يزال حتى الآن في دائرة النقد.

ضمن هذا الإطار، صدر قبل سنوات كتاب "غريب" وعنيف ذو عنوان متفجّر، "أرسطو مصّاص دماء المسرح الغربي" (2007) للناقدة فلورانس دوبون (صدر عن دار أوبييه في فرنسا)، حلّلت فيه الباحثة تراجع هذا الفن، في دراسة تدور مبدئيّاً بين دور النص، وقرينه الجسد، أو الأحرى من يتحمّل الأولويّة في العمل المسرحي: الكلام (السرد، النص) أو الجسد (الاحتفال، الطقوس، الموسيقى، الرقص). ولعلّ الأفكار التي تناقشها المؤلفة في كتابها هذا، لا تزال محلّ نقاش بين جميع المهتمين بالمسرح ونظرياته إلى يومنا هذا.

تحليل الباحثة جاهز في مراميه، أسئلة جواب جاهز. تقول: "كان المسرح قديما ممارسة حيّة، منخرطة في الطقوس الاحتفاليّة الكبيرة، وفي الأعياد الربيعيّة التي تمنحه دلالاته ومعانيه الاجتماعيّة والسياسيّة، حتى جاء الفيلسوف الإغريقي أرسطو بنظريّته المسرحيّة المعروفة، وأفسد كل شيء".

فنظريّة أرسطو، بحسب المؤلفة، من خلال وضع تحديد مفهومي للتراجيديا، حَرَمَ المسرح من عمقه "التكويني" ليجعل منه شيئا آخر أي ما نُسمّيه "أدبا" أو "سردا".

تجاوز السجالية

لكن الباحثة تجاوزت كثيرا السجاليّة، بين مَن يرون المسرح نصّا، ومَن يرونه جسدا. فهناك مَن ينحاز الى الأوّل، ومَنْ ينحاز الى الثاني، أي بين مَن يريدون إلغاء النص، وآخرين يريدون إلغاء الجسد. بمعنى آخر تدمير "ديكتاتوريّة" الكتابة (أو الكتاب). فالمؤلفة ترى أنّ نظريّة أرسطو هي نتاج علمي "آلة حربيّة موجّهة ضد المؤسّسة المسرحيّة"، لكن تعرّضها لأرسطو لا يمسّ الثقافة المشتركة للإغريق: الموسيقى، الأغاني، الكوريغرافيا، التي تتضاءل في خدمة الأحداث المسرحية. وهذا يعني بالنسبة إلى المؤلفة أن الفعل الاجتماعي محروم من عمقه الطقوسي (الاحتفالي) أو السياسي، فالمسرحيات تصبح رهينة التحفّظ الأدبي، مختزلة أو محدّدة في حكايتها الخاصة التي لم يعد من هدف لها سوى خدمة نظريّة فيلسوف، أي تصبح القصة (السرد) وليس الفعل الطقوسي الذي يحرّك المشاعر، بل ينحصر في المدى الثقافي.

لا تتوقف المؤلفة عند هجاء أرسطو، بل تطاول "النيو أرسطيين – القدماء والحداثيين" الذين يمكن استخلاصهم في موجات تاريخيّة

لكنها لا تتوقف عند هجاء أرسطو، بل تطاول "النيو أرسطيين – القدماء والحداثيين" الذين يمكن استخلاصهم في موجات تاريخيّة. فالعصر الكلاسيكي مثلاً ألغي في القرن السابع عشر حيث لم تكن تنشر المسرحيات إلا بعد تقديمها (إنّها أوّل ثورة أرسطيّة حديثة مراوغة)؛ وتلتقي الواقعيّة بعدها في منتصف القرن الثامن عشر: فغولدوني يطرد أرلكان قاطعاً الينابيع الشعبيّة، وينشر الكاتب الفرنسي ديدرو بيانا: "من أجل مسرح للإيهام الواقعي"، و"هذه الثورة الثانية غير موفّـقة"، لأنّها تبقي النص محوره، فالمخرج يحلّ محلّ اللوجستي في نهاية القرن الثامن عشر ووظيفته "اقتراح قراءة النص أي جعل الخشبة مساحة للتمثيل تربط الممثل بالجمهور، بل فضاء وهمي مخصّص بجمهور يحلم فيه الدراميون، حيث يتحرّك الجمهور للمرة الأولى بين المنصّة والصالة، لأنه يتوجّه إلى مسرح البولفار. أما الثورة الثالثة في القرن العشرين، فلم توفّر فيها الكاتبة أحدا ممن صنعوا المسرح في تلك المراحل "فبالرغم من أن إنجازاته الثوريّة مناهضة للأسطوريّة كما فعل برشت في مسرحه الملحمي، من خلال اختزاله العمل بالحكاية، وكذلك في ثورة المخرج أنطوان فيتيز الذي يُجسّد مشروعه من تبيّن نوع من سيميولوجيا العرض"، لكن المؤلفة تُلحق هذا المخرج الكبير بزملائه السابقين، لأنّه أبقى النص في دائرة "العرض" (جمع بين الجسد والنص).

Getty Images
تمثال نصفي لأرسطو

استبداد النص

ثمَّ تنتقد المؤلفة بشدّة المُنظّر والباحث المسرحي الألماني هانز تي ليهمان، لأنّه "لم يُغيّر شيئاً، فاستبداديّة النص تبقى منتصرة عنده... على الرغم من ادّعاءاته كسر الحواجز بين عناصر العرض".

إذا، لم تترك الباحثة أثرا لأرسطو، لا من خلال نظريّته، ولا من خلال مَنْ "تبنّوه" أو تجاوزوه. فمشكلتها النص في المسرح، والبديل الوحيد يكمن في الاحتفاليات والطقوس، والأعياد.

من هنا، يلتبس الأمر عند هذه الباحثة، فالطقوس وما إليها، لا يمكن أن تكون سوى مفردة، ولا تشكل "مسرحيّة"، وهذا ما فعله العديد من المخرجين العرب والأجانب الذين اختاروا مادة أعمالهم انطلاقا من هذه المعطيات الهشّة. فالطقوس لا تشكّل عملا مسرحيّا، لأنها مجموعة من الأساطير الشفويّة أو المكتوبة، تظهر في المناسبات الدينية والاحتفالات الشعبية. ذلك أنّ هذه الظواهر تحتاج إلى مَنْ يُمسرحها، بحسب الرؤية. فهي في تعرّضها للنص كمرجع أوّل وأخير، لا تلغي الكاتب المسرحي فقط بل المخرج، والسينوغراف. ولو راجعنا المسرح العربي الحديث في مختلف البلدان العربيّة، لوجدنا أن ما تطالب به الباحثة، موجود في عشرات الأعمال المسرحيّة المستخلصة من الطقوس والعادات والمناسبات، لكنّها كلّها مصوغة صوغا دراميّا، فنيّا، ينتمي إلى الرؤية المسرحيّة، منتمية إلى اتجاهات ومدارس، كالبرشتيّة، أو مسرح القسوة، أو المسرح الفقير، أو حتى المسرح الكلاسيكي، خاضعة لنظرة المخرج الذي يُعيد تركيبها في بنية أو في شكل، سواء أكان شعبيّا، أو نخبويّا. فهي تلغي، من خلال مقولتها، الجمهور نفسه، فتختزله في نمط واحد يتكرّر في كل مناسبة، بل إنّها تتجاوز ما يمليه الزمن من تبدّل وتغيّر في المذاهب والاتجاهات المسرحيّة، وكذلك في الجمهور، وكأنها تضع كلّ ذلك في ثلّاجة أبديّة.

إعدام الثورات المسرحية

بل هي، أعدمت كل "الثورات" المسرحيّة بحداثيتها، وأشكال تطوّرها: فالحداثة بالنسبة إليها، جامدة في ظواهر تاريخيّة ثابتة، وكذلك الجمهور. ومَنْ قال لها إنّ الجمهور الذي يمارس الطقوس والاحتفالات، يعتبرها "مسرحا؟".

أمّا أرسطو، فالعالم المسرحي يعرف أن الحداثات المسرحيّة قد تجاوزته، لكنها لم تلغِ تركيزه على النص، فإذا كانت الباحثة تبحث عن الجسد والألوان والغناء والعويل (هناك طقوس قائمة على البكاء والعويل العنيفين)، فهذه العادات قابلة للتغيّر، وكثيرها انقرض، إلا إذا فتحنا القبور وانتشلنا منها ما يُرضي الاحتفاليات. وهي تعرف أنّ النص لم يعد أولا وأخيرا في المسرح الحداثي، بل صار مادة يشتغل عليها المخرج مستمدّا منه دلالاته الخاصة. من هنا علينا أن نناقش ديكتاتوريّة المخرج على النص، وليس ديكتاتوريّة النص على المخرج. ونتساءل: لماذا باتت النصوص المسرحيّة الكبيرة اليوم تحت رحمة المخرج، لشكسبير أو مارلو أو موليير، أو ألفريد فرج أو إبسن، أو سترندبرغ، وسوفوكل وتشيخوف وسعد الله ونوس؟

لا نعرف، حقّا، إلى أين يسير المسرح في العالم، وخصوصاً عندنا في العالم العربي فمصيره مجهول، في ظلّ كلّ ما نشهده من ظواهر، أبرزها الذكاء الاصطناعي

بل لماذا علينا ألا نطرح أسئلة حول لزوم أن يكون المخرج أحياناً كثيرة هو كاتب النص، مؤول معانيه أو مدمّر سياقه الأصلي. هذا التأويل من حقّ المخرج، لكن ليس له أن يدمّر النص، ويختزله، كأنه هو صاحبه. وقد رأينا عشرات الأعمال تفتك بنصوص كبار الكتّاب وتحذف ما تشاء منها، أو تضيف ما تشاء. فالنصّ الذي كان يعتبر "مقدّسا" لا يُمسّ في القرون الماضية، بات اليوم فريسة المخرجين. قد نقبل أحيانا أن يقوم بالمهمة مخرجون كبار، لكن قبولنا هذا يجعل المسارح بلا نصوص، خصوصاً عندما نشهد اليوم على ظواهر الارتجالات في المسرح الشعبي أو الشعبوي والتجاري والنخبوي.

نحن نعتبر أن النص المسرحي هو الضحيّة الجاهزة منذ بداية القرن الماضي حتى اليوم. فهذه الباحثة تريد مسرحا لا يتغيّر، جاهزا وبلا دلالات، جامدا في طقوسه الثابتة، في جمهور يتغيّر ويتحوّل: كيف نفعل إذا كانت الطقوس جامدة خالدة، والعالم يتغيّر تغيّرات سريعة، فهي لا تلغي النص بمقولتها، بل المسرح، باعتباره فنّا يقوم أساسا على التطوّر، وينبثق من عمق التحوّلات الاجتماعيّة والسياسيّة والفنّية. أَوليسَ هذا ما يفسّر قيام مذاهب واتجاهات دراميّة عديدة على مدار القرن العشرين؟

Getty Images

أمّا اليوم، فلا نعرف، حقّا، إلى أين يسير المسرح في العالم، وخصوصا عندنا في العالم العربي فمصيره مجهول، في ظلّ  كلّ  ما نشهده من ظواهر، أبرزها الذكاء الاصطناعي ومحاولات تغيير روح المدن في العالم، كأنّما المدينة في "الحضارة الجديدة" مهدّدة بفنونها، وآدابها، وأفكارها، بل كأنّنا بتنا نعيش زمن ما بعد الإنسان نفسه.

هنا بالذات التحدّي الأكبر الذي ينتظر المسرح ومختلف الفنون.

font change

مقالات ذات صلة