فطين عبد الوهاب: عرّاب السينما الكوميدية

ترميم فيلمه "عفريت مراتي" ضمن "البحر الأحمر السينمائي"

فطين عبد الوهاب (1913 - 1972)

فطين عبد الوهاب: عرّاب السينما الكوميدية

بعد النجاح الذي حققه مهرجان البحر الأحمر في الدورة الماضية في ترميم فيلمين من كلاسيكيات السينما العربية هما "غرام في الكرنك" و"خلي بالك من زوزو" بإدارة مدير البرنامج العربي الكلاسيكي أنطوان خليفة، يستمر المهرجان هذا العام في هذا المسار، وذلك بعقد اتفاق تعاون مع الشركة المصرية لمدينة الإنتاج الإعلامي، التي أثمرت عن ترميم اثنين من الأفلام العربية الكلاسيكية في إطار برنامج "كنوز البحر الأحمر" المهتم بعرض روائع الأفلام الكلاسيكية، هما "انتصار الشباب" للمخرج أحمد بدرخان (1941) غنائي استعراضي، والثاني "عفريت مراتي" (1968) للمخرج فطين عبد الوهاب.

نقف في ما يأتي عند مسيرة المخرج فطين عبد الوهاب، لمناسبة ترميم أحد أبرز أفلامه، وأيضا لمناسبة مرور ذكرى مرور 110 سنوات على ولادته. يعدّ فطين حالة فريدة وأصيلة في التراث السينمائي العربي الكلاسيكي، وتشكّل إعادة أحد أفلامه ضمن فعاليات الدورة الثالثة من مهرجان البحر الأحمر اليوم مساهمة فاعلة في الحفاظ على هذا التراث الثري. من خلال تلك التجربة، يعزّز فهم الجمهور من الأجيال الصاعدة نحو مقاييس النجاح في سينما الأبيض والأسود، ويقرّبهم من فهم الآليات الدقيقة لصناعة الفيلم، بمراعاة السياق الزمني والظروف التاريخية والاجتماعية والاقتصادية التي سادت آنذاك، ويسلط الضوء على الدور المهم الذي يؤدّيه كل مخرج تجاه ريادة اللغة السينمائية.

يعتبر الفيلم المرمّم، "عفريت مراتي"، وهو من تأليف الفرنسي لوسيان لامبير، الذي عرض قبل 55 عاما، أيقونة الأعمال السينمائية المبهجة التي تحدّت الزمن، وهو يتناول الفراغ العاطفي لسيدة منزل تدعى عايدة (شادية) في ظل انشغال زوجها الدائم (صلاح ذو الفقار). تتقمّص عايدة شخصيات الأفلام التي تشاهدها دون وعي حتى تقع في مشاكل ومواقف محرجة مع زوجها ودائرة معارفهما المشتركة.

يعتبر الفيلم المرمّم "عفريت مراتي"، وهو من تأليف الفرنسي لوسيان لامبير، الذي عرض قبل 55 عاما، أيقونة الأعمال السينمائية المبهجة التي تحدّت الزمن

كان هذا التعاون الثالث بين الثلاثي (فطين وشادية وصلاح) بعد تجربتي "مراتي مدير عام" (1966) و"كرامة زوجتي" (1967)، وبخلاف الفيلمين السابقين، جاءت تجربة "عفريت مراتي" مختلفة، كونها غنائية هذة المرة، وأعدّ حينها الموسيقار منير مراد الأغنيات لتعزيز فكرة التقمّص بأشكاله المتعدّدة مثل تقمّص عايدة لدور الغانية في أغنية "إيرما لادوس" وفي جزء آخر لحن أغنية "فارس أحلامي" التي تختزل في تنقلاتها الشخصيات التي تتمنّى البطلة أن تتمثل في شريك حياتها وتتوق إليها مثلما تراها في أفلام السينما. استطاع فطين عبد الوهاب دمج كل هذا بعيدا من استجداء العاطفة لبطلة يفترض أنها مريضة نفسيا، وحافظ على الإيقاع الكوميدي الذي تطلب من شادية المحاكاة البارعة للشخصيات المتنوعة، وهو ما جعل "عفريت مراتي" مجموعة أفلام داخل فيلم، ليترجم فرادة فطين عبد الوهاب في إبداع نسيج قوي في سرد الفيلم وحبكته من دون أن يشعر المشاهد بالتشتت.

كيف وصل فطين عبد الوهاب إلى هذه الليونة الفنية في إنجاز الفيلم الكوميدي، حتى بات عرّابه الأبرز في العالم العربي؟

بدايات

ولد فطين عبد الوهاب في دمياط عام 1919 ونشأ بين شقيقين سبقاه إلى عالم السينما، هما الممثل سراج منير والناقد والمخرج حسن عبد الوهاب. تخبرنا سيرته اللاحقة إلى أي مدى كان الشقيق الأصغر متأملا ومراقبا لما ينجز في الوسط السينمائي في محيط مليء بالثراء والغنىى، من قارئ نهم في مكتبة شقيقه المتعدّدة اللغات، إلى مساعد إنتاج، ثم مساعد إخراج، مرورا بالإشراف على كتابة السيناريو، ثم رحلته الاستكشافية إلى استديوهات هوليوود في مطلع الخمسينات والتعمق في صناعة الأفلام.وأخيرا، أصبح فطين عبد الوهاب خليطا ساحرا من الذكاء والفطنة من خلال تناوله الفكاهي للقضايا الاجتماعية بمقادير فنية مضبوطة.عندما نلقي نظرة عامة على مسيرة فطين عبد الوهاب وتطورها، نلاحظ منذ البداية أن التفكير خارج الصندوق من سماته الأساسية. فبعد تجربة ميلودرامية في فيلمه الأول، "نادية" (1949)، قدّم أولى تجاربه الكوميدية في فيلمه الثاني، "جوز الأربعة"، عام 1950، مع ممثلين لا ينتمون إلى عالم الكوميديا، في مقدمهم كمال الشناوى ومديحة يسري، ولانعلم على وجه التحديد إن كانت هذا التركيبة مقصودة أم أنها نتجت من ظروف إنتاجية معينة، لكن ما كان جليا بعد ذلك هو استمرار هذه المغامرة عبر مسافات زمنية متباينة مع أكثر من نجم لكسر قوالب التأطير في نهاية الخمسينات وعقد الستينات. فهل نجحت هذه المغامرة مع الجميع؟

الجواب بنسبة كبيرة: نعم. بداية من فتاة الدراما المنكوبة فاتن حمامة، التي كانت تعاني دوما من المظلومية في أعمالها آنذاك، إلى أن حوّلها فطين إلى ممثلة خفيفة الظل في فيلم "الأستاذة فاطمة" كما ظهر معها في الفيلم الممثل عبد الوارث عسر على القدر نفسه من الحس الكوميدي.

"عفريت مراتي" ضمن البحر الأحمر السينمائي

ولكي يختلف فطين عن النماذج النمطية المرتبطة بفتى الشاشة، نفض عن عمر الشريف صورة الدونجوان الصارخة وحولها إلى شخصية براغماتية وانطوائية تفتقر إلى الحد الأدنى من التواصل مع الجنس اللطيف، كما أنقذ رشدي أباظة من أدوار الفتى الشرير المفتول العضلات إلى بطل رومانسي معشوق النساء في أعمال تتسيدها كوميديا الموقف. لكن المفاجأة الكبرى تمثّلت في تغيير جلد فنان المسرح يوسف وهبي من الجدية الصارمة إلى ممثل في قمة الطرافة والتلقائية، حمل ثقل فيلم "إشاعة حب" (1961) على كتفيه، وهو العمل الذي صنّف في 2022 في المرتبة الأولى ضمن قائمة 100 أفضل فيلم كوميدي في السينما المصرية. وتستمر المغامرة مع خلطة ثنائية كوميدية للممثلين يحيى شاهين وعماد حمدي في فيلم  "تفاحة آدم"(1966).

من هذا المنطلق، تكشف أعمال فطين التي نالت نجاحا شعبيا، أن جميع الأدوار المساندة التي شاركت في تلك الأعمال أو ما تسمى بشخصيات الظل، يوجد في رصيدها ما يخلد في الذاكرة. وإن قدّم بعضهم دورا واحدا تحت قيادته، فهو الدور الأطول عمرا ولا يقل جدارة عن الشخصيات الرئيسة، ومن أبرز هؤلاء الفنانين: جمال رمسيس، سعاد أحمد، إحسان شريف، عقيلة راتب، حسين إسماعيل إلخ.

شراكة ذهبية

لا يمكن الحديث عن تجربة فطين عبد الوهاب الإخراجية دون التأمل في مرحلة إسماعيل ياسين التي وصلت إلى ذروة النجاح الجماهيري بعد تعاونهما المميز في الفيلم الجريء، "الآنسة حنفي"، تأليف جليل البنداري، الذي يسرد قصة حول التحول الجنسي، لكنه أيضا يحمل في طياته نقدا اجتماعيا ساخرا عن الفروقات بين حقوق المرأة والرجل.قبل ذلك، كان إسماعيل ياسين ينتمي إلى مجموعة عبد السلام النابلسي وسعيد أبو بكر وشكوكو، حتى أخرجه فطين باكرا من دائرة أصدقاء البطل ليصبح بطلا في حد ذاته في سلسلة أفلام تحمل اسمه، استقطبت هذه قاعدة عريضة من الجمهور، خاصة منها التي تحمل عنوانا عسكريا، وتتميز تلك الأفلام بالتناقضات والصراعات الكوميدية في سيناريوهات محكمة لا تخلو من تمرير رسائل توجيهية مناصرة للقوات المسلحة بعد ثورة يوليو 1952، ومنها "إسماعيل ياسين في الجيش" و"إسماعيل ياسين في الطيران" و"إسماعيل ياسين في البوليس السري".

قلب هذا الاستقطاب المعادلة حينها في تحويل فتيان الشاشة إلى شخصيات مساندة، ومنهم كمال الشناوي في "إسماعيل ياسين في بيت الأشباح" (1951)، وأحمد رمزي في "ابن حميدو" (1957). كذلك ظهور عبد الحليم حافظ وأحمد مظهر ضيفي شرف في "إسماعيل ياسين بوليس حربي" (1958).

خفّ وهج الشراكة بين إسماعيل وفطين في مطلع الستينات بعد تعاونهما الأخير في فيلمي "حايجننوني"  و"الفرسان الثلاثة"، اللذين وعلى عكس ما ذكر سابقا، يفتقران إلى الخلطة السحرية في أسلوب فطين عبد الوهاب الفني.

أنقذ فاتن حمامة من نمطية الفتاة الحزينة، وعمر الشريف من الدونجوان ورشدي أباظة من الشرير وفجّر طاقة يوسف وهبي الكوميدية 

ابتكارات سردية

في قاموس السينما، يوجد معجم خاص لجمل سينمائية فريدة يعود معظمها إلى إنتاجات فطين عبد الوهاب، ويحفظها كل بيت مصري. فلا يخلو فيلم كوميدي له من جملة شهيرة تحفر في الذاكرة الانفعالية وتصلح للإسقاطات الحياتية في كل زمان ومكان، وتمثل استمرارية خلود تلك "الإفيهات" إحدى سمات أسلوبه في التلاعب باللغة والرموز المحلية في مظهرها الشكلي والبيئة الطبقية والعبارات المبتكرة العامية بشكل متقن لتحقيق أثر ساخر، مثل العبارة التي تأتي على لسان السيدة بهيجة في فيلم " إشاعة حب":"وراس سلطح بابا الكبير سميحة مش هتتجوز غير لوسي". وشخصية الشيخ عبد البر عبد الواحد الضليع في اللغة في فيلم "اسماعيل ياسين في الأسطول": "يا لك من شنقيط!". كذلك شخصية مُراد زير النساء في صورته العصرية لشهريار وانقلاب الحال ليصبح الزوج هو من يحكي حكاية "ألف ليلة وليلة" قبل النوم في دلالة على هزيمة نرجسيته وقلة حيلته من خلال سرد المقطع: "وقال الملك هاموشير لعبدوس الوزير: آتني بألف بعير، أيها الملك، يا عالم الفلك، البعير هلك!".

فضلا عن فن الحوارات في أفلامه، استطاع أيضا استخدام الطرافة البصرية دون الحاجة إلى الكلام، مثل مشهد كامل من الفيلم الملون، "عروس النيل" (1963) حين تتحرك الأشياء من تلقاء نفسها بشكل غرائبي وتحولها البطلة إلى اللون الأخضر. كما أنه يجيد أيضا الاعتماد على شخصيات قوية لكنها في السياق نفسه لا تعزف عزفا منفردا في الجدية والصرامة الحادة وسط طاقم كوميدي كامل، بل تساهم في إعلاء الحوار الفكاهي، مثل شخصية "الباز أفندي" في فيلم "ابن حميدو".

في العودة إلى فكرة الليونة التي لا نستطيع عزلها عن فن المونتاج والحركة، يرجع أسلوب فطين في الأصل إلى الدقة الزمنية في تسريب أحداث متتالية داخل اللقطة نفسها من خلال ضبط الإيقاع. فنلحظ في الثلث الأخير من أعمال فطين الكوميدية أن هناك مهمة ما يجب أن تنجز بأسرع وقت وهنا ما يعرف في اللغة السينمائية بـ"المهلة" التي تورط المشاهد بالترقب لإنقاذ ما يمكن إنقاذه.

الموسيقى التصويرية

ثمة صعوبة في الحفاظ على وتر مشدود من الكوميديا دون توظيف الاستخدامات الإبداعية للموسيقى، لذا يجب التوقف عند هذه الخاصية التي تبرز في اشتغالات فطين،خاصة أنها توجه انتباه المشاهد إلى الأحداث ببناء متين للمؤثرات الصوتية وشريط الصوت التزامني. وقد تحقق هذا من خلال تعاونه مع مجموعة من الموسيقيين في مقدمتهم علي اسماعيل ويوسف شوقي وفؤاد الظاهري وغيرهم. ولا نبالغ إذا قلنا إن فطين عبد الوهاب رائد في توظيف الموسيقى بشكل متقن ومواكب للحالة الأدائية، إذ تنطلق اللقطة الخاطفة وتنتهي بصياغة لحنية ناطقة عن التعبير الحركي للممثل سواء كان ذلك من دهشة أو غضب أو امتعاض أو تأهب أو فرح أو ارتباك. وهذا بالتحديد ما كان ينقص، على سبيل المثل، يوسف شاهين في تجربته الكوميدية العاطفية الواضحة، "انت حبيبي" (1957) كونها تحمل التوليفة والأسلوب نفسيهما في أفلام فطين عبد الوهاب.

أخرج فطين إسماعيل ياسين باكرا من دائرة أصدقاء البطل ليصبح بطلا في حد ذاته في سلسلة أفلام تحمل اسمه، استقطبت هذه قاعدة عريضة من الجمهور

التورية العاطفية

تأتي إرهاصات الحب والكبرياء في الأفلام الميلودرامية بتحولات ونتائج مؤلمة ومحزنة للمتلقي، وقد خاض فطين عبد الوهاب هذه التجربة في أفلام مثل فيلم "الغريب" (1956) المقتبس من رواية "مرتفعات ويذرنغ"، و"الأخ الكبير" (1957) و"عندما نحب" (1967). إلا أن إدراك فطين لهذه المعادلة يعمق الشكل التقليدي لهذه الأفلام، ومن خلال العالم الذي يصنعه اتخذ خطا جديدا ومستقلا بالتعاون مع كتّاب مثل علي الزرقاني والسيد بدير وعباس كامل وأبو السعود الإبياري. فقد استطاع  في هذه التجارب تنفيذ حوارات كوميدية ذكية آسرة في المحادثات المباشرة بين البطل والبطلة، تمكننا من التقاط العاطفة الخفية والمتصاعدة التي تبدو في ظاهرها شديدة النفور والجفاء.

شادية وصلاح ذو الفقار في فيلم "عفريت مراتي" (أرشيفية)

أدرك عبد الوهاب أن "التورية الشاعرية" هي الأكثر جاذبية في الطرح الكوميدي، بحيث يتعين عليه البدء برسم القصة والشخصيات من هذه النقطة، مع وعي تام بكيفية التصعيد وإدارة الصراعات والمناكفات، ثم يختمها بنهايات مرضية باستعانته بالشخصيات المساندة في حبكة الفيلم. ومن أعماله التي تحمل هذه المشاكسة والمكابرة الرومانسية، "ابن حميدو" و"العتبة الخضراء"و"آه من حواء" و"العائلة الكريمة" و"نص ساعة جواز" و"أضواء المدينة"، وجميعها تقريبا أنجزت في عقد الستينات.

في النهاية يظهر تنوع تجربة فطين عبد الوهاب صاحب الـ 57 فيلما الذي كانت مغامرته في الاتجاهات الفنية مفتوحة بين الأعمال الوعظية والأعمال الاجتماعية الساخرة، والنسبية فيها أمر محتوم إذ تميل بشكل كبير لصالح الكوميديا على الرغم من بعض الهنّات.

font change

مقالات ذات صلة