حتمية يقودها الجشع

حتمية يقودها الجشع

الحديث عن الحرب يرتبط بالحديث عن طبيعة الإنسان، ويرتبط بالعودة إلى السؤال القديم: هل الإنسان مسير أم مخير؟ أم إنه يخضع لجبر ذاتي كما يقول زكي نجيب محمود؟

إذا كان مجبرا على الأفعال التي تصدر عنه، فلا حاجة البتة إلى أن نتحدث عن كون الحرب تقتل الرجال وترمل النساء وتيتم الأطفال، وسيصبح هذا الحديث كالنفخ في قربة مثقوبة.

عندما تنظر في مقولات الفلاسفة القدامى عن الحرب، لربما تجد أن أغلبهم يميل إلى أن الشر والقتال من طبيعة الإنسان وليسا غريبين عنه. يقول هيراقليطس إن "الحرب أم الجميع". وهذا الرأي يمتد إلى عصر النهضة مع نيقولا مكيافيللي، وتوماس هوبز في طليعة العصر الحديث، وهيغل في القرن التاسع عشر، ويزيد هذا الأخير أن الحرب حادثة واقعة لا محالة، وستستمر في الحدوث، لكنه يحمد الله على اختراع البندقية لأنها جعلت القتل أقل أيلاما من السيوف والسكاكين. والحرب لها دور حضاري عند هيغل؛ فهي محفز للتطور والتقدم وهي نافية للجمود. أما بالنسبة إلى هوبز، فقبل أن تقوم الدولة، هناك حالة طبيعية يكون فيها الإنسان ذئب أخيه الإنسان.

وفي "الأمير" أباح مكيافيللي للساسة كل شيء وقرر أن الغاية تبرر الوسيلة، ووراء كل هذا ثمة هدف سام، أن ينتهي التشرذم وتتوحد إيطاليا الوطن خلف حاكم واحد يحفظ الأمن. يبدو أن شعور المفكرين بالخوف وغياب الأمن كان أقوى في القرون السابقة. وهل كان القرن العشرين أقل شرا؟ لقد شهد وقوع أكبر حربين عالميتين في التاريخ الإنساني، إذ لا نتخيل أنه قُتل في السابق ستون مليون إنسان في حرب واحدة مثلما وقع في هاتين الحربين.

على عكس هوبز، يؤمن جماعة من المفكرين بخيرية الإنسان. فيرى جان جاك روسو أن الحالة الطبيعية للإنسان ليست أن يكون ذئبا بل يراه مسالما للغاية في هذه الحال، عندما يعود إلى الطبيعة. لكنْ، عندما يتوسع روسو في دراسة السياسة الدولية يصبح بعقلية مماثلة لمن سلف ذكرهم، مجادلا بأن الدول يجب أن تكون عدوانية، وإلا سوف تتراجع عسكريا وسياسيا وسوف تتعثر مسيرتها، فالحرب أمر لا مفر منه، وأي محاولات لإقامة اتحادات سلمية لا طائل من ورائها عند فيلسوف العودة إلى الطبيعة.

"الأمم المتحدة" وقبلها "عصبة الأمم" أخفقت بشكل يومي في إيقاف الصدامات المسلحة، على الرغم من كل ما هيئ لهما من موازنات ضخمة وسلطة وموظفين يعدون بالآلاف

أما إيمانويل كانط فكان من المؤمنين عميقا بالسلم، وأن العيش في سلام هو ما يقتضيه العقل، وهو من تأسست بسبب أفكاره "عصبة الأمم".

كان كتابه "السلم الدائم" يحمل دعوة إلى تأسيس اتحاد بين الشعوب ليكون وسيلة لإيقاف الحروب وتفادي تبعاتها المأساوية إلى الأبد، على الرغم من اعترافه السابق بالدور الحضاري للحرب. ليست الحرب أكبر الشرور فحسب، بل يرى من قبيل الشر فكرة إمكان نشوب حرب مستقبلية. لذلك يوصي هذا الحكيم الطيب القلب بوضع نظام حقوقي يقوم على الحق والحرية ويحتكم إليه الناس، في تعاقد مدني يسري على الكل بلا استثناء ولا تحيزات.

لكنك عندما تنظر في الرأيين المتعارضين، تجد أن "الأمم المتحدة" وقبلها "عصبة الأمم" أخفقت بشكل يومي في إيقاف الصدامات المسلحة، على الرغم من كل ما هيئ لهما من موازنات ضخمة وسلطة وموظفين يعدون بالآلاف. فقد أصبحت هذه المنظمة الأممية بدورها راضخة لتحيزات الدول العظمى وحاملي ختم الفيتو.

الحروب لم تتوقف يوما، والأمر في ذلك يرجع إلى الطبيعة الإنسانية والجشع البشري الذي يريد الحصول على كل شيء.

font change
مقالات ذات صلة