غزة... فشل الفصل بين السلام والأمن

غزة... فشل الفصل بين السلام والأمن

"لا يفهم العرب غير لغة القوة". "ما لا نستطيع الوصول اليه بالعنف. نستطيع بالمزيد من العنف". "فليحطم الفلسطينيون رؤوسهم على الجدار الحديدي"... هذه شعارات ترفعها المؤسستان السياسية والامنية في اسرائيل منذ ما قبل إعلانها في 1948 وتعود جذورها الى زئيف جابوتنسكي ومن يشبهه من مؤسسي اليمين الاسرائيلي.

وجدت الشعارات هذه تطبيقها الاوسع بعد هجوم "حماس" في السابع من اكتوبر/ تشرين الاول واعيدت الى الواجهة باعتبارها الأصدق في فهم العرب (الفلسطينيين وغيرهم) والسبيل الوحيد لارغامهم على التسليم بحق اسرائيل في العيش في هذه المنطقة.

تظهر هنا المفارقة الكبرى: كيف الوصول الى السلام هذا؟

منذ بدايات الهجرةالاستيطانية اليهودية الاوروبية اواخر القرن التاسع عشر وإنشاء "اليشوف" اي الكيان اليهودي على اراضي فلسطين العثمانية ثم الانتدابية الذي تحول الى دولة اسرائيل في 14 مايو/ أيار 1948، كان الهدف هو توفير الامن لليهود الذين يتعرضون الى الاضطهاد والتمييز في اوروبا خصوصا قسمها الشرقي. تغير مفهوم الامن الاسرائيلي مرات عدة في تاريخ الدولة. المسار المتشابك الذي اتخذه "اليشوف" من طلب الحماية من الاتراك الذين كانوا يحتلون فلسطين قبل 1917 الى التحالف مع البريطانيين الذين طردوا الاتراك ثم الانقلاب على هؤلاء في الاعوام الاخيرة من الاحتلال البريطاني لفلسطين بعدما اكتسبت الدعوة الصهيونية زخما كبيرا على اثر الهولوكوست، يقول ان الامن في مفهوم القادة الاسرائيليين ينفصل عن السلام وان الاعتقاد بالقدرة على التوصل اليه بواسطة القوة الذاتية، ليس فكرة جديدة في المؤسستين الاسرائيليتين السياسية والعسكرية.

تغير مفهوم الامن الاسرائيلي مرات عدة في تاريخ الدولة. المسار المتشابك الذي اتخذه "اليشوف" يقول ان الامن في مفهوم القادة الاسرائيليين ينفصل عن السلام

العنف الشديد ضد غزة واستغلال التعاطف الدولي الذي كسبته اسرائيل بعد هجوم "حماس" ثم ازدراء هذا التعاطف والتأكيد ان اسرائيل ماضية في خطتها التي رسمتها للقطاع المكتظ بالسكان "سواء رضي العالم ام سخط"، واحياء الموقف العنصري ضد الفلسطينيين والعرب، ظواهر لا تجيب عن السؤال المركزي: لماذا استطاعت حركة مسلحة متواضعة الامكانات والكفاءات أن تفاجئ اسرائيل المدججة بأكثر انواع الاسلحة والتقنيات تقدما وان تصل الى عمق حوالى 30 كيلومترا بعيدا عن حدود غزة؟

بكلمات ثانية، لماذا فشلت اسرائيل بعد 75 عاما على قيامها، وبعد حوالى 130 عاما من وصول اوائل المهاجرين اليهود الاوروبيين الى هذا الساحل، في ضمان امن مواطنيها وسلامهم؟

أقوال تذهب الى ان "الإرهاب" متجذر في الفلسطينيين والعرب وان هؤلاء "لم يضيعوا فرصة لاضاعة كل فرصة" للوصول الى السلام وانهم يتحركون باملاءات من ايران وتغذيهم ايديولوجيا متطرفة جهادية، تصلح لخطاب سياسي اسرائيلي اثناء مهرجان انتخابي. لكنها لا تفسر سبب تمسك الفلسطينيين حتى الآن بهذه الارض رغم النكبة والتطهير العرقي والضغوط والاغراءات التي قدمت لهم، أو لوضعهم امام الخيار الاقصى: الرحيل او الموت. مع ذلك فضلوا البقاء.

رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو شدد على انه لن يكرر "خطأ" اوسلو، اي انه لن يعود الى اللحظة الوحيدة ربما في تاريخ الصراع الفلسطيني – الاسرائيلي التي اقتربت اسرائيل فيها من الاعتراف بحق الفلسطنيين في تقرير مصيرهم على ارضهم. لكنها تراجعت عنها بسرعة بعد اغتيال اسحق رابين في 1995.

 لماذا فشلت اسرائيل بعد 75 عاما على قيامها، وبعد حوالى 130 عاما من وصول اوائل المهاجرين اليهود الاوروبيين الى هذا الساحل، في ضمان امن مواطنيها وسلامهم؟

المسؤول الاول عن الفشل الاكبر في تاريخ اسرائيل يريد ان يقرر مصير الاسرائيليين لاعوام طويلة مقبلة وان يحصر خياراتهم بالمزيد من الحروب والاحتلال والكراهية. 
اسرائيل اليوم ليست في وارد القبول بأي حل سياسي بعد سنوات طويلة من الانكار الكامل لوجود قضية فلسطينية. انتهت السنوات تلك بكارثة السابع من اكتوبر. المسار العنفي الاسرائيلي في ذروته اليوم. وهو قابل للتوسع اذا خدم مصالح المجموعة الحاكمة في اسرائيل اليوم التي تعجز عن رؤية ان الفلسطينيين، مثل الاسرائيليين، لا يعتزمون توضيب حقائبهم والرحيل الى اي مكان. 
على الاسرائيليين ان يسألوا انفسهم اليوم: هل من طريق الى السلام غير ما يقترحه نتنياهو والغلاة من اتباعه بعد 75 من التجارب الفاشلة؟ 

font change