"مؤتمر الفلسفة" يعزّز مسار حركة الفكر السعودي بتفاعل عالمي

دورته الثالثة ناقشت ثقافة التواصل

(واس)
(واس)
استأنفت الدورة الجديدة من المؤتمر الذي أطلقته الرياض قبل عامين جهود ترسيخ الدور الدولي للسعودية في مجال الفلسفة

"مؤتمر الفلسفة" يعزّز مسار حركة الفكر السعودي بتفاعل عالمي

الرياض: بينما يشهد العصر التواصلي تحولات ثقافية واجتماعية معقدة ومتعددة المستويات تمس كل القيم الحياتية، تنطوي الفلسفة على إمكان تحسين فهم تلك التحولات، والمساعدة في استكشاف ما يرتبط بها من خطابات فكرية وسياسية متقاطعة داخل الفضاء الرقمي. على هذا النحو تتعاظم أهمية توسيع دائرة الاهتمام الاجتماعي بالفلسفة، بما يُنمّي الحس النقدي ويُطوّر القدرات التحليلية للفرد، ويساعده في تجاوز حالة الوعي المفكك بتبني رؤى أكثر شمولية وعمقا، وبما يعزز قيمة الابداع والابتكار لديه، ويوجهه نحو الإفادة من فرص معرفة الآخر، ويُمكّنه من تجاوز التحديات التي تؤثر على هويته وعلى علاقاته الاجتماعية.

هذه القيمة الاجتماعية العامة للفلسفة جسّدها "مؤتمر الرياض الدولي للفلسفة" في دورته الثالثة، التي عقدتها "هيئة الأدب والنشر والترجمة"، في مكتبة الملك فهد الوطنية، خلال الفترة من 7 – 9 ديسمبر/كانون الأول الجاري، تحت عنوان "القيم العابرة للثقافات والتحديات الأخلاقية في العصر التواصلي"، بمشاركة نخبة من المختصين في الفلسفة ونظرياتها الحديثة حول العالم. فقد جاءت فعاليات المؤتمر المتنوعة، وما مثلته من ثراء ثقافي، معبّرةً عمّا تشهده المملكة من نهضة ثقافية وفكرية تتصل بالوعي الاجتماعي، وما طرأ عليه من تغيرات في قائمة اهتماماته، وفي طريقة تفاعله مع الحياة اليومية.

روح الفلسفة

على مدخل مكتبة الملك فهد الوطنية وُضِعت لوحات تتضمن مواد تثقيفية مكتوبة بلغة سهلة ومبسطة، للتعريف بالفلسفة وتاريخها وتطورها وموضوعاتها على امتداد حقبها المختلفة، مما ساعد الزائر على تلمّس روح الفلسفة وهويتها المعرفية قبل وصوله إلى صالات المكتبة، وحضور الندوات والجلسات الحوارية المفتوحة، وما اشتملت عليه من نقاشات في مجالات الفلسفة والأنثروبولوجيا والفنون والترجمة والنقد الأدبي، وبما تضمّنته من ورش خُصّصت لمناقشة مبادئ وأساسيات علم الفلسفة، بتناول موضوعات مثل نظرية المعرفة وفلسفة الجمال والتفكير الناقد وروح التفلسف وروح المنطق.

العقل العربي الإسلامي بات يواجه اليوم قضايا لم تكن ضمن دائرة تفكيره، بل كانت الأحكام فيها ضمن منزلة البديهيات

جاسم العلوي

وتنوعت داخل المؤتمر البرامج التثقيفية والتعريفية بالفلسفة بطرق إبداعية ومبتكرة، حيث احتضن المؤتمر معرضا لمجموعة من اللوحات الكلاسيكية التي تصور بعض الفلاسفة ومشاهد من حياتهم اليومية، وتحتوي على بعض العلامات والرموز للأفكار الفلسفية المرتبطة بهم، وذلك بتقديم نماذج من أعمال فنية عالمية بيّنت أساليب المقاربة الجمالية للقضايا الفلسفية ومفاهيمها، التي اتبعتها حركة الفن التشكيلي على مر العصور، وعبّرت عن المعاناة التي عاشها الفلاسفة في سبيل ممارسة دورهم التنويري داخل مجتمعاتهم.

وتضمّن المؤتمر برامج خاصة بالأطفال واليافعين، احتوت على جلسات عن اللغات وتعليم الفلسفة، إلى جانب تقديم العديد من القصص والحكايات ذات الطابع الفلسفي بأساليب متنوعة، كما شملت فعاليات المؤتمر جولات متعددة من المناظرات الفلسفية بين طلاب الجامعات السعودية، في مسائل حيوية مثل التعاطي مع وسائل التواصل الاجتماعي، وقيمة الفنون ودورها في تجسير العلاقات بين الشعوب.

هذا القدر المهم من التعاطي مع الفلسفة وقضاياها ومفاهيمها الذي وفره مؤتمر الرياض الدولي للفلسفة لجميع الفئات العمرية، وشاركت فيه شرائح مختلفة من المجتمع ومن خلفيات متنوعة، يمثل نموذجا لقيمة النشاط الثقافي في إطار النهضة الاجتماعية والثقافية بمستوياتها كافة من ناحية، ويعكس شغف المواطن السعودي للتلقي الثقافي والفني من ناحية أخرى، من ثمَّ كيف يمكن الدفع بمسألة توسيع دائرة الاهتمام الاجتماعي بالفلسفة: ما الوسائل المناسبة؟ وما الآثار المتوقعة على تَغير العادات الاجتماعية، وتطور طرق التعاطي مع وسائل التواصل الاجتماعي، وتعزيز الانتماء الوطني، وإثراء الهوية السعودية، وفق محدداتها وثوابتها وأسسها؟

لم يكن مؤتمر الرياض الدولي للفلسفة المبادرة الأولى للنشاط الفلسفي بالمملكة، فهناك مبادرات عديدة انتظمت خلال مراحل مختلفة ونشطت في مجال الفلسفة مثل حلقة الرياض الفلسفية، وإيوان الفلسفة بمدينة جدة، وجمعية الفلسفة وغيرها، كما أن هناك الكثير من الجمعيات والمنصات التي تهتم بالنقاشات والأبحاث الفلسفية. "المجلة" سألت مجموعة من الباحثين والفاعلين السعوديين في المجال الثقافي والفكري حول الأهمية الاجتماعية للفلسفة.

(واس)
شهدت أروقة المؤتمر في كل دورة إطلاق أفق جديد وغير نهائي لاستكشاف المحاور والموضوعات التي يتناولها المؤتمر

ضرورة توسيع الاهتمام بالفلسفة

"لم يعد في إلامكان أن نوصد الأبواب والنوافذ فقد بات العالم بأسره بلا جدران، قدرنا الانفتاح ما دامت ثمة ضرورة للعيش في المجتمعات الحديثة، ومع هذا الانفتاح علينا استقبال طوفان من الأفكار، وأن نكون شهودا على واقع عالمي متحول، رسمت معالم تحولاته الجديدة الأيديولوجية الرأسمالية الحديثة، التي تعمل آلتها الدعائية على تنميط طرق التفكير وخلق ظواهر ثقافية تتصادم مع ثقافتنا العربية والإسلامية".

هكذا استهلّ  الدكتور جاسم العلوي، الأستاذ المساعد بكلية الجبيل الباحث في الفلسفة، حديثه عن ضرورة الاهتمام بالفلسفة صيانة للعقل والقيم والهوية، وأضاف: "أصبحنا شهودا على عالمٍ يغرق في بحرٍ من العنف والاضطرابات السياسية والاقتصادية، وتضرب أمواجه العاتية سواحلنا، فنحن لا محالة واقعون في منزلقات هذا العالم، معرضون لأخطاره، لا سيما أن خريطتنا الإدراكية التي صاغها مجالنا التداولي الإسلامي لقرون معرضة اليوم لصدمات ثقافية أكثر عنفا من أي وقت مضى".

وأشار العلوي إلى أن "العقل العربي الإسلامي بات يواجه اليوم قضايا لم تكن ضمن دائرة تفكيره، بل كانت الأحكام فيها ضمن منزلة البديهيات، لكن ومن خلال إكراهات الظروف الراهنة، صوّب الغرب أسئلته في قضايا مثل حقوق الإنسان والمرأة والمثلية والجندرة والتحول الجنسي، وهي قضايا تتصل في الأساس بالدين والأخلاق".

وأوضح أن الغرب "بات يتعامل مع مسألة القيم بسيولة مطلقة، وبحركة بلا اتجاه، وبدوران بلا مركز، مما يجعل تعاملنا مع الأسئلة الراهنة وفق أولوياته ومنظوره من شأنه سلب إيماننا ويقيننا وتوجيهنا نحو الاغتراب عن الذات"، لافتا إلى أنه "يُراد للعقل العربي الإسلامي وفق ذلك تغيير خريطته الذهنية للتلاؤم مع روح العصر، وهي في الواقع روح الغربي المنتصر".

وتساءل العلوي كيف للعقل العربي، الذي طال به أمد ارتباطه بالنص بطريقة مباشرة مبتعدا عن أفق التأويل الرحب، الذي يجعل النص حيا ومعاصرا، أن يواجه قوة التساؤلات التي هزته من الداخل، مؤكدا ألا خيار أمامه سوى المواجهة المفتوحة، مما يتطلب فاعلية تقوم على التفكير المنهجي، وتبث روح التجديد والإبداع وتَفحّص الأفكار، لمواجهة السؤال بالسؤال والنقد بالنقد، والتخلص من حالة التلقي إلى حالة المبادرة والمشاركة الفاعلة في التفكير العقلاني بوصفه لغة الإنسانية جمعاء، وهذا هو جوهر التفلسف.

واعتبر أن "من الواجب الوطني حفاظا على قيم المجتمع وعلى عقله وهويته الدينية، أن يمتدّ مشروع نداء العقل في المملكة ليطاول المجتمع بأسره، ويستهدف بناء الإنسان وإعداده لمشروع نهضوي"، مشيرا إلى أن ذلك لا يكون إلا بتسليحه بسلاح النقد، ليصمد أمام حركة الأفكار.

وأضاف العلوي أن وجود التخصص الأكاديمي في الفلسفة داخل الجامعات السعودية بات أمرا مُلحّا، ليس فقط لمواجهة عصر الانفتاح، والمشاركة في البحوث الفلسفية، بل لانعكاس هذا التخصص على الواقع الاجتماعي وطرق تنشئة الأجيال.

الحضور الفلسفي في المملكة لم يكن عشوائيا ولا طارئا على التاريخ الثقافي للمملكة

عبد الله الهميلي

تطور الاهتمام بالفلسفة

أوضح عبدالله الهميلي الباحث في الفلسفة جوانب من تاريخ اهتمام المملكة بالفلسفة، وما صاحب ذلك من تطورات، بقوله إن "الحضور الفلسفي في المملكة لم يكن عشوائيا ولا طارئا على التاريخ الثقافي للمملكة منذ بداية الدولة السعودية في عهد الملك المؤسس عبد العزيز، فقد بدأ الاهتمام بالفكر من خلال الأدب والنقد والتلقي الثقافي، بواسطة مفكرين من حقول مختلفة، حتى تشكلت حلقة الرياض الفلسفية، ثم تزايدت المجموعات المتخصصة في الفلسفة، وظهر إيوان الفلسفة والحلقة المعرفية وملتقى السلام، ليتم إنشاء أول جمعية سعودية للفلسفة، ويظهر العديد من المراكز والمعاهد المتخصصة في الفلسفة كالمركز السعودي للفلسفة والأخلاقيات (سكوب) ومعهد يعقلون ومعهد بصيرة".

 ولفت الهميلي إلى أن الحضور الفلسفي في المملكة جاء من الصالونات الأدبية والمقاهي، بمعنى أن الشعبي حضر قبل النخبوي، مما يشير إلى وعي المجتمع السعودي، وإلى الحاجة الملحة لتجديد الفكر ودراسة مختلف الأفكار الفلسفية.

واعتبر أن المسار الذي تسير من خلاله الثقافة الفلسفية السعودية يعدّ مسارا منتظما وطبيعيا، متوقعا أن تشهد المرحلة المقبلة حضور الفلسفة عبر التخصصات الأكاديمية في الجامعات السعودية، بعدما ظل حضورها الأكاديمي مقتصرا على التخصصات الفرعية.

وأشار الهميلي إلى أن "خروج الفلسفة من المنتديات والمقاهي ووصولها إلى المعاهد والجامعات والكليات سيعبّر عن نتائج "رؤية 2030"، وسيتماشى مع أهدافها في القضاء على التطرف الفكري، والتركيز على التنوع الثقافي والتعدديات الفكرية". 

من جانبه، قال هشام السلمي عضو المركز السعودي للفلسفة والأخلاقيات إن النشاط الفلسفي قد سبق مؤتمر الرياض الدولي للفلسفة، من خلال إقامة معارض الكتاب، التي سهلت وصول الكتب الفلسفية إلى القارئ، ثم تأسيس منتدى فلسفي في النادي الأدبي في الرياض، وتأسيس آخر في النادي الأدبي بجدة.

وأضاف أن الجمعيات والمراكز البحثية الفكرية والفلسفية "سعت إلى ردم الفجوة المعرفية بالفلسفة لدى شرائح المجتمع في ظل غياب أقسام الفلسفة بالجامعات، وهذا دور كبير اضطلعت به الجمعيات الثقافية والأدبية السعودية، ويبقى على الجامعات تزويد التعليم العام الأساتذة المختصين في تدريس التفكير الناقد المتفق مع أحكام المنطق والتفكير العقلي المشترك بين البشر".

(واس)
اجتمع في الرياض نخبة من الفلاسفة والعلماء على مدى 3 أيام لخوض تجربة تساؤلية جديدة حول القيم الإنسانية وتحدياتها

نموذج للنشاط الفلسفي في المملكة  

بالوقوف على نموذج للنشاط الفلسفي في المملكة، وما يمكن أن يقدمه من توسيع الاهتمام الاجتماعي بالفلسفة، ذكرت الدكتورة هند الحازمي، المديرة التنفيذية للمركز السعودي للفلسفة والأخلاقيات (سكوب)، أن تأسيس مركز بحثي وتعليمي متخصص في الفلسفة جاء انطلاقا من اهتمام حكومة المملكة المتزايد بالفلسفة، وانطلاقا من القناعة بأهمية الفلسفة لتعميق الفهم للعالم.

وأوضحت أن مركز "سكوب" يهتم بممارسة النشاط المتعلق بالأبحاث والدراسات والملتقيات والمؤتمرات، التي من شأنها إثراء النقاشات الفلسفية وتطوير رأس المال الثقافي في المملكة، وذلك من خلال الشراكة المجتمعية والتعاون مع الكيانات الوطنية والإقليمية والعالمية المهتمة بأمر الفلسفة.

وأشارت الحازمي إلى أن المركز يسعى لأن يصبح مرجعية فلسفية بمعايير عالمية في مجال الفلسفة والأخلاقيات، من خلال خدماته المتمثلة في البحث والتعليم والتدريب والنشر والفعاليات، مبينة أن المركز قدّم مبادرة خاصة بالمنح، لمساعدة الباحثين في مجال الفلسفة، وانتهت في دورتها الأولى بفوز عشرة مشاركين بالمنح البحثية.

 شملت فعاليات المؤتمر مناظرات فلسفية بين طلاب الجامعات السعودية، في مسائل حيوية مثل التعاطي مع وسائل التواصل الاجتماعي وقيمة الفنون

صورة جديدة

قدّم مؤتمر الرياض الدولي للفلسفة صورة جديدة للأكاديميين والمختصين من شتى أنحاء العالم عن مدى اهتمام المملكة بالفلسفة، وعمّا يمكن أن تضيفه الحركة الثقافية السعودية في المستقبل لحركة الفكر العالمي، وفي إطار القيمة التي يمثلها المؤتمر، رأى الدكتور جاسم العلوي أن المؤتمر "شكل علامة بارزة في المجتمع السعودي لدعم البحث الفلسفي وبث الروح المتسائلة الناقدة في الواقع الاجتماعي".

وأشار إلى أن مؤتمر الفلسفة في نسخه الثلاث "اتجه نحو إرساء رؤية جديدة للإنسان السعودي المتحرر من أعباء التراث الضارة، والمتصل بإبداعاته مع العالم عبر أفق أخلاقي يواجه عملية تجريد الإنسان من إنسانيته".

وأضاف عبدالله الهميلي نقطة أخرى، وهي أن "انعقاد مؤتمر عالمي بحجم مؤتمر الرياض للفلسفة يُمثّل نقلة نوعية في طريقة التفكير، باعتبار أن الفلسفة لم تعد أسيرة لعقدة المركزيات والثنائيات"، منوّها بالقيمة التعليمية التي جسدها المؤتمر بمخاطبة الأطفال وإقامة فعاليات خاصة بهم عن الفلسفة، ما يجعل منه حدثا استثنائيا بكل المعايير.

بدوره، رأى الباحث هشام السلمي أن عقد مؤتمر عالمي للفلسفة سنويا يكشف عن اهتمام وزارة الثقافة بتأسيس قاعدة مركزية ثابتة للنشاط الفكري والفلسفي، تتناغم مع ما يعيشه المجتمع السعودي في "عصر الرؤية" من تغيرات سريعة في مجالات كثيرة من ضمنها المجال الفكري، لذلك فإن الأثر الكبير لهذه الأنشطة سيتضح مع اتساع الأفق الفكري للمجتمع، وفي تفاعله الإيجابي مع التجارب الإنسانية.

font change

مقالات ذات صلة