تأقلم اقتصاد أرمينيا مع النازحين من ناغورنو كاراباخ

نفقات الموازنة والعجز خطران متعاظمان على النمو

Michelle Thompson
Michelle Thompson

تأقلم اقتصاد أرمينيا مع النازحين من ناغورنو كاراباخ

سمع السكان الأرمن في ناغورنو كاراباخ أصوات القصف والانفجارات عند الظهيرة في 19 سبتمبر/أيلول2023، فعرف كثير منهم أن موجة جديدة من الألم توشك أن تحلّ بهم بعدما عانوا كثيراً خلال صراع عاد إلى الاشتعال بعدما ظلّ "مجمّداً" عقوداً من الزمن. بعد أقل من أسبوع، هجر جميعهم تقريباً منازلهم ليواجهوا مستقبلاً غامضاً في أرمينيا.

خلفيات الصراع

في وقت كان الاتحاد السوفياتي ينظّم نفسه في جمهوريات مختلفة في أوائل عشرينات القرن العشرين، قرّر قادته أن تضمّ جمهورية أذربيجان داخل حدودها إقليماً يسمى إقليم ناغورنو كاراباخ المتمتّع بالحكم الذاتي، وكان أكثر من 80 في المئة من سكانه من أصل أرمني. تشكّلت أرمينيا بوصفها جمهورية سوفياتية منفصلة عبر الحدود الداخلية. عاش الأرمن والأذربيجانيون معاً في ناغورنو كاراباخ عقودا عدة من السلام النسبي، حدّ أن بعض الأشخاص تصوّر أن الصراعات التاريخية بين الأرمن والمسلمين، التي كانت قائمة باستمرار في ناغورنو كاراباخ - وتبادلَ فيها كل جانب التغلّب على الآخر في فترات زمنية مختلفة - قد أصبحت جزءاً من التاريخ.

في الحقبة السوفياتية، قُدّمت التماسات مختلفة لتنظيم جمهورية ناغورنو كاراباخ المتمتّعة بالحكم الذاتي في إطار جمهورية أرمينيا الاشتراكية السوفياتية، بالنظر إلى التركيبة العرقية لغالبية سكانها. وكانت القيادة السوفياتية ترفض تلك الطلبات بانتظام، لكن الحركة اكتسبت زخماً في أواخر الثمانينات، وهي الفترة التي اعترى فيها الضعف الاتحاد السوفياتي نفسه. فنظّم السكان المحليون استفتاء وانفصلوا، لكن أذربيجان لم تعترف بهذه الخطوة. تلت ذلك، حرب بين الأرمن والأذربيجانيين استمرت من سنة 1992 إلى سنة 1994، وانتهت بسيطرة الأرمن على الإقليم وسبع مناطق حوله، وهو ما ربط ناغورنو كاراباخ، التي أعلنت نفسها جمهورية مستقلة، بجمهورية أرمينيا، التي نالت استقلالها عن الاتحاد السوفياتي. فأغلقت أذربيجان وتركيا حدودهما مع أرمينيا رداً على ذلك، على أمل عزل الاقتصاد الأرمني وإضعافه.

في سنة 1994، أصبح هذا الصراع واحداً من صراعات عدة "مجمّدة" في مناطق ما بعد الاتحاد السوفياتي، وفشلت الاجتماعات والمفاوضات المنتظمة بين أرمينيا وأذربيجان في التوصّل إلى أي حلّ دائم. لكن الصراع اشتعل من جديد في خريف 2020 عندما اكتسبت أذربيجان شريكاً إستراتيجياً في تركيا، مدعومة بإنفاق عسكري كبير على مدى عقدين من الزمن، أذكته ثروتها النفطية، وشنّت هجوماً عسكرياً كبيراً، واستعادت السيطرة على معظم الإقليم، في ما أصبح يعرف باسم حرب الـ 44 يوماً. فتمركزت قوات حفظ سلام روسية في المنطقة التي ظل يقطنها سكان أرمن، لكن عددهم أصبح نحو 100 ألف نسمة، بعد عودة بعضهم إلى منازلهم في أعقاب حرب 2020. أغلقت أذربيجان منذ ديسمبر/كانون الأول 2022 الطريق الوحيد الذي يربط ناغورنو كاراباخ بأرمينيا، وحُرم السكان تدريجياً من المواد الأساسية الضرورية مثل الغذاء والدواء. بعد حصار استمر أكثر من تسعة أشهر، شنّت أذربيجان هجوماً في 19 سبتمبر/أيلول 2023 لإجبار السكان المتبقّين على الاستسلام. لم تتدخّل قوات حفظ السلام الروسية، بل سعت فحسب لمساعدة الأرمن في إخلاء منازلهم. بعد يوم واحد من الهجوم الوحشي، وقّعت قيادة أرمن ناغورنو كاراباخ وثيقة وافقت بموجبها على تفكيك وحدات الدفاع الذاتي، واستجابت كل مطالب أذربيجان.

إن تداعيات هذه الأزمة تتجاوز الدعم الإنساني للاجئين، لأن العلاقات السياسية مع أذربيجان لا تزال متوتّرة، ويلوح في الأفق احتمال نشوب صراع جديد

أعيد فتح الطريق المسدود للسماح بالمرور الآمن للأرمن الذين اختاروا مغادرة الإقليم والذهاب إلى جمهورية أرمينيا. وتشير التقديرات اليوم إلى أن ما يصل إلى 1000 أرمني فقط بقوا في منازلهم، من بين أكثر من 100 ألف نسمة كانوا يعيشون في ناغورنو كاراباخ.

انعكاسات الأزمة على أرمينيا

على الرغم من التأثير المستمر لحرب الـ 44 يوماً عام 2020 والآثار المتلاحقة الإقليمية التي أعقبت الغزو الروسي لأوكرانيا بعد ذلك بعامين، تمتعت أرمينيا بعام استثنائي، إذ نما الناتج المحلي الإجمالي بنسبة 12,6 في المئة في 2022. وكان من المتوقّع أيضاً أن يحافظ النمو على قوته في 2023 ويسجّل نسبة 5,5 في المئة أو أكثر. بل إن البنك المركزي الأرمني كان قد رفع أخيراً توقّعاته في شأن نموّ الناتج المحلي الإجمالي للسنة الجارية إلى 7,2 في المئة. لكن ذلك كان قبل أحداث 19 سبتمبر/أيلول، إذ إن تدفّق أكثر من 100 ألف لاجئ من ناغورنو كاراباخ على بلد يبلغ عدد سكانه نحو 2.6 مليون نسمة فقط يشكّل تحدّيات خطيرة.

AFP
اللاجئون يقودون سياراتهم قبل عبور الحدود عند لاتشين المنطقة في 28 سبتمبر/أيلول 2023.

سارع المجتمع الدولي إلى الاستجابة بتقديم حزَمٍ من المعونات الدولية للمساعدة في تخفيف العبء، على المدى القصير على الأقل. وأعلنت الولايات المتحدة مساعدات إنسانية بقيمة 11,5 مليون دولار، وضاعف الاتحاد الأوروبي دعمه الذي أعلنه في البداية ليصل إلى أكثر من 10 ملايين يورو. ووردت أيضاً حزم مساعدات من دول أوروبية وغير أوروبية أخرى، بما في ذلك كندا واليابان وأستراليا. لكن لم يتضح حتى الآن هل سيكون ذلك كافياً لتلبية الاحتياجات الكاملة التي ستنشأ على أرض الواقع. وفي زيارة للبرلمان الأوروبي في منتصف أكتوبر/تشرين الأول، قال رئيس الوزراء الأرمني نيكول باشينيان: "لقد نزح أكثر من 100 ألف أرمني من ناغورنو كاراباخ وأريد أن أؤكّد أن 20 ألف أرمني آخرين كانوا قد نزحوا وهم موجودون في أرمينيا نتيجة لحرب الـ 44 يوماً. قضيتنا الملحّة اليوم هي التركيز على تحسين الوضع الإنساني لهؤلاء النازحين. أريد أن ندرك جميعا الوضع جيداً - لقد نزح 100 ألف شخص على عجل، في غضون أسبوع واحد فقط، تعرّضوا للتطهير العرقي وأجبروا على القدوم إلى أرمينيا. تركّز حكومتنا الآن على الاحتياجات الأكثر إلحاحاً التي يواجهها هؤلاء، بدءاً من الغذاء والمأوى والملبس وما إلى ذلك. نحن نركّز على ذلك بشدّة ونتوقّع بالطبع دعم المجتمع الدولي وأوروبا، بما في ذلك مخصّصات الموازنة".

خطر متعاظم على نفقات الموازنة والعجز

يرى تحليل أجراه كبير الاقتصاديين في بنك "آي. إن. جي." ورابطة الدول المستقلة، ديمتري دولجين، والخبير الإستراتيجي السيادي في الأسواق الناشئة جيمس ويلسون، وجود خطر متعاظم على نفقات الموازنة والعجز، ويستشهد برفع وكالة "فيتش" أخيراً تصنيف وفاء أرمينيا بالتزاماتها المالية إلى -BB.

ويقول خبراء بنك "آي. إن. جي." إن تداعيات هذه الأزمة تتجاوز الدعم الإنساني للاجئين، لأن العلاقات السياسية مع أذربيجان لا تزال متوتّرة، ويلوح في الأفق احتمال نشوب صراع جديد. "في الوقت الحالي، يستأثر الإنفاق الأرمني على الدفاع والدعم الاجتماعي بـ13 في المئة من الناتج المحلي الإجمالي و 50 في المئة من إجمالي الإنفاق. ونقدّر أن يصل إجمالي الإنفاق الاجتماعي الإضافي بسبب اللاجئين إلى 1 في المئة على الأقل من الناتج المحلي الإجمالي، في حين يجب أن يظل الإنفاق العسكري مرتفعاً بالنظر إلى الضغط الذي تمارسه أذربيجان لإنشاء جسر بري إلى جيب ناختشيفان عبر الأراضي الأرمنية"، كما يقولون.

أدّت أحداث سبتمبر/أيلول أيضاً إلى تعبئة العديد من الجهات الاجتماعية وغير الربحية، بما في ذلك من يجمعون التبرّعات لأغراض مختلفة ويقدّمون منازلهم وأغراضهم الخاصة للاجئين. تشارك الشركات الفاعلة أيضاً بمساهمات خيرية مختلفة.

يبدو أن أرمينيا ستستوعب العواقب الاقتصادية المترتبة على أزمة ناغورنو كاراباخ على المدى القصير، مع أن المستقبل لا يزال غامضا

القدرة على الصمود

استفادت بعض القطاعات من هذه الأزمة على المدى القصير، وربما على المدى الطويل أيضاً. فقد دفعت الحكومة الأموال للفنادق ودور الضيافة لتوفير المسكن للاجئين في الأيام والأسابيع الأولى التي تلت وصولهم إلى البلاد، مما منحها إيرادات إضافية مع اقتراب موسم السياحة التقليدي من نهايته. في غضون ذلك، تدرك البلاد أيضاً أن الأخطار الأمنية المرتبطة بهذه الأزمة يمكن أن تؤثّر سلباً على تدفّقات السيّاح. وقال رئيس لجنة السياحة في أرمينيا، سيسيان بوغوسيان، في مقابلة مع موقع "سيفيل نت" (CivilNet) في وقت سابق من أكتوبر/تشرين الأول: "من المهم أن نرسل الرسائل الصحيحة... أول ما يقوله الناس هو: ' نحن آسفون جداً في شأن ما يحدث في أرمينيا'، وعليّ أن أقول لهم: 'هذا لا يحدث في جمهورية أرمينيا'، فمن المهم أن يدركوا الفرق".

AFP

يستفيد القطاع المصرفي أيضاً من تزايد عدد العملاء في البلاد، لا سيما أن الحكومة لا تقدّم المساعدات المالية المباشرة إلا بعد أن ينشئ اللاجئون حساباً مصرفياً محلياً. هذا بالإضافة إلى النموّ الكبير الذي حقّقته المصارف فعليا حتى الآن في السنة الجارية. وأفادت دائرة إيرادات الدولة أن إجمالي الضرائب التي دفعتها المصارف الأرمنية في الأرباع الثلاثة الأولى من سنة 2023 ارتفع أكثر من 140 في المئة على أساس سنوي. وارتفعت الإيرادات الضريبية عموما بنسبة 17 في المئة سنوياً في الفترة نفسها. 

لا شك في أن هذا النموّ الاقتصادي سيساهم في نفقات الدعم الاجتماعي التي ستستمر حتى سنة 2024. وكانت جمهورية أرمينيا تقدّم عادة قرضاً للسلطات الأرمنية في ناغورنو كاراباخ، بلغ نحو 360 مليون دولار عام 2022. هذه الأموال ستوجّه أيضاً لدعم السكان النازحين من طريق برامج مختلفة في 2024. في ضوء ذلك، ذكر المسؤولون الحكوميون أن الدعم المطلوب للاجئين من ناغورنو كاراباخ لن يتسبّب بعبء مالي إضافي على أرمينيا على المدى المتوسّط إلى الطويل.

يبدو أن أرمينيا ستستوعب العواقب الاقتصادية المترتبة على أزمة ناغورنو كاراباخ على المدى القصير، مع أن المستقبل لا يزال غامضاً،بل إن بعض الأشخاص لديهم آمال - وربما إلى حد التفاؤل - في استتباب السلام في المنطقة. وإذا حدث ذلك، فقد يشكّل دفعة اقتصادية جديدة للبلاد وجوارها.

font change

مقالات ذات صلة