حرب غزة... قليل من الصراحة

حرب غزة... قليل من الصراحة

أسوأ ما يمكن توقعه أن تمر المعاناة الإنسانية الرهيبة التي أصابت سكان غزة من دون أن يتغير وضع الفلسطينيين في القطاع، بل أن تكون المأساة الحالية مقدمة لما سيأتي من كوارث.

والحال أن محاولة طمس المستقبل المظلم الذي ينتظر سكان القطاع بحديث عن تضحيات المقاتلين الفلسطينيين ومواجهة آلة الموت الإسرائيلية بأسلحة بسيطة وإرادة صلبة، لا تكفي لتشكيل صورة صادقة عما يجري.

في الآتي ملاحظات لا يرغب كثر من مؤيدي الحق الفلسطيني في الالتفات إليها:

- رئيس الوزراء الإسرائيلي سيمضي في مشروعه لتدمير القطاع والقضاء على كل الفصائل المسلحة وغير المسلحة فيه مهما كلفه الأمر.الفكرة الاساس عنده هي محو التمثيل السياسي للفلسطينيين من اية جهة اتى. ويعرف نتنياهو أن مستقبله السياسي بل حياته الشخصية أصبحا على وشك النهاية بسبب الفشل الأمني والعسكري في السابع من أكتوبر/تشرين الأول. عليه، وقياسا على ماضيه وإرثه الطويل من الانتهازية والتلاعب بالحلفاء قبل الخصوم، سيفعل كل ما يمكن وما لا يمكن تصوره ليغير موجة الاعتراض على سياساته لمصلحته. دماء الفلسطينيين ثمن بسيط سيقدم على مذبح إنقاذ نتنياهو.

- الأحاديث عن انهيار المجتمع الإسرائيلي أو عن خلافات داخل المؤسسة العسكرية والأمنية، لا قيمة لها. الإسرائيليون اليوم أكثر تطرفا من نتنياهو ولا يجمع بينهما غير هم التخلص من كل ما يذكرهم بالفلسطينيين وقضيتهم وبما جرى في ذلك اليوم من أكتوبر/تشرين الأول. لقد وحدت الحرب الاسرائيليين خلف مشروع تدمير الفلسطينيين.

- الأصوات المعارضة للحرب في الداخل الإسرائيلي لا تأثير لها على مجريات الأمور. هي تعبير عن مواقف أفراد لهم رؤيتهم الخاصة لاحتلال الأراضي الفلسطينية. وبغض النظر عن مكانتهم وتمتعهم باحترام واسع وعلاقاتهم في عالم الصحافة والأكاديميا، إلا أنهم في كون مواز لا صلة له بصناعة القرار الإسرائيلي أو الغربي. لا وجود حقيقيا "لمعسكر سلام" في اسرائيل. الحرب هي ما يصنع المستقبل.

الدعم الغربي لإسرائيل لا يرتبط فقط بوظيفتها الاستراتيجية في المنطقة، بل أيضا بتصور الغرب لنفسه كحام للأقليات وكجهة تعلمت درس المحرقة النازية ولن تكررها، بل ولن تسمح لأي كان بتكرارها

-    الحديث عن "انتصار المقاومة" في غزة، يندرج في سلسلة الانتصارات العربية المتتابعة منذ 1948. والحال أن التركيبة النفسية الجماعية والفردية للإسرائيليين، والحاجة إلى الظهور الدائم بمظهر الضحية والفئة الضعيفة المُهدَّدة، سيسفر دائما عن إعلانات بالتقصير والترهل وتآكل قدرة الردع وما شابه. ويمكن لمتابع الصراع العربي– الإسرائيلي جمع مكتبة كاملة من المؤلفات والتقارير الرسمية الإسرائيلية عن الأوضاع المزرية في الجيش وعن المفاجآت التي وقعت في التاريخ العسكري الإسرائيلي. لكن دعونا لا ننسى أن جسرا جويا وبحريا أميركيا حوّل مسار مفاجأة أكتوبر/تشرين الأول 1973 وجسرا مشابها يعمل الآن لتوفير كميات هائلة من الأسلحة والذخائر لإسرائيل إضافة إلى الإمداد بالمعلومات الاستخبارية والأمنية الذي يتدفق من كل الجهات إلى المخابرات والجيش الإسرائيليين. 
-    يقود ذلك إلى ملاحظة إضافية: إن الدعم الغربي لإسرائيل لا يرتبط فقط بوظيفتها الاستراتيجية في المنطقة- وهي وظيفة تراجعت أهميتها منذ أعوام- بل أيضا بتصور الغرب لنفسه كحام للأقليات وكجهة تعلمت درس المحرقة النازية ولن تكرره، بل ولن تسمح لأي كان بتكراره. الرئيس الأميركي الحالي، كلف نفسه بمهمة إنقاذ الليبرالية الديمقراطية الغربية في مواجهة خصومها من اليمين واليسار على حد سواء. بهذا المعنى، يتخذ صراعه مع منافسه دونالد ترمب بعدا عالميا. من هنا إصرار بايدن على دعم "القيم الغربية الديمقراطية" ومنها حماية إسرائيل. اكثرية شباب الحزب الديمقراطي تؤيد الفلسطينيين. بيد ان ذلك سيؤدي الى خسارة بايدن والشباب الديمقراطيين وعودة ترمب، ما لم يحصل تغيير كبير في الحزب الديمقراطي. 
-    السياسيون الغربيون الذين خففوا من غلواء مواقفهم المساندة للمذبحة الإسرائيلية وصولا إلى دعم قطع المياه والكهرباء عن غزة ومنع المساعدات الإنسانية وحتى اقتحام المستشفيات، لن يكونوا يوما في صف الشعب الفلسطيني. ما حملهم على الوقوف في الخندق الإسرائيلي هو حساباتهم الداخلية الانتخابية في ظل صعود اليمين المتطرف، وما خفف من اندفاعتهم هو الحسابات ذاتها بعد إضافة أصوات المهاجرين والشباب. عليه، ستبقى الانتهازية سيدة القرارات الأوروبية والغربية. 

الاعتقاد بقدرة صور الأطفال الجائعين أو ضحايا القصف الإسرائيلي، على "تحريك الضمير العالمي"، لا يرى أن "الضمير" المذكور يتحرك وفق مصالح وأجندات وحسابات وليس وفق مشاعر وأحاسيس ومآسٍ

-    مسألة "التوريط". من يقرأ بإمعان رسالة قائد "كتائب القسام" محمد الضيف أثناء هجوم مقاتليه خارج غزة، لا بد أن يصدمه التشابه الكبير مع الأدبيات التي أعدتها حركة "فتح" عشية انطلاقتها قبل 58 عاما. يقول محمد الضيف متوجها إلى فلسطينيي الأراضي المحتلة في 1948 وفي الضفة الغربية والقدس وإلى الحلفاء في إيران وسوريا والعراق ولبنان: "اليوم، اليوم، كل من عنده بندقية فليخرجها، فهذا أوانها، ومن ليس عنده بندقية فليخرج بساطوره أو بلطته أو فأسه أو زجاجته الحارقة، بشاحنته أو جرافته أو سيارته… هذا يوم الثورة الكبرى من أجل إنهاء الاحتلال الأخير ونظام الفصل العنصري الأخير في العالم". 
وبعد ستة عقود من رهان مؤسسي "فتح" على خروج الجماهير والدول العربية قاطبة لقتال إسرائيل ما إن يشن المقاتلون الفلسطينيون أولى عملياتهم، يبدو أن ثمة أوهاما مزمنة لا زالت تسيطر على كثير من القادة الفلسطينيين. ومثلما لم تخرج الدول والشعوب العربية في 1965 إلا لتصاب بهزيمة 1967 الساحقة، لم يزد الدعم من سوريا والعراق ولبنان والضفة واليمن، سوى عن عمليات محسوبة تصب في مصلحة قوى تستثمر في الدماء الفلسطينية. المفارقة أن من اقتنع بعبثية فكرة "التوريط" ذهب في قناعته المستجدة إلى أبعد مما يجب وفضل التعاون مع الاحتلال على البحث عن وسائل عمل مختلفة لاستعادة حقوق شعبه. 
ليست السطور هذه لتعميم اليأس. ولكن للقول إن الواقع أصعب مما تريد أصوات عالية وانفعالية إقناعنا به. وأن الاعتقاد بقدرة صور الأطفال الجائعين أو ضحايا القصف الإسرائيلي، على "تحريك الضمير العالمي"، لا يرى أن "الضمير" المذكور يتحرك وفق مصالح وأجندات وحسابات وليس وفق مشاعر وأحاسيس ومآسٍ. 
 

font change