تعاقب المكتبات

تعاقب المكتبات

كلّ مكتبةٍ تقود إلى أخرى، في تعاقب لا ينتهي، في دوائر تتضاعف مدارا، مدارا، الواحد تلو الآخر. يبدو الأمر شبيها بالصناديق التي يضمر أحدها الآخر، علبة داخل علبة، بتواتر متناسلٍ و متماوجٍ في امتدادٍ هائل، لا حدود له .

اللعبة تبدأ من كتابٍ يستدعي صنوه، وهذا يستضيف ندّه أو غريمه وعلى هذا النحو يستدرج الواحد الآخر في ولع تتخلق معه الكثافة الورقيّة التي تصنع شكلها وتختار هندستها، وفجأة تغزو الكتب البيت، وتستفحل في كل حيّز، فتعتمر الفضاء وتؤثثه ليمسي غابة داغلة .

المكتبة محض غابة، والغابة محض متاهة.

لا يفترض التيه أن تكون المكتبة ذات بناء هائل، تشغل حيّز مكان شاسع لكي يتحقق شرطه أو مغامرته أو تجربته. يمكن للمكتبة أن تكون مجرد خزانة صغيرة، تعتمرها حفنة كتب لكي يتحقق التيه العظيم فيها، والتيه لا يحتكم بالضرورة إلى العيش بجوار المكتبة أو في داخلها ضمن مكان مشترك، فالمكتبة تقيم في الداخل أيضا، وتتشعب وتتداغل في منطقتها العجيبة اللامعلومة في المخيلة والذاكرة، نحملها معنا ونتنقل بها أنّى ارتحلنا وحللنا.

المكتبة الخاصة التي يشيدها الكاتب أو القارئ في أمكنته الحميمة، هي بيته المضاعف وأثره الذي يدلّ عليه بصور من الصور الاستيهاميّة.

قد تلعب المكتبة دورا شائعا في تأثيث المكان كحلقة ضمن نسق الديكور الجمالي للبيت، غير أن هذه الحلقة تشبه ثقبا أسود لمن يعي خطورتها، إذ تبتلع كل الوجود في المكان، وتستأثر بالغواية والانتباه والقيمة المريبة. فالمكتبة لا تقف على طرف حياد، إذ تمكر بوظيفة نسق الديكور التي أريد لها أن تلعبه، بل تتخطاه وتتعداه، لتمهر كينونتها بأثر جمالها الخاص الخارج عن منظومة البيت، محتفظة بقوة أسرارها التي لا تتكشف لأي كان وتدخر ألغاز وجودها من خلال ما تكتنزه رمزيا بشكل باذخ .

المكتبة الخاصة التي يشيدها الكاتب أو القارئ في أمكنته الحميمة، هي بيته المضاعف وأثره الذي يدلّ عليه


هكذا تثوّر المكتبة جمودها كشيء أو صمتها المزعوم (الموهوم)، إذ هي تحكي باستمرار، بأصوات مهموسة، عبر إيقاع هذيانيّ شبيه بهسيس نهر، كأن الكتب ترتل متونها الحكائية والشعرية.

الصورة لا تقف عند هذه الحدود، إذ أن أصوات المكتبة قد تنقطع لفترة، وبدلها يحدث شيء آخر، هو تسلل الأشباح والأطياف من عتمات رفوفها، أشباح لمؤلفين باختلاف أجناسهم وهوياتهم وأزمنتهم وأمكنتهم، موتى وأحياء، يتجولون في البيت ليلا، ويتحلقون حول مائدة الطعام والسمر، كأنما يشاركون طينة من الضيوف حواراتهم، باختلاف أو توافق .

أطياف لشخوص تخييلية تنهمر من القصص والروايات والقصائد، تتنزه في غرفة النوم، توقظك من منامك، أو تتسلل إلى داخل أحلامك وتشارككك مادة الحلم أو الرّؤيا .

لا تخشى أطياف هذه الشّخوص – التّخييلية - الخروج من البيت، إذ تمضي معك مرّات وكرّات خارج إقامتها في المكتبة، تشاركك نزهة الليل، أو سفر المدن والبلدان.

كيفما توهمت الإحاطة بيقين عناوين ومعرفة الكتب التي تترف بها مكتبتك الخاصة، دائما تفاجئك بكتاب غريب، لا تعلم متى عزّزتَ به معمارها ولا أين ظفرت به، أو متى تسلّل هو إلى بستان الرّفوف .

ثمّة كتب غير مرئية، مجهولة، تنتصب كأعشاب سحرية بين الكتب المرصوصة، خاصة في الفجوات والكوات والفراغات العاتمة. كتب متخيلة تتلصص عليك وتغوي نظرتك باكتشاف وجودها الموهوم.

أما الكتب التي تغيب عن عشيرة المكتبة وتفقدها أمّة الكتب، فتترك أثر حزنٍ ما، يومئ به شكل المكتبة المتغيّر والمتحوّل، نعم، فقدان كتاب واحد، يحدث تغييرا جذريا في معمار المكتبة الآيلة إلى التغوّل .

ليس هناك من صرامة أو مهنيّة رتيبة تمهر علاقتك بالمكتبة وتشييدها، وحده اللعب لا غير، ما يجمعك بالكتب، حيث المكتبة محض لعبة سحرية


يحدث أن تُسقطَ الكتب من الرفوف وتُبعثرها في كثافات فوضوية كيفما اتفق في البيت، ليس لتحرّرها من سطوة النظام في نمط تصفيف المكتبة وهذا يهاجسك بالتأكيد، بل لترى هل ستختار الكتب أمكنتها السّابقة في الرفوف عندما تعيدها إلى الخزانة اعتباطا. ثمة احتمال ممكن التحقّق، لرجوع كتابٍ ما إلى مكانه الأصلي دونما وعي مسبق منك بإحداثية وجوده السّالف على الرف .

ليس هناك من صرامة أو مهنيّة رتيبة تمهر علاقتك بالمكتبة وتشييدها، وحده اللعب لا غير، ما يجمعك بالكتب، حيث المكتبة محض لعبة سحرية .

ثمة مدن يرسخ أثرها الجميل في ذاكرتك من خلال مكتباتها كما لو كانت هذه المدن الكبرى مكثفة في أيقونة مكتباتها، وقس على ذلك مكتبات الأصدقاء، ما أن يذكر اسم الواحد منهم تبرق صورة مكتبته في الذهن كما لو كانت متلازمة.

غالبا ما تتخيّل أشخاصا يقرؤون الكتاب نفسه، في الآن نفسه، في أكثر من مكتبة (أو مكان) في العالم.

من كثرة ارتيادك لمكتبات البلدان التي ظفرت بالسّفر إليها، حلمت بعاصمة للمكتبات، مدينة ضخمة هي ذاتها مكتبة، تتواشج فيها كلّ مكتبات العالم.

كم ذا تخيلت مكتبتك شجرة عزلاء، وبالكتب طيورا مهاجرة، تأتي الكتب محلقة من مكتبة في صقع من أصقاع العالم لتحل فيها، وما أن تطّلع على بعضها تحلق بعد حين إلى مكتبة شخص آخر في صقع ناء من أصقاع الكون وهكذا دواليك .

عندما تلقي نظرة إلى مكتبتك فأنت تطلُّ من كوة سحرية على مكتبات العالم قاطبة، ليس المكتبات الخالدة أو المعاصرة وحسب، بل تلك التي كان مصيرها التّلف عبر الإحراق والتدمير في تاريخ الإنسانية، هذه المكتبات التي تتمرأى لك من ثلمات مكتبتك الخاصة، تحاولُ أن ترسم لها خارطة بخيالك:

هل هي خارطة جنّة بورخيسية؟ أم خارطة جسد أنثى جارفة؟

يستعصي عليك شكل الخارطة من فرط الاشتباكات الداغلة الشبيهة بموجز تاريخ أحلامك.

font change