سبع تجارب تشكيلية نسائية من أفريقيا

ما يستطيعه الفن أمام تراجيديا الحرب

من أعمال كودزاني

سبع تجارب تشكيلية نسائية من أفريقيا

مثلما للحرب مضاعفات تراجيدية إنسانية، لها ندوب أيضا على الفن الذي يؤويها في ذاكرته الخاصة، مستثمرا إياها جماليا عبر مسافة، لصالح لغته البصرية المفردة، مصوغا أثرها المأسوي بأدواته التجريبية، في مسعى فني لتشكيل وثيقة بصرية عن اللحظة التاريخية الفجائعية، من جهة، ومن جهة ثانية هي خطاب بصري يصدر عن ذات شاهدة على الخراب، من الداخل نحو الخارج، من عمق التجربة الشخصية على نحو خاص، صوب ما هو جماعي، على نحو عام.

وسواء تعلق الأمر بحروب أهلية أشعل فتيلها الاستعمار الجديد، أو هي حروب تعددت أسبابها بين بلدان تعاني ثقل إرث الاحتلال الأجنبي، ذات نزوع همجي، جانحة نحو الابادة والتهجير، فالفن التشكيلي وفق تجارب نسائية أفريقية على سبيل المثل، لم يقف متفرجا، حياديا، يرقب مهادنا ما يحدث من وقائع دموية تراجيدية، بل تفاعل مع الانشطارات والتمزقات، صارخا من زاويته، ضد الصمت، ومبادرا لإيواء الصدى الكارثي للحرب، عبر أثره الجمالي الخالص، غير المتنازل بأيما شكل من الأشكال للصوغ المباشر والسطحي والآني الضحل، بالعكس، مراهنا على العمق، ومجربا لطرائق مبتكرة في تشكيل المأساة فنيا بصورة خلاقة، مغايرة، جديدة ومحدثة.

ممن ترجمن مآسي الحروب من الداخل في التجربة التشكيلية الأفريقية، متماهيات مع الانشطار الجواني، مع التشظي الوجداني، وفق ما يصخب به تموج ألوانهن، والإيقاع المتوتر لخطوطهن، فضلا عن جسارة المادة، نقف عند سبع علامات فنية نسائية من القارة الأفريقية، تفصح أعمالهن عن آثار الحرب، في احتدام الألم الطاغي، وتمزق الذاكرة، من فرط الدمار الناجم عن النزاعات الدموية، إذ تحوّل الفن التشكيلي لدى هؤلاء النسوة المتوقدات، إلى مقاومة بصرية ضد الموت، ضد الخراب، ضد الوحشية، ضد قتل الأطفال والنساء، ضد الاستعمار ومحو الثقافات الأصلية، ضد الإبادة الشعواء في أفدح صورها.

تفصح أعمالهن عن آثار الحرب، في احتدام الألم الطاغي، وتمزق الذاكرة، من فرط الدمار الناجم عن النزاعات الدموية

سبع فنانات تشكيليات من إثيوبيا وكينيا ونيجيريا وساحل العاج وجنوب أفريقيا وزيمبابوي والسودان، يشتركن في سرديات مثخنة، وهن يحكين آثار الحروب بطرائقهن الرمزية، التجريدية، التعبيرية، يضعن الألم الإنساني في صلب أعمالهن الدامغة الأثر، وهن يفصحن بلا هوادة عن مضاعفات الحرب السوداء، دون نسيان مآلاتها من ندوب المنافي، اللجوء الانساني، العنف الجنسي، وهلم من جراح مفتوحة يضرج دمها التاريخ والثقافة والمعنى.

عايدة مولونه

تراهن عايدة مولونه على الأحمر والأزرق والأصفر في استغوار الحالات الدرامية لأغوار نسائها خاصة، وشخوصها عامة، مستلهمة جماليات اهتراء الجداريات لكنائس إثيوبيا، فضلا عن الرسم على الوجه، وتلوين الجسد، كتقليد مستقى من طقوس الزينة العتيقة، لكن بتطويرها وتثويرها ضمن نسق حداثي، يعيد إنتاج الرموز، في تفاعل بين أثر الماضي، وتحولات الحاضر، ومآلات الآتي.

عايدة مولونه

تمزج مولونه بين التصوير الفوتوغرافي والرسم والتخطيط الزاهي لتصوير ما بعد الصراع في بلد عانى من فداحة الحروب والمجاعات ذات البيئات القاحلة، مما ينعكس جليا في وجوه النساء الطاعنات في الحزن، منتصبات كتماثيل بصمت مدوّ أو حارسات لأنقاض ذاكرة ووطن مدمرين عن آخرهما.

لا تهادن عايدة مولونه في إمعانها بتكسير الصورة النمطية والجاهزة عن القارة الأفريقية، ناذرة الفن المتعدد لملاذات العلاج الشمولي من إرث الحرب وصراع الهويات القاتل.

وانغيشي موتو

اشتهرت وانغيشي موتو بأعمال الملصقات/ الكولاج الضخمة التي تعيد تركيب مخلفات الحقل الطبي، إلى جانب قطع إثنوغرافية، من أجل صوغ عالم لامعقول، عماده كائنات هجينة، أشبه ما تكون مشغولة بحس فرانكنشتايني: أطراف بشرية، أعضاء حيوانية، نباتات وعظام وآلات وخردوات، تترجم أشكال العنف، وقضايا الجندر، وبشاعة التلوث، وصراع الهويات الجارف.

من أعمال وانغوشي موتو

تستلهم وانغيشي موتو جماليات التشريح الأنثوي لتشخيص آثار العنف الجنسي وإضاءة ندوب الحروب على الجسد الأنثوي الأفريقي.

 مجمل شخوصها المهجنة عن التشظي أو الغروتيسك، الناتج من الاستعمار الوحشي، والحروب الأهلية المقيتة، والاضطهاد الطبقي السافر.

لا تتردد الفنانة في المزج الخلاق بين الخيال العلمي والتراث البصري الأفريقي البكر لإعادة كتابة التاريخ من منظور نسائي طاعن في الجراح، حيث تسخّر الفانتازيا لعرض بدائل ما بعد العنف والتخريب الشامل.

من أعمال عايدة مولونه

من أبدع أعمالها preying mantra: عام 2006، تخلق فيه رمزا للحرب والثأر عبر شخصية بشرية هجينة، تحمل أفعى، كنموذج استعاري لطقس الخطيئة والبقاء بعد ضراوة الصراع.

نينا أوكوري

تراهن الفنانة التشكيلية نينا أوكوري في عملها الفني على المادة العضوية المستقاة من الطبيعة، تقوم بتدويرها لصالح اختلاق أو تركيب أشكال ضخمة، سديمية، ذات نزوع رمزي، تشخص فيه مدار الموت والبعث.

لا تتردد الفنانة في المزج الخلاق بين الخيال العلمي والتراث البصري الأفريقي البكر لإعادة كتابة التاريخ من منظور نسائي طاعن في الجراح

باستخدامها المواد العضوية قيد التدوير الفني، تجنح نينا أوكوري إلى فلسفة بيئية، مبتدأها تحويل آثار الخراب ومخلفاته من الأتربة والأخشاب المتآكلة والأوراق المتحللة، والأسلاك الصدئة، إلى مبعث حياة متجددة، يروم خلق جماليات ما بعد الخراب، المؤسسة على رماد الحرائق الانسانية، وهشاشة الأرض اليباب.

مجمل أعمال نينا أوكوري الرمزية ترتبط بما بعد الحرب الأهلية في نيجيريا، مستكنهة العلاقة بين البيئة الخراب والذات المنهارة.

جوانا شامولي

جوانا شومالي

لقبت جوانا شومالي بشاعرة الإبرة والخيط، إذ أن كل غرزة وفق تصورها وسيلة للتعافي، وقد طوّرت تقنية تطريز الصور الرقمية لتشخيص آلام الفقد والانكسار. معها تحول التطريز إلى أداة شعرية شفيفة، تجابه كارثية العنف بجدوى الفن، بالنظر إلى كل غرزة إبرة بمثابة أثر على جلد الذاكرة، تغدو معالجة صامتة لدوي جراح الحروب المعاصرة، وبذا التأم مجمل منجزها تحت عنوان الشفاء الجماعي وفق رؤية بصرية تراكمية، مضادة لانشطارية الحرب.

هي نموذج آخر من نماذج المقاومة البصرية لتراجيديا الحرب ومأساة النزاعات المحلية ذات النزوع الارهابي.

من أعمال شامولي

ماري سيباندي

تنحدر ماري سيباندي من عائلة نسوة اشتغلن خادمات من الجيل الثالث في جنوب أفريقيا، وقد ولدت مع نهاية نظام الفصل العنصري، مما جعل وعيها الشقي والفني في آن، يتمحور حول سؤال الهوية، وقضية الجندر، فضلا عن العرقية والطبقية.

 ابتكرت سيباندي شخصية خيالية تدعى صوفي، وهي خادمة سوداء ترتدي زيّا ملكيّا تتمثّل أحلام النسوة السمراوات، في جنوب أفريقيا ما بعد الفصل العنصري، للتحول من خادمات إلى ملكات، أو محاربات، أو ساحرات.

في هذا المنحى تتحول صوفي عبر أعمالها من رمزية الخضوع إلى تمثيل القوة والمجابهة، وبالرغم من أن الحرب في لوحاتها مجازية، لكنها تشير إلى عنف النظام العنصري وآثاره النفسية على المرأة الأفريقية السمراء. في المقابل تمثل صوفي –شخصيتها الخيالية المتكررة- النزوع نحو التحرر، من تاريخ العمل القسري، وإرث العبودية المقيت.

ماري سيباندي

كودزاني فايلوت هوايمي

تمثل كودزاني فايلوت هوايمي الفنانات الأفريقيات اللواتي عانين النزوح من بلد إلى آخر، طلبا للجوء، وقد نشأت في المنفى بجنوب أفريقيا بسبب قمع موجات العنف في بلدها زيمبابوي.

تراهن هوايمي في أعمالها الفنية على الأكريليك والزيت والصورة الفوتوغرافية فضلا عن التركيب الرقمي.

يقف المنفى مقابل الوطن، ويحتد توتر الذات بين الانتماء لهذه الهوية الجديدة وبين الهوية الراسخة في جذورها

لا تنفك تعري أجساد شخصياتها لكن بمسوح تجريدية ذات خلفيات ملونة لافتة، مع اعتماد صور أرشيفية عائلية في الغالب، متأرجحة في مأساة هجرتها بين الحنين إلى طفولتها، والارتداد الحزين إلى الحاضر. كأنما تجسد صراعا بين واقعها الآني، وذاكرتها الموشومة.

من أعمال سيباندي

أما في لوحاتها الزيتية، فتتشظى ذاكرة الوطن عبر صور متشابكة، تفصح عن مجازات الطفولة المهدورة، عن آلام الانفصال العائلي، وعن شراسة الحنين اللاشفاء منه.

في المجمل، تنزع لوحاتها إلى خلق أثر ما بعد الحرب، إذ يقف المنفى مقابل الوطن، ويحتد توتر الذات بين الانتماء لهذه الهوية الجديدة الجنوب أفريقية، وبين الهوية الراسخة في جذورها الزيمبابوية.

كودزاني

يثرب حسن

تزاوج يثرب حسن في أعمالها الفنية بين الانطباعية والواقعية، راصدة بعين التشكيل المتجددة يوميات الحرب في السودان، منذ اندلاعها في أبريل/ نيسان 2023، وقد كانت من الشاهدات على ويلات الدمار في الخرطوم قبل أن تهاجر مع أسرتها إلى جزيرة أبا، منها إلى كينيا عبر إقامة فنية، لتغدو لاجئة.

شاركت الفنانة التشكيلية في معرض جماعي في نيروبي تحت عنوان السياسات القمعية، ذات طموح تولي فيه اللوحة موئل وثيقة بصرية عن العنف والقمع والحرب، حتى تحفظ أثرها زمانا ومكانا في ذاكرة السودان الشمولية.

font change

مقالات ذات صلة