واقعية سحرية في رواية من تشاد

سرد مجتمع لم تجرفه رياح الحداثة

واقعية سحرية في رواية من تشاد

لم تكن الواقعية السحرية حكرا على أدب أميركا اللاتينية، وإن كان هذا التوجه اشتهر هناك كمصطلح. فخلال ما يقرب من قرن، اتبع كثيرون من أدباء وفناني العالم هذا المنحى الواقعي السحري، مستفيدين من الموروث الحكائي الأسطوري والخرافي لبلدانهم. وربما يكون الكاتب التشادي روزي جدي آخر هؤلاء الكتاب الذين التفتوا إلى إرث بلدانهم الساحر فحاولوا تقديمه بنصوص أدبية حديثة مليئة بالدهشة.

في روايته "التاريخ السري المعلن لآدم حواء" الصادرة حديثا عن "دار صفصافة" في القاهرة، يكشف لنا روزي جدي جوانب مهمة من تاريخ تشاد الحديث، من زاوية أدبية يخرج منها القارئ وقد عرف الكثير عن الحياة الاجتماعية في هذا البلد، الذي تتنوع فيه الهويات القبلية بلغات ولهجات شتى، في ظل سيطرة اللغتين الفرنسية والعربية، حيث بقي الاستعمار الفرنسي زهاء ستين سنة، لتبدأ من عام 1960 مرحلة جديدة تحاول فيها استكشاف جوانب أخرى من هوية المكان المتجذرة في الممالك العربية القديمة والعمق الأفريقي.

آدم حواء

يظهر تاريخ تشاد السياسي في الرواية من خلال صوت حاميدي يسكو الذي التحق بثورة فرولينا بسبب الغضب: "كنت غاضبا من نفسي ومن حياتي وحرص والدي على بقائي بعيدا عن التجارب". ليشهد تحولات الثورة العاصفة، سواء تلك التي حدثت بين قادتها أو بين الشمال والجنوب، في ظل تدخل الدول الاستعمارية كفرنسا، والمجاورة مثل ليبيا في عصر القذافي، الذي كانوا يلقبونه بـ"المجنون".

لكن المحور الرئيس في سرد الرواية هو قصة آدم حواء، صاحب الاسم الغريب، والذي يدل على شكله الجسدي المتمثل في وجود عضوين جنسيين له، أنثوي وذكري، إذ تتناول الرواية حياته منذ طفولته إلى أن يصبح قائدا عسكريا مؤهلا للانقلاب على الرئيس.

للرواية ثلاثة أصوات تسرد أحداثها: يسكو، وآدم حواء، الذي يأتي صوته على شكل مذكرات، وحاميدي يسكو، المناضل الثوري وأبو يسكو.

يأتي يسكو، وهو في الخامسة عشرة من عمره، إلى العاصمة أنجمينا ليدرس الثانوية، وفيها يتعرف الى آدم حواء الذي سمع أن لديه أعضاء تناسلية مزدوجة، فيجره فضوله، في أثناء لعب كرة القدم، إلى مطاردته وانتزاع سرواله ليتأكد بنفسه مما يقال. وبالرغم من المواجهة العنيفة التي جرت بينهما فإنها انتهت بصداقة جمعت بينهما لسنوات طويلة، في أنجمينا، التي حذره أبوه منها بالقول إنها مدينة غريبة سيرى ويسمع أشياء فيها لا يصدقها العقل.

يكشف لنا روزي جدي" جوانب مهمة من تاريخ تشاد الحديث، من زاوية أدبية يخرج منها القارئ وقد عرف الكثير عن الحياة الاجتماعية في هذا البلد، الذي تتنوع فيه الهويات القبلية بلغات ولهجات شتى

ربما كانت قصة آدم حواء أولى القصص الغريبة التي سمعها ورآها، وشكلت مثل أنجمينا صدمة كبيرة له، سواء في تعدد لغاتها، أو في ازدحام السيارات والناس في شوارعها، إضافة إلى قصص، شعبية وأسطورية، تشبه الكثير من قصص البلدان التي لم تجرفها رياح الحداثة وظلت تتداول الحكايات الخرافية وتمارس بعض طقوسها السحرية كمعيش يومي. لذا، تنتشر الأقوال عن شيوخ (سحرة) يستطيعون سرقة الأعضاء التناسلية للرجال بمجرد مصافحتهم. كما يتردد أنهم يستطيعون تبديل الأعضاء الجنسية من مذكر إلى مؤنث، أو العكس، بمجرد ملامستها، أو من خلال تناول وجبات خاصة وممارسة طقوس وطرائق تساعد في هذا التحول، إضافة إلى طرق جلب العشاق وكسبهم إلى قلوب المحبين، سواء بالاستحواذ على حياتهم أو على أموالهم وممتلكاتهم. ولهذا سيكون من الاعتيادي، في هذه الأجواء السردية، أن نقرأ عن شخص يهرول في الشارع واضعا كفه على عضوه التناسلي وهو يصرخ، أمام حشد من الناس: "أخذوه مني، لقد أخذوا عضوي". 

في هذا المستوى من السرد، يغوص روزي جدي في قاع المجتمع التشادي، فنتعرف الى نساء الليل سواء الحقيقيات منهن، أو أولئك اللواتي يمثل أدوارهن شبان يلبسون أزياء نسائية ويرقصون بتخنث أو بأنوثة في الحانات الليلية مع وجود من يعارضهم ويقطع طرقهم، إلى جانب صرخات أطفال يهتفون ضدهم "شماريخ، شماريخ".

مسلم يهودي

هناك لعبة جنساوية نجدها في بعض شخصيات الرواية، مثل حامودي الذي كان معروفا بعلاقته بالفتيات، ثم غلب الجانب الأنثوي في شخصيته بعد أن شاهد علاقة بين رجلين أثرت فيه، على عكس آدم الذي يعاني كثيرا من ازدواجيته الجنسية، حيث خاف من عضلات الرجال وألسنة النساء التي تؤلم أكثر من الضرب: "الناس كانوا ينظرون إلي وكأنني من كوكب آخر. شعرت لمرات لا تحصى أنني لا أنتمي إلى هذا المكان، الجميع ينظر إلي بطريقة غريبة، الكبار والأطفال، يحدقون فيّ وكأني بلا ملابس، باكرا غرزوا القلق والشك في ساقيّ، أمشي فألتفت، أطأطئ رأسي كي لا يراني الذين يتنمرون عليّ. مشيت خائفا في طرقات حارتي، حتى شعرت بأن عليّ الاختفاء أو الهروب إلى بلاد أخرى".

الكاتب التشادي روزي جدي

إلا أن هذا الازدواج يصبح أحيانا ظاهرة اجتماعية، فنجده في توجه الثورة الذي يواجه إشكالية في علاقته بالدين واللغة العربية.

وسنرى هذه الازدواجية في شخصية أبي عليو، الذي قدم نفسه، حين وصل إلى أنجمينا، باسم يوسف حمداني وبصفة تاجر يمني مسلم، جاء من حضرموت، فيما تقول المعلومات إنه يهودي واسمه الحقيقي جوزيف حمداني وإنه جاء من إيران أو سوريا "اشترى عقارات وأراضي زراعية، ثم أسس صالة سينما، يقولون إنه يعرض فيها أفلاما خاصة". وبسبب معرفة الرجل اليهودي "باللغة العربية والقرآن الكريم صار إماما للمسجد الكبير".

كما أن هذا الازدواج العام يصبح، في اشكاليته العامة، طريقا للخلاص، حيث يقرر آدم حواء، بعد أن يهجر أبوه منزلهم، التوقف عن ارتداء ملابس النساء، ويقوم بطقوس مقررة ليغلب جانب الرجولة فيه، ويلتحق بالكلية العسكرية ويصبح حارسا لابن الرئيس وخليفة الرئيس في المستقبل، ويترقى من ملازم إلى جنرال، حيث يصبح اسمه الجنرال آدم صندل، واضعا اسم أمه مكان اسم ابيه "دون أن يستغرب أحد الأمر لأنه اسم يذكر ويؤنث معا".

ومن أجل الخلاص من ذاكرة جسده القديمة، يقوم الجنرال صندل بالتخلص من كل أصدقائه الذين عرفوا شخصيته السابقة المزدوجة. وحين يصبح صديقه رئيسا، تتداول شائعة من خلال مقال صحافي بأنه مرشح لمنصب وزير الدفاع، مع غمز معترض لكونه "خنثى"، وإذ يمتنع الرئيس عن تعيينه متأثرا بأحاديث الناس، يقرر صندل القيام بانقلاب ضده.

الرواية لا تقدم هجاء لنوع جنسي، أو سلوك ما، في منحى لافت ميز طريقتها في السرد. وفي المقابل، نجدها تهتم بالتأثيرات النفسية والاجتماعية على شخصيات الرواية، ومنهم الشخصية الرئيسة التي مضت في دوافعها المتراكمة، أخيرا، إلى مبتغاها.

font change

مقالات ذات صلة