وول سوينكا يعود إلى الرواية: هجائيّة ضدّ الفساد

وقائع بلاد أسعد الناس في العالم

AFP
AFP
وول سوينكا

وول سوينكا يعود إلى الرواية: هجائيّة ضدّ الفساد

"وقائع بلاد أسعد الناس في العالم" هي آخر رواية للكاتب النيجيري وول سوينكا منذ نصف قرن، وقد صدرت هذه الأيام ترجمتها من الإنكليزية إلى الفرنسية. يعلم الجميع أن سوينكا هو أول كاتب إفريقي يفوز بجائزة نوبل للآداب (1986)، وأحد الرواد الكبار في تاريخ الأدب الأفريقي، لهذا فإن صدور ترجمة روايته الجديدة هذه يعد حدثا أدبيا استثنائيا، على الأقل بالنسبة إلى القراء الفرنكفونيين في إفريقيا وباقي العالم.

لقد اختار الكاتب هذا العنوان الغريب بعد أن صادف دراسة تدّعي أن السكان النيجيريين هم من أسعد السكان في العالم. ومن عجيب المفارقات التي يثيرها العنوان أن هذه الرواية هي، في الواقع، عبارة عن هجاء سياسي للنظام الفاسد تماما والاتجار بالأعضاء في نيجيريا، فضلا عن أنها دعوة للتعبئة ضدّ إساءة استخدام السلطة.إنها تحكي قصة أربعة أصدقاء منذ سنوات المدرسة، تعهّدوا في بداياتهم المتواضعة على البقاء على اتصال، متحدين في محاولة للقيام بشيء جيد لقرية ريفية واحدة على الأقل. اختاروا أن يطلقوا على أنفسهم لقب "عصابة الأربعة"، في إشارة إلى جرس تقليدي منحوت بأربعة رؤوس يستخدم لجذب الانتباه في بنين. ومن الواضح أن هناك إشارة إلى "عصابة الأربعة" الصينية أيضا، مما يشير إلى أن هذه المجموعة الصغيرة من الأصدقاء هي عبارة عن فريق يريد العمل على تحقيق هدفه، ولو خلسة إذا لزم الأمر. تصف الرواية عودة هؤلاء الأصدقاء إلى البلاد وقت الاستقلال. وتصورهم بأنهم مثاليون، مدفوعون بالطموح لبناء بلد جديد، لكنهم سيرون زخمهم يتضاءل بسبب التقاعس والتماطل والفساد والانقسامات التي ستندلع مع الحرب الأهلية. هكذا، سيواجه كفاحهم، من أجل ترسيخ أنفسهم في المجتمع، وحوشا مثل الفساد والبيروقراطية والتعصب الديني، وأخيرا وليس آخرا، عصابة متخصصة في تجارة الأعضاء البشرية.

 يهيمن على الرواية أسلوب سوينكا المميّز، وهو أسلوب ساخر ولاذع، لكنه شاعري أيضا.  لغته غنية للغاية، تستثمر التلاعب بالكلمات والإيقاعات الخاصة للجمل، وهي تذكر القارئ برواية " أطفال منتصف الليل" لسلمان رشدي بسبب كثافتها وتشعبها

يصعب فعلا تلخيص هذه الرواية، التي يتجاوز حجمها 600 صفحة، لأنها كثيفة ومتعددة الطبقات والمواضيع. تبدأ أحداثها بتقديم شخصيات معينة، واحدة منها تبدو غرائبية، تسمى بابا دافينا. لكن هذا الرجل الذي يدخل المشهد من الصفحات الأولى للكتاب، سنكتشف أنه دجال حقيقي.  أسس طائفة جديدة تهدف إلى أن تكون مسكونية، بينما يظهر رئيس الوزراء نفسه أنه من المتعاطفين معها.تظهر تحركات بابا ديفينا في جميع أنحاء غرب أفريقيا والولايات المتحدة، وتتبع تطور حبه للظهور من دور في المسارح الصغيرة إلى مستشار النخبة النيجيرية. ويوضح سوينكا أنه لا توجد حماسة أو تقوى حقيقية تدفع بابا دافينا، وإنما فقط القوة والنفوذ هما هدفه المنشود منذ بداياته. وتتضح شخصيته عندما تأتي إليه النساء المستضعفات للحصول على المساعدة فيقوم بقوادتهن لزعيم البلاد، السير جودفري دانفير. كما يرمز اختراق آبا دافينا للمجتمع إلى اعتناق التوحيد، ولكن من خلال الاحتفال بطقوس وأعياد جميع الأديان الرئيسية. وبهذه الطريقة يمكنه أن يجذب المسيحيين والمسلمين على حد سواء. فخدمته الحقيقية هي تزويدهم بالسحر الإحيائي لمساعدتهم في السعي وراء الثروة.

تعود القصة أيضا إلى تاريخ نيجيريا ما بعد الاستعمار، التي تفتخر بكونها "أسعد دولة في العالم"، في حين أنها فقط "الدولة الأكثر فسادا في العالم". ووسط كل هذا، تظهر الصورة الرائعة للجرّاح الذي يعيش في مدينة جوس، حيث من المفترض أن يقوم بعلاج الرجال والنساء الذين تشوّهوا في تفجيرات بوكو حرام في الشمال. كما ترتبط هذه الخيوط المختلفة أيضا بفضيحة إعادة بيع الأعضاء البشرية لصنع تمائم وغيرها من لوازم الطقوس المروعة.  وبشكل عام، يتمثّل التحدي الأكبر للرواية في العثور على الرمز السرّي لاختراق قلب هذا التجمّع القذر لبائعي الأعضاء البشرية، من أجل محاولة تفكيكه.

 

ساخر ولاذع وشاعريّ

يهيمن على الرواية أسلوب سوينكا المميّز، وهو أسلوب ساخر ولاذع، لكنه شاعري أيضا. لغته غنية للغاية، تستثمر التلاعب بالكلمات والإيقاعات الخاصة للجمل، وهي تذكر القارئ برواية " أطفال منتصف الليل" لسلمان رشدي بسبب كثافتها وتشعبها. إذ يشترك رشدي وسوينكا في خيالهما الثري الذي يستلهم ذكريات الطفولة ووقائع المجتمع المحلي. فالشخصية التي تبدو للوهلة الأولى ساخرة ومنتفخة، يتبين أنها ذات مصداقية، بمجرد دخولنا في إيقاع السرد. وينطبق الشيء نفسه على مكان الأحداث، نيجيريا، التي تبدو خيالية في المظهر فقط -"بلد أسعد الناس في العالم"، أو "عملاق أفريقيا"، وهما لقبان ليسا بعيدين كل البعد عن الغرابة في الواقع- بينما تحدث فيه مناورات سياسية ومؤامرات دينية، ويتفاقم الفساد على نطاق واسع، ويتفتت الإقليم حتى تستحيل السيطرة عليه. يكفي تغيير بعض الأسماء، وإزالة الأقنعة والقليل من الماكياج، فيجد القارئ نفسه وجها لوجه مع نيجيريا المعاصرة، هذه البلاد التي يتهكم عليها الكاتب ويحتفي بها في نفس الوقت، في هجائية لا تسلب الرواية روح مغامرة خيالية رائعة-باروكية، بشكل مبهج ولكن معقول للأسف.

يمكن بالفعل أن يُقرأ هذا الاتجار بالأعضاء البشرية باعتباره استعارة للانحدار الاجتماعي الذي لفت سوينكا الانتباه إليه في أعماله الأولى، وخاصة في روايته الشهيرة "المفسّرون"


من جهة أخرى، ليس من الصعب الاستنتاج بأن بيع أجزاء الجسم البشري لأغراض طقوسية، الذي يناقشه سوينكا في هذه الرواية، هو استعارة عن تعفّن المجتمع النيجيري. إن فكرة تحويل الجسم البشري إلى سلعة ليست جديدة في أعمال سوينكا.  سبق له في "أوبرا أونيوسي"، وهي إعادة كتابة لأوبرا "الثلاثة بنسات" لبرتولت بريشت، أن استحضر أغنية عن رجال متورطين في الاتجار بأعضاء الجسم البشري لصنع تعويذات.  فهذه الممارسة التي أدانها سوينكا في السبعينيات، تمثل شرا اجتماعيا حقيقيا، وما زالت وسائل الإعلام المحلية تتحدث عنها بانتظام.  لكن، في هذه الرواية، فإن العمل القذر لما يسميه المؤلف بشكل ساخر" الموارد البشرية" يصبح شركة حقيقية، على رأسها جمعية سرّية مكونة من شخصيات سياسية رفيعة المستوى. ويمكن بالفعل أن يُقرأ هذا الاتجار بالأعضاء البشرية باعتباره استعارة للانحدار الاجتماعي الذي لفت سوينكا الانتباه إليه في أعماله الأولى، وخاصة في روايته الشهيرة "المفسّرون".  

 

تناقضات صارخة

إن صورة نيجيريا التي يقدّمها الكاتب تبدو مبالغا فيها، خصوصا مع تدفق الثروة النفطية الذي سمح بتفشي التبذير وطغيان المادية، ما سمح للكاتب أن يتخذها خلفية ترتسم عليها الكثير من المواضيع المثيرة للجدل. ومع ذلك، فإن التناقضات في أحوال وظروف الدولة الواقعة في غرب إفريقيا، هي أقرب إلى الواقع من ما قد يتصورّه كثيرون.  إذ تظهر الثروة الهائلة والفقر المدقع بوضوح جنبا إلى جنب، ويمكن رؤية الدعاة على الرصيف وهم يلقون خطبا خارج الكنائس الكبرى. وهنا أيضا، يكشف سوينكا عن الانقسامات بين الشمال والجنوب، الصحراء والغابات، النقاء والفساد، الشهرة والعار. وما يبدو كأنه سخرية مبالغ فيها إلى حدّ كبير، هو مجرد مرآة للمجتمع النيجيري. وبدلا من كونه رسما كاريكاتوريا ساخرا، فإن الكتاب في مجمله عبارة عن "وقائع" تاريخية كما هو واضح من العنوان.

شرح وول سوينكا أخيرا، خلال إحدى المقابلات الصحفية، سبب تحوّله إلى الرواية بدلا من المسرح، بعد نصف قرن من إصدار آخر رواية، ولخص ذلك أنه أراد بذلك إدانة الفظائع التي ترتكب في المجتمع النيجيري: "منذ مدّة، شهدنا جولات من الفظائع. أنا لم أعد أعرف المجتمع الذي نشأت فيه، على الرغم من أنه المكان الذي استمدت منه قوتي الإبداعية. لقد حان الوقت لأن أواجه هذا المجتمع بطريقة أكثر صرامة مما فعلت في المسرح، على سبيل المثال. هذه الرواية هي عصارة عقود من الزمن أردت خلالها أن أعبر بشدة عن أشياء معينة". وفعلا، تبدو "وقائع بلاد أسعد الناس في العالم" مثل هجائية أخيرة من هذا الكاتب المتفرد الذي بلغ عامه 89 في يوليو/ تموز الماضي.

عاش أكينواندي أوليوولي باباتوندي سوينكا، المعروف باسم وول سوينكا، حياة غير عادية. ولد في نيجيريا الاستعمارية البريطانية في أبيوكوتا (حوالي 48 ميلا شمال لاغوس) في عام 1934، وحصل على تعليم محلي قوي حيث اكتشف موهبته ككاتب في وقت مبكر.  وفي سن 18 عاما، تخرج من الكلية. وانتقل في سن 20 إلى المملكة المتحدة للدراسة في جامعة ليدز. وأثناء التحاقه بالجامعة أصبح شخصية أدبية معروفة وساعد في ترسيخ صوت غرب أفريقيا في الأدب الإنكليزي من خلال إنتاج العديد من المسرحيات المهمة.

يكشف سوينكا عن الانقسامات بين الشمال والجنوب، الصحراء والغابات، النقاء والفساد، الشهرة والعار. وما يبدو سخرية مبالغا فيها إلى حد كبير، هو مجرد مرآة للمجتمع النيجيري

عندما عاد إلى نيجيريا في أوائل الستينات، أسّس رابطة الدراما في نيجيريا واستخدم أستاذيته في جامعة أوبافيمي أوولوو منصة لتحدي حكومة نيجيريا المستقلة حديثا بشأن العديد من السياسات، أبرزها الرقابة. وقد نشطت احتجاجاته في منتصف الستينات، وبلغت ذروتها بسجنه لمدة عامين تقريبا بتهمة دعم التمرّد في حرب بيافران الأهلية. وعلى الرغم من منعه من أدوات الكتابة، يُعتقد أنه ظلّ قادرا على كتابة العديد من الأعمال التي تنتقد الحكومة النيجيرية أثناء وجوده في السجن.

في عام 1994، فرّ بصورة دراماتيكية من نظام الجنرال أباتشا على ظهر دراجة نارية، مغتربا أولا في باريس، ثم بعد ذلك غادرها إلى الولايات المتحدة، حيث أصبح أستاذا للدراسات الأفريقية والمسرح في جامعة كورنيل في إيثاكا، نيويورك. وبعد وفاة أباتشا عام 1998، عاد سوينكا إلى نيجيريا. ووفاء منه لتاريخه النضالي، أحرق سوينكا بطاقته الخضراء، عندما فاز ترامب بالانتخابات الأميركية.

font change

مقالات ذات صلة