بيروت ومعارض الكتب: الثقافة على وقع السياسة

بين التنافس التجاري والانقسام الهويّاتي

Getty Images
Getty Images
الدورة الـ63 لمعرض بيروت الدولي والعربي للكتاب في بيروت، لبنان في 3 مارس 2022.

بيروت ومعارض الكتب: الثقافة على وقع السياسة

بيروت: في ظاهرة أثارت جدالا في الأوساط الأدبية والثقافية، تشهد العاصمة اللبنانية بيروت إقامة معرضين للكتاب تفصل بينهما 5 كيلومترات و30 يوما لا أكثر. الأول من تنظيم "نقابة اتحاد الناشرين اللبنانيين" بدعم ورعاية وزارة الثقافة، ويحمل اسم "معرض لبنان الدولي للكتاب" ويقام في مبنى "فوروم دو بيروت" شرق العاصمة اللبنانية من 13 الى 22 أكتوبر/تشرين الأول الجاري، ويقول منظموه إنه المعرض الرسمي للكتاب.

أما الثاني، الأشهر والأكثر عراقة، فهو من تنظيم "النادي الثقافي العربي" بدعم ورعاية رئيس الحكومة اللبناني، ويحمل اسم "معرض بيروت العربي الدولي للكتاب"، وتقام دورته الـ65 في مركز "سيسايد" في الواجهة البحرية للعاصمة اللبنانية من 23 نوفمبر/تشرين الثاني، حتى 3 ديسمبر/كانون الأول 2023.

لا ريب في أن إقامة تظاهرتين ثقافيتين يعدّ أمرا محمودا ومرغوبا بشدة، ولا سيما في ظل التهاوي المستمر لأعداد القراء ورواد الأدب على اختلاف أجناسه وألوانه، وتراجع مكانة الكتاب والورق بصورة إجمالية لصالح التكنولوجيا الرقمية والعوالم الذكية على اختلاف أدواتها. بيد أن فكرة إقامة معرضين جامعين في بلد صغير مثل لبنان يعاني أزمات معقدة، كانت محل انتقاد واسع، لا سيما أن كلا الطرفين المنظمين كانا يشتركان على الدوام في تنظيم "معرض بيروت العربي الدولي للكتاب".

كانت فكرة إقامة معرضين جامعين في بلد صغير مثل لبنان يعاني أزمات معقدة، محل انتقاد واسع، لا سيما أن كلا الطرفين المنظمين كانا يشتركان على الدوام في تنظيم "معرض بيروت العربي الدولي للكتاب"


فبين الأهداف المادية والأبعاد الهوياتية الثقافية التي تطفو على سطح النقاشات في لبنان، هل يعكس إقامة معرضين للكتاب ثراء وتنوعا ثقافيين، أم يعبر عن عمق الشروخ والأزمات اللبنانية وبلوغها أعتاب الثقافة؟

 

بيروت تطبع

ثمة مقولة ذاع صيتها كثيرا في العالم العربي ونسبت الى الأديب المصري طه حسين تقول: "القاهرة تكتب وبيروت تطبع وبغداد تقرأ". بمعزل عن هوية قائلها ومدى انطباقه على أرض الواقع، كان اللبنانيون يعتزون على الدوام بهذه المقولة التي تثبت ريادة بيروت الثقافية منذ القرن التاسع عشر، حيث كانت أحد مراكز النهضة العربية في ذاك القرن. ثم عادت بيروت وصنفت عاصمة للثقافة العربية في ستينات القرن الماضي، حينما تحولت موئلا للأدباء والشعراء والكتاب، ومنبرا للصراعات الفكرية العميقة بين اليسار واليمين، والتيار العروبي والتيار التغريبي، أثرى الثقافة العربية بإنتاج فكري غزير، وشكل الإرث الثقافي الذي لا تزال بيروت تتغنى به وتحلم بإعادة انبعاثه.

في الستينات ازدهرت في بيروت الصحافة ودور النشر التي كان عددها يزداد باضطراد، لمواكبة ما يعرف بالنهضة الثقافية العربية المعاصرة. في ذاك العصر الذهبي المفعم بالتنوع وحرية الفكر في لبنان، صارت بيروت المدينة التي يتطلع اليها المثقفون من كتاب وشعراء وروائيين لنشر أعمالهم. كذلك أضحت النافذة التي يطل من خلالها القراء على الآداب الأجنبية من خلال الإنتاج الغزير لدور النشر الكثيرة. فيها طبع الأديب العالمي نجيب محفوظ روايته الشهيرة "أولاد حارتنا" بعدما منعت من الصدور في مصر، فنشرتها "دار الآداب" اللبنانية عام 1962.

Getty Images
الدورة الـ63 لمعرض بيروت الدولي والعربي للكتاب في بيروت، لبنان في 3 مارس 2022.

يبين الكاتب والروائي والديبلوماسي اللبناني خالد زيادة أن "دار الآداب التي تأسست عام 1953 أصبحت علامة من علامات الثقافة والكتاب في لبنان، إذ استقبلت إنتاج الأدباء والشعراء، وعرفت القراء بالأدب الجزائري المكتوب بالفرنسية والمترجم الى العربية. وتخصصت بنشر أعمال الوجوديين الفرنسيين جان بول سارتر وسيمون دو بوفوار والبر كامو".

يشير زيادة في مجموعة مقالات له عن تلك الحقبة الذهبية الى "ظاهرة الأدب النسائي التي ازدهرت بعدما أفسحت دور النشر المجال لكاتبات وروائيات. فكانت أولى الكاتبات إميلي نصر الله التي نشرت روايتها "طيور أيلول" عام 1962 والتي ترجمت الى لغات عدة". نصرالله روائية غزيرة الإنتاج أفردت جزءا واسعا من أعمالها لأدب الأطفال. "وفي العام نفسه، نشرت "دار الطليعة" رواية "عيناك قدري" للأديبة والروائية السورية غادة السمان، فكان لها دوي كبير في الصحافة اللبنانية"، وتحولت السمان الى ظاهرة أدبية لا تزال تثري الأدب العربي حتى يومنا هذا.

من تلك الحقبة الذهبية أيضا، إنما من عالم الصحافة، خرجت ظاهرة الأديب اللبناني العالمي أمين معلوف الذي احتفى به الفرنسيون والعرب منذ أيام قليلة لمناسبة انتخابه أمينا عاما للأكاديمية الفرنسية لمدى الحياة، وهو أول شخص غير فرنسي يتقلد هذا المقام الأدبي والثقافي الرفيع. يقول زيادة "في ذلك الزمان كانت بيروت حلما لكل من يريد أن يخوض تجربته الإبداعية. قطع الشاعر العراقي سركون بولص الصحراء سيرا ليصل الى بيروت وينشر قصائده".

بيد أن ذلك العصر اندثر بسبب الحرب الأهلية اللبنانية (1975-1990). في التسعينات بعدما وضعت الحرب أوزارها، حاولت بيروت استرجاع ماضيها الثقافي التليد، لكن عوامل عديدة أعاقت حصول ذلك. أهمها التطور التكنولوجي والرقمنة، ودعم وتشجيع الحكومات الخليجية لإقامة معارض ومناسبات ثقافية في الرياض وأبوظبي ودبي والدوحة، أفسحت مجالا واسعا للإبداع والإنتاج الأدبي الذي بات صعب المنال في بيروت، وإسناد دور النشر ماليا كي تستمر في إثراء الثقافة العربية بإنتاج غزير وعدم التفكير في الجوانب المادية التي قد تدفعها الى الشح الإنتاجي أو حتى الإقفال. بقيت من ذلك العصر دور النشر اللبنانية التي ينوف عددها على 500، ولا تزال تنشط في الإنتاج العربي.

 

بين النادي والاتحاد

تأسس "اتحاد الناشرين" في لبنان عام 1947. وتحول الى نقابة تحمل اسم "نقابة اتحاد الناشرين في لبنان" في ديسمبر/كانون الأول 1972، بهدف "حماية المهنة والدفاع عن مصالح الناشرين". حسب الاتحاد، تصدر دور النشر اللبنانية نحو 2700 كتاب سنويا، بما في ذلك الكتب المترجمة، أي أن لبنان وحده ينتج نحو 30 % من مجموع العناوين الصادرة في الدول العربية الذي يبلغ 8500 عنوان.

المهم أن يستطيع هذان المعرضان استقطاب وكالات ودور نشر عربية ودولية. أما إذا كان الهدف هو تقاسم القراء القلائل في لبنان، فيصبح كلا المعرضين عبارة عن مهرجان استعراضي لا أكثر


حسن داود

في حين تأسس "النادي الثقافي العربي" عام 1944، أي بعد سنة واحدة من استقلال لبنان عن فرنسا، على يد نخبة تنتمي فكريا وسياسيا الى التيار القومي العربي بهدف المساهمة في إثراء الحياة الثقافية اللبنانية والعربية. خفت نشاط النادي بسبب تفرّق المؤسسين. لكن تداعيات النكبة الفلسطينية عام 1948، وتصاعد المد القومي العروبي، أثمرا عما يعتبره المؤسسون الولادة الثانية للنادي، التي كانت ثمرة انخراط ناشطي التيار العروبي في الخمسينات في معركة المد القومي.

فكر النادي في الوسيلة الفضلى التي يمكن تقديم الثقافة عبرها لتطال جميع الشرائح المجتمعية ولا سيما ذات الإمكانات المالية المتواضعة، وأقاموا "معرض بيروت للكتاب" في أبريل/نيسان عام 1956، في قاعة "وست هول" بالجامعة الأميركية في بيروت، الذي كان أول معرض عربي للكتاب على الإطلاق. واستمرت هذه الظاهرة بلا انقطاع لنصف قرن. يفتخر النادي الثقافي العربي بأنه حول المعرض من سوق لبيع الكتب الى مهرجان ثقافي عربي استضاف نجوم الأدب والفكر وأقام نشاطات ثقافية متنوعة.

بدأت الشراكة بين "النادي الثقافي العربي" و"نقابة اتحاد الناشرين" عام 1992، الذي بدوره نظم معارض للكتاب بشكل منفصل، واستمرت حتى السنة الماضية، وإن شاب العلاقة بينهما خلال هذه السنوات بعض الخلافات والاختلافات. تصاعدت أنباء الاختلاف بين النادي والاتحاد مطلع سنة 2022، بسبب سوء التنسيق حسبما صرح المسؤولون في كلا الجانبين. فقد أصر "النادي الثقافي العربي" على إقامة دورتين لمعرض الكتاب في سنة واحدة لتجاوز الاحتجاب القسري بسببب وباء كوفيد19 وانفجار مرفأ بيروت عام 2020 الذي طالت آثاره القاعة حيث يقام المعرض السنوي الموحد. لم يرحب اتحاد الناشرين بذلك، وأرجعت رئيسته سميرة عاصي السبب إلى رفض دور النشر المشاركة بسبب ارتباط أكثرها بالمعارض العربية للكتاب وهنا بيت القصيد.

فدور النشر اللبنانية لم تكن لتبقى صامدة في وجه العواصف العاتية لولا الدعم الخليجي المباشر، فضلا عن المشاركة في معرض الرياض الدولي، ومعرض أبوظبي الدولي، ومعرض الشارقة، ومعرض مسقط، حيث تحظى بتسهيلات كبرى تصل الى حد الدعوة المجانية، وبنسبة مبيعات مرتفعة للكتب لا يمكن الحصول على ربعها في لبنان. وذلك بفضل السياسات الحكومية المطبقة في تلك المعارض لتعزيز ثقافة القراءة من خلال المواءمة بين المناهج التعليمية والإنتاج الثقافي. علاوة على الدعم المادي من دول الخليج لكل من النادي الثقافي العربي واتحاد الناشرين للغاية نفسها. هذا الدعم كان له الدور الأكبر في استمرار ظاهرة معرض الكتاب في بيروت، حيث تدفع بعض الجهات الخليجية المشاركة مبلغا كبيرا يتجاوز بكثير الرسوم المقررة كبدلات مادية لكل جناح في المعرض.

 

معرض فرنكوفوني ومعارض مناطقية

لم يكن النشاط الثقافي قاصرا على معرض بيروت العربي الدولي للكتاب. فهناك معارض للكتاب تقام سنويا في العديد من المدن والبلدات اللبنانية، إنما تبقى المشاركة فيها محدودة ويغلب عليها طابع المناسبة الجامعة للقاء المثقفين والنخب. كذلك كان هناك معرض للكتاب الفرنكوفوني يقام بانتظام لنحو 3 عقود بدعم من السفارة الفرنسية، نظرا إلى كون لبنان واحدا من الدول الفرنكوفونية. لكنه توقف عام 2018، واستعيض عنه بمعرض وفق نمط جديد لا مركزي، يحظى بدعم حكومي فرنسي في محاولة للحفاظ على الثقافة الفرنكوفونية في لبنان من الاندثار.

يمتاز هذا المعرض الذي تعثرت انطلاقته السنة الماضية بسبب حملة من وزير الثقافة تتهمه بالتشجيع على التطبيع مع إسرائيل، وانطلق هذه السنة في 2 أكتوبر/تشرين الأول الحالي، ويستمر سبعة أيام، بإقامة 80 نشاطا في 31 موقعا في مختلف المدن اللبنانية، حسبما صرحت مديرة "المعهد الفرنسي" سابين سيورتينو. كما يمتاز بتقديم الكتب بأسعار تشجيعية تراعي أوضاع اللبنانيين من ضائقة مالية واجتماعية، ولا سيما طلاب الجامعات وتلاميذ المدارس الذين يعدّون أبرز المستهدفين. معرض آخر من تنظيم الحركة الثقافية – انطلياس (شرق بيروت) الذي يقام في مارس/آذار.

مدينة مثل بيروت جمهورها معروف ومحدود لا يحتمل إقامة معرضين. هذا البلد منقسم ويتجسّد هذا الانقسام في المعرضين، والذي يدفع الثمن هو الجمهور ودور النشر


فاطمة بيضون

بيد أن الأهمية كانت تتركز على الدوام على المعرض السنوي الذي ينظمه "النادي الثقافي العربي" انطلاقا من إرثه الثقافي العريق، واستقطابه لدور النشر اللبنانية العربية والأجنبية وخاصة الفرنسية. لذلك كان يعد المعرض المركزي للكتاب في لبنان أو المعرض الجامع. سئل الطرفان أي النادي والاتحاد عن سبب تفرقهما وإقامة معرضين للكتاب، فكان كل طرف منهما يحرص في تصريحاته على عدم الغوص كثيرا في الأسباب، والاكتفاء باتهام الفريق الآخر بالتفرّد وعدم التنسيق. بين هذا وذاك، جرت أقاويل كثيرة، بعضها يعزو الانفصال الى أسباب مادية حصرا، وبعضها الآخر يعزوه الى عوامل هوياتية ثقافية.

 

تقاسم القراء القلائل

حسب المعلومات المستقاة من بعض دور النشر، فإن أصل الخلاف يتمحور حول العوائد المادية لمعرض الكتاب عن بدلات إيجار الأجنحة المقدرة بالمتر. هذه العوائد كانت تقسم مناصفة بين الجهة المنظمة، أي "النادي الثقافي العربي"، وإدارة المكان الذي يحتضن المعرض. وكان القيمون على النادي يمنحون "نقابة اتحاد الناشرين" نسبة 5 % من هذه العوائد، جرى رفعها الى 7 % في السنة الماضية إثر الخلاف الذي نشب بينهما، والذي كاد أن يؤدي الى انسحاب الاتحاد من المشاركة. لذا اختار الاتحاد تنظيم معرض للكتاب لا يشاركه في عوائده أحد. وتكمن المفارقة في أن أغلب دور النشر التي اعتادت المشاركة في معرض الكتاب السنوي سابقا ستشارك في كلا المعرضين، بعضها انطلاقا من عضويتها في "نقابة اتحاد الناشرين"، وبعضها الآخر اتخذ قرارا بالمشاركة لئلا يكون طرفا لا مع هذا ولا ذاك.

يعتبر الأديب والروائي اللبناني حسن داود أن إقامة معرضين للكتاب يعبر عن تنوع ثقافي وعن أزمة ثقافية في الوقت عينه "فكلما زادت المناسبات الثقافية الجامعة، كان ذلك أمرا جيدا. لكن الشائع في البلد الواحد أن يكون هناك معرض كتاب مركزي واحد في العاصمة ينصب التركيز عليه". يضيف داود "إجمالا كان دائما في لبنان أكثر من معرض واحد للكتاب، فهناك معرض الحركة الثقافية في أنطلياس، والمعرض الفرنكوفوني وغيرهما. ومن المهم بالنسبة إلى بلد مثل لبنان يعاني من أزمات متعدّدة إقامة معارض للكتاب في مدن مختلفة، بما يحفز الناس في تلك المدن على المشاركة أكثر ويزيد حجم الاستقطاب". ويختم داود "المهم أن يستطيع هذان المعرضان استقطاب وكالات ودور نشر عربية ودولية. أما إذا كان الهدف هو تقاسم القراء القلائل في لبنان، فيصبح كلا المعرضين عبارة عن مهرجان استعراضي لا أكثر".

Getty Images
الدورة الـ63 لمعرض بيروت الدولي والعربي للكتاب في بيروت، لبنان في 3 مارس 2022.

أما مديرة "دار رياض الريس" فاطمة بيضون فتعتبر أن إقامة معرضين للكتاب يعكس أزمة عميقة ويكرس الانقسام البنيوي في لبنان "مدينة مثل بيروت جمهورها معروف ومحدود لا يحتمل إقامة معرضين. هذا البلد منقسم ويتجسّد هذا الانقسام في المعرضين، والذي يدفع الثمن هو الجمهور ودور النشر". وتشير بيضون إلى "التراجع الهائل لمدينة بيروت في القطاع الثقافي، لكننا نصر على المشاركة من باب إثبات الوجود. وهذه هي حال أغلب دور النشر التي لم تكن لتصمد لولا الدعم الخليجي وإعفاء الناشرين في المعارض التي تقيمها من إيجار الأجنحة".

 

غياب التخطيط

تخلص بيضون الى أن معرض الكتاب أضحى بمثابة "مناسبة اجتماعية يلتقي فيها المثقفون، وباب رزق لمن ينظمونه". وهذا ما تشاركها فيه الروائية اللبنانية ومديرة "دار الجديد" للنشر رشا الأمير، شقيقة لقمان سليم الذي اغتيل بسبب آرائه السياسية، وتزيد أن "كل معارض الكتاب فشلت فشلا ذريعا بسبب غياب السياسات الحكومية والتربوية والثقافية الهادفة الكفيلة باستقطاب طلاب الجامعات من خلال إدخال الكتب والروايات والإنتاج الثقافي بشكل منظم في المناهج التعليمية مثلما هي الحال في فرنسا والدول الأوروبية. الكتاب هو قيمة وليس سلعة، وفي ظل الفوضى العارمة في لبنان ودول الجوار انحسر الاهتمام بالكتاب".

وتلفت الأمير الى امتناعها عن المشاركة في السنة الماضية، وكذلك السنة الحالية "فكرت مليا لماذا أساهم في صندوق إحدى أهم مشاكله عدم شفافيته. الاشتراك في المعرض مكلف ولن يرد استثماره. مواردنا محدودة والأولى تخصيصها للموظفين لدينا، ولتعزيز ثقافة القراء لدى الشباب خارج فكرة المعارض والأطر التقليدية". الجدير بالذكر أن "دار الجديد" تقيم مناسبات ثقافية بشكل منتظم، وتوزّع على الدوام كتبا بالمجان، ولديها تطبيق الكتروني فيه باب "إقرأ كتابك، الكتب بالمجان"، وذلك بهدف نشر الوعي والثقافة وهذه كانت الرسالة التي أرادها لقمان سليم وسعى من أجلها طيلة حياته.

لماذا أساهم في صندوق إحدى أهم مشاكله عدم شفافيته. الاشتراك في المعرض مكلف ولن يرد استثماره. مواردنا محدودة والأولى تخصيصها للموظفين لدينا، ولتعزيز ثقافة القراء لدى الشباب


رشا الأمير

في المقابل، يقول أنطوان سعد، مدير دار "سائر المشرق" إن "فكرة إقامة معرضين للكتاب لا يفصل بينهما سوى شهر واحد ليس فيها أية إيجابية، ولا تعكس تنوعا ثقافيا". كما أنها في الوقت نفسه لا تعبر عن أزمة ثقافية "فلا يوجد تباين فكري أو قضايا خلافية تتعلق بأبواب الثقافة المطروقة في المعرضين، إنها أزمة على مستوى الحياة السياسية والفكرية في لبنان. كان ينبغي توحيد الجهود ومحاولة الحصول على ما يساعد الناشرين على خفض أسعار كتبهم الى أقصى حد ممكن كي يتمكن جميع أبناء الشعب اللبناني من اقتناء الكتب".

وينحي سعد باللائمة على المثقفين "أسطورة لبنان أو الريادة اللبنانية صنعتها الثقافة التي جعلت جيلا من اللبنانيين يساهم، وقد تكون المساهمة الكبرى، في إطلاق النهضة العربية. فالريادة الثقافية اللبنانية كانت سابقة لكل القطاعات التي برع فيها اللبنانيون. أعتقد أننا جميعا كمثقفين مقصرون في شرح وتفسير أهمية الثقافة للأجيال اللبنانية كافة، وتبيان ماذا فعلت الثقافة عبر التاريخ للبنان، وينبغي لنا إيلاء أهمية قصوى لهذا الأمر".

 

القارئ هو الحكم

من المفارقات أن رئيسة نقابة اتحاد الناشرين سميرة عاصي حينما سئلت السنة الماضية عن إمكان إقامة معرضين للكتاب، بعدما سرى خبر الخلاف مع النادي الثقافي العربي، كان جوابها أن "بيروت لا تحتمل معرضين للكتاب. صحيح أنها مدينة الثقافة، لكن عدد القراء في لبنان تضاءل بشكل كبير. وفي ظل الأزمة الاقتصادية والمعيشية الخانقة، أصبح اهتمام اللبنانيين منصبا على تأمين الحاجات الحياتية الأساسية".

الأمر الذي يدفع الى التساؤل عن الخلفيات الكامنة خلف قرار الانفصال وهل هي مادية بحتة، أم هناك عوامل أخرى تتداخل معها؟ فهل تريد نقابة اتحاد الناشرين سحب البساط رويدا رويدا من تحت أقدام النادي الثقافي العربي، وتعتبر نفسها "أم الصبي" والمعنية الأولى بإقامة معرض رسمي للكتاب بالشراكة مع وزارة الثقافة، كما صرحت عاصي؟

على كل حال لا يمكن تغييب الانقسام الهوياتي في العوامل التي أدت الى الانفصال. وعلى الرغم من تأكيد المسؤولين في النادي والاتحاد أن ذلك غير صحيح ولا ينسجم مع أفكار ونهج كل منهما، وحرصهما على التعدّدية والتنوع الفكري، إلا أن الانقسام الهوياتي مكرّس شكلا على الأقل. فإقامة نقابة اتحاد الناشرين معرضا للكتاب منفصلا عن المعرض السنوي المعتاد أتى بقرار من وزير الثقافة، وهو يمثل حركة "أمل" و"حزب الله" في الحكومة، ورئيسة نقابة اتحاد الناشرين تنتمي الى الإطار الهوياتي نفسه، وكذلك الاتحاد غير بعيد عنه.

أما النادي الثقافي العربي فمعرض الكتاب الذي ينظمه سنويا يجري في رعاية رئيس الحكومة، وإدارته تنتمي الى الإطار الهوياتي نفسه لرئيس الحكومة. حتى أن رئيسة النادي هي السيدة سلوى السنيورة بعاصيري، شقيقة رئيس الحكومة الأسبق فؤاد السنيورة. وفيالمناسبة خرج من رحم النادي ثلاثة رؤساء حكومات: رفيق الحريري، وسليم الحص، وفؤاد السنيورة، وعدد من النواب والوزراء، وسياسيون عرب تسلموا مناصب رفيعة في بلدانهم.

أبعد من ذلك، هناك أطراف يؤكدون البعد الهوياتي الحاضر في خلفيات الانقسام، ويشيرون الى صورة قائد فيلق القدس قاسم سليماني التي رفعت فوق بعض دور النشر في معرض الكتاب في مارس/آذار 2022، والتي تسبّبت بإشكال أدى في نهاية الأمر الى انسحاب دور النشر هذه من النسخة التالية للمعرض في ديسمبر/كانون الأول 2022. في الإجمال لا يمكن عزل الانقسام الهوياتي المزمن عما حصل بمعزل عن حجم مسؤوليته في ذلك، فالصراع الهوياتي حاضر على الدوام في أدبيات الخطاب اللبناني، النخبوي منه والشعبوي على حد سواء.

font change

مقالات ذات صلة